إيفان بونين - الدروب الظليلة.. ترجمة الأستاذ الكبير: عبدالله حبه .

في جو خريفي ملبد بارد، وفي إحدى الطرق الكبرى بمحافظة تولا، التي غمرتها مياه الأمطار وشقتها خطوط سوداء من آثار العجلات الكثيرة، اقتربت من بيت ريفي طويل تشغل قسم منه دائرة البريد الحكومية، والقسم الآخر حجرة ضيافة يمكن فيها نيل قسط من الراحة أو المبيت، وتناول الغداء أو احتساء شاي السماور، اقتربت بسرعة عربة ملطخة بالأوساخ، وغطاؤها نصف مرفوع، تجرها ثلاثة خيول غير أصيلة، رُبطت ذيولها لاتقاء الأوحال، وجلس في مقعد الحوذي رجل قوي البنية يرتدي معطفا رُبط عليه الحزام بشدة، عبوس قاتم الوجه، بلحية سوداء غير كثة، يشبه قطاع الطرق في الأيام الغابرة، وفي العربة جلس عسكري عجوز منتصب القامة، يرتدي قبعة كبيرة، ومعطفًا عسكريًا رمادي اللون، من طراز عهد القيصر نيقولاي بياقة عالية من فرو القندس، وحاجباه ما برحا أسودين، لكنه بشاربين أبيضين التحما مع فودين مثلهما، وذقنه حليقة، وكل هيئته تنم عن شبه بالقيصر الكسندر الثاني، وهو النمط الذي شاع في أواسط العسكريين في عهده، ونظراته كانت متسائلة أيضًا وصارمة، وفي الوقت ذاته كليلة. حين توقفت الخيول مد من العربة ساقًا بجزمة عسكرية ملساء، وهرول نحو سطحة البيت ماسكًا طرفي معطفه بيديه ذواتي القفازين المصنوعين من جلد الغزال.
وصرخ الحوذي بفظاظة من مقعده:
- يسار، يا صاحب السعادة.
أما هو فدلف إلى المدخل، مطأطئ الرأس قليلاً عند العتبة بسبب طول قامته، ثم دخل حجرة الضيافة في الجهة اليسرى.
كان الجو في الحجرة دافئًا وجافًا ونظيفًا، ثمة أيقونة مذهبة حديثة الصنع في الركن الأيسر، وتحتها مائدة عليها غطاء نظيف من قماش کتاني خشن، وحول المائدة مصطبات مغسولة نظيفة، وبدا موقد المطبخ الذي يشغل الركن الأيمن البعيد، ناصع البياض بطلائه الطباشيري، وفي مكان أقرب من الباب ثمة ما يشبه السرير تغطيه الحفة الرمادية، يسند ظهره إلى جانب الموقد، وفاحت من كوة الموقد الرائحة الحلوة لحساء الملفوف؛ حيث كان يغلي الملفوف ولحم البقر وورق الغار.
رمی الرجل القادم معطفه فوق المصطبة، وبدا ممشوق القوام أكثر ببزته وحدها وبالجزمتين، ثم نزع قفازیه والقبعة، ومد رأسه تعباً بيد معروقة شاحبة اللون، كان شعره الأشيب المنسدل على الفودين نحو طرفي عينيه مجعدا قليلا، وبانت هنا وهناك على وجهه الطويل الوسيم ذي العينين السوداوين آثار دقيقة للإصابة بالجدري، ولم يكن هناك أحد في حجرة الضيافة، فصاح بتقزز فاتحًا الباب المؤدي إلى المدخل:
- هيه، من هناك ؟!
ومن فورها دلفت إلى حجرة الضيافة امرأة سوداء الشعر، وسوداء الحاجبين أيضا، وجميلة جمالا لا يناسب عمرها، تشبه غجرية كهلة، وثمة زغب أسود على شفتها العليا وعلى امتداد خديها، وكانت خفيفة الحركة مع أنها بدينة، بصدر ناهد يبرز تحت قميصها الأحمر، وبطن مثلث كما لدى الأوزة يتدلى وراء تنورتها الصوفية السوداء.
فقالت:
-أهلا وسهلا يا صاحب السعادة، هل تتناولون الغداء أم تأمرون بإعداد السماور؟
ألقى الرجل القادم نظرة خاطفة إلى كتفيها المدورتين، وقدميها الخفيفتين ذواتي الخفين التريين العتيقين، ورد بصورة مقتضبة وبلا اكتراث:
- السماور، هل أنتِ ربة البيت أم خادمة؟
- ربة البيت، یا صاحب السعادة.
- إذا، تتولين بنفسك شؤون المنزل.
- بالضبط ، أنا نفسي.
- ولماذا؟ هل أنت أرملة لكي تديرين شؤونه وحدك؟
- لست أرملة يا صاحب السعادة، لكن ينبغي أن يكون لي مورد للرزق، ثم إني أحب إدارة الأعمال.
- طيب، طيب، هذا حسن. المكان عندك نظيف وأنيق.
كانت المرأة ترنو إليه طوال الوقت بنظرات ثاقبة مضيفة عينيها قليلا.
فردت قائلة:
- إني أحب النظافة، فقد شببت في بيت للسادة، وكان لا بد أن أتعلم آداب اللياقة والسلوك يا نيكولاي اليكسييفيتش.
استقام بسرعة، وجحظت عيناه و اصطبغ بالخمرة، وقال بعجلة:
- ناديجدا! أنت؟
فأجابت: أنا، يا نيكولاي اليكسييفيتش.
وقال وهو يجلس على المصطبة محققا فيها بإمعان:
- يا إلهي، يا إلهي! ما كان أحد ليتصور! كم عدد السنين التي مضت دون أن نلتقي؟ أظنها خمسة وثلاثين سنة؟
- ثلاثين، یا نيكولاي اليكسييفيتش. أنا الآن في الثامنة والأربعين وأنت في الستين أو نحوها، كما أظن؟
- شيء من هذا. يا إلهي، يا للعجب!
- ما العجب يا سيدي؟
-كل شيء، كل شيء، كيف لا تفهمين ذلك؟!
فارقه التعب وشرود الفكر، وصار يذرع الحجرة بحزم، متفرسا في أرضيتها، ثم توقف وأخذ يقول وقد توردت بشرته عبر الشعر الأشيب:
-إني لا أعرف عنك شيئا منذ ذلك الحين، وكيف جئت إلى هنا؟ ولمَ لم تبقي هناك عند السادة؟
- لقد أعتقني السادة بعد قليل.
- وأین عشت فيما بعد؟
- الحديث ذو شجون، يا سيدي.
- تقولين إنك ما تزوجت؟
- لا، لم أتزوج،
- لماذا؟ وكل ما كنت عليه من جمال؟
- لم أقدر على الزواج.
- ولماذا؟ ما الذي تلمحين إليه؟
-وهل هناك ما يتطلب الإيضاح؟ لا بد أنك تذكر كم أحببتك؟
فاحمر وجهه حتى اخضلت عيناه بالدموع، ثم أخذ يذرع الغرفة، عابس مرة أخرى.
وجمجم:
- كل شيء زائل يا صديقتي، الغرام، الشباب، كل شيء، كل شيء. إنها قصة مبتذلة و عادية، وكل شيء يمضي مع السنين. ما هو المكتوب في سفر أيوب؟ «كيف تستعيد ذكرى المياه الجارية».
- لكل إنسان ما قدر له الله، یا نيكولاي اليكسييفيتش، الشباب يمضي لدى الجميع، أما الحب فأمره مختلف.
رفع رأسه متوقفة، وضحك ساخرا وبألم:
-لكن ما كان بوسعك أن تحبنيي طول الدهر!
- حسنًا، كان بوسعي، ومهما توالت الأيام، كان يملأ حياتي شيء واحد، كنت أعرف أنك تبدلت منذ أمد بعيد، وفي تقديرك كما لو لم يحدث شيء، وها أنت، لقد فات الأوان للوم والعتاب الآن، لكنك وهذا حق- هجرتني بكل قسوة، - وما أكثر المرات التي عزمت فيها على الانتحار بسبب القهر وحده، إضافة إلى أمور أخرى لن أتحدث عنها؛ إذ جاء وقت كنت أدعوك فيه، یا نيكولاي اليكسيفيتش، باسم نيكوليكن[اسم تدليل]، وأنت أتذكر كيف كنت تدعوني؟ وكنت تتلو عليّ الأشعار عن «الدروب الظليلة». أضافت هذه العبارة بابتسامة خبيثة.
فقال هازًا رأسه:
- آه، كم كنت جميلة آنذاك ! ويا لهيامك وعنفوانك ويا لفتتنك! أي قد، وأي لواحظ! أتذكرين كيف كان يرمقك الجميع؟
- أتذكر يا سيدي، وأنت كنت وسيمًا جدًا أيضًا، وأنا وهبتك كل جمالي وهيامي. كيف يمكن نسيان هذا كله؟
- أوه! كل شيء يمضي، وكل شيء يُنسى.
- كل شيء يمضي، لكن لا يُنسى كل شيء.
فقال شائحا عنها بوجهه ومقتربا من النافذة:
- انصرفي، انصرفي أرجوك.
ثم أخرج منديله وضغط به على عينيه، وأردف مغمغما
- لو يسامحني الرب فقط، أما أنت فيبدو أنك غفرت لي ذلك.
دنا من الباب، ثم توقف.
- لا، يا نيكولاي اليكسييفيتش، لم أغفر لك، وما دام الحديث قد مس مشاعرنا، فإني أقول بصراحة: ما كان بوسعي أن أغفر لك ذلك أبدًا، وكما لم يكن لدي في تلك الأيام أحد أعز
عليّ في الدنيا منك، بقيت هكذا فيما بعد، ولهذا لا يجوز لي أن أصفح عنك، وما نفع الذكرى والأموات لا ينبشون من القبور؟
فأجاب مبتعدًا عن النافذة، وقد لاحت على وجهه الصرامة:
- نعم، نعم لا فائدة، أعطي الأمر بإعداد الخيول، إلا أنني أقول لك: لم أكن سعيدا في حياتي أبدًا، ولا تتصوري، رجاء، واعذريني إن كنت أسيء إلى عزة نفسك، لكني أقول بصراحة لقد كلفت بزوجتي إلى حد الجنون، إلا أنها خانتني، وهجرتني مهانة أكثر مما جلبت لي من إهانة، و أحببت ابني إلى حد العبادة حتى شب، وما أكثر ما علقت عليه من آمال! فإذا به سافل و مبذر وصلف وبلا شرف و بلا ضمير ... على أي حال، إنها قصة عادية جدا ومبتذلة أيضًا، مع السلامة يا صديقتي الطيبة، أظن أنني فقدت فيك أعز شيء في الحياة.
دنت منه و بينما لثمت يده، لثم هو يدها أيضا.
- أعطي الأمر.
حين ابتعدت العربة عن المكان صار يفكر بتجهم:
«نعم، يا لجمالها آنذاك ! ويا لسحرها!»
استعاد بشعور الخزي عبارته الأخيرة وكيف لثم يدها، وأصابه الخزي لخزيه من فوره، «وهل جافيت الحقيقة، أولم تهبني خيرة لحظات العمر؟».
مالت الشمس الشاحبة إلى المغيب، وكان الحوذي يستحث الخيول، وما برح يغير الخطوط السوداء لآثار العربات، منتقيًا الطريق الأقل قذارة، وقد غاص في أفكاره أيضًا.
- إنها يا صاحب السعادة كانت تراقبنا طوال الوقت من النافذة عندما غادرنا، هل عرفتموها منذ زمن بعيد؟
-نعم، يا کلیم.
-إنها امرأة ذكية، ويقال إنها تزداد ثراءا، و تقرض المال بالربا.
-هذا لا يعني شيئا.
- كيف لا يعني شيئا؟! فمن لا يود العيش أفضل! لو حكمنا الضمير، فلا ضير في هذا.
ويقال: إنها منصفة من هذه الناحية، إلا أنها صارمة! فإن لم تستطع الدفع في الوقت المطلوب فأنت الملام.
- بلی، بلی، أنت الملام، أسرع رجاء ؛ لكي لا نتأخر على القطار.
كانت الشمس الصفراء الجانحة إلى المغيب تثير فوق الحقول الجرداء، والخيول تغوص متخبط في برك الأوحال، تطلع إلى الحدوات ذات الوميض، ورفع حاجبيه السوداوين،
واستغرق في التفكير:
- نعم، أنت الملام. نعم، لا شك، خيرة اللحظات، وليست أفضلها فقط، بل إنها كانت ساحرة حقا!. « أزهار الورد البري متفتحه حواليك، وتمت الدروب الظليلة لأشجار الزيزفون...».
لكن، يا إلهي، ما الذي كان سيحدث لاحقًا؟ ماذا لو لم أهجرها؟ أية سخافة أن تصبح ناديجدا هذه صاحبة النزل، زوجتي، وربة بيتي في بطرسبورج، وأم أبنائي؟!»
وأغمض عينيه، وهز رأسه.

20 أكتوبر 1938


~تمت~

فلاديمير لينين - ليون تولستوي

لقد توفي ليون تولستوي, وإن أهميته العالمية كفنان وشهرته العالمية كمفكر وواعظ, تعكس كل منهما على طريقتها, الأهمية العالمية للثورة الروسية.
لقد برز تولستوي كفنان كبير منذ عهد القنانة, ففي عدد من مؤلفاته العبقرية التي كتبها خلال نشاطه الأدبي في فترة تزيد على نصف قرن, وصف على الغالب روسيا القديمة لما قبل الثورة التي ظلت حتى بعد عام 1861م في حالة نصف قنانة, روسيا القروية, روسيا الملاك العقاري والفلاح, إن تولستوي, إذ وصف هذه الحقبة التاريخية من الحياة الروسية, قد استطاع أن يطرح في مؤلفاته عدداً كبيراً من المسائل الهامّة, وأن يسمو إلى درجة من القدرة الفنية بحيث أن مؤلفاته شغلت إحدى المراتب الأولى في كنز الأدب العالمي.
إن عهد إعداد الثورة في أحد البلدان الرازحة تحت نير القنانة قد ظهر, بفضل عبقرية وصف تولستوي له, خطوة إلى الأمام في مضمار التطور الفني للإنسانية جمعاء.
إن تولستوي الفنان معروف لدى أقلية ضئيلة فقط حتى في روسيا, ولكي تصبح مؤلفاته العظيمة في متناول الجميع حقاً وفعلاً, لابد من خوض النضال الدائب ضد هذا النظام الإجتماعي الذي فرض على الملايين وعشرات الملايين من الناس حياة الجهل, والبلادة, والعمل الشاق والبؤس, لابد من الإنقلاب الإشتراكي.
وإن تولستوي لم يبدع مؤلفات فنية فحسب ستقدرها الجماهير وتقرأها دائماً عندما تخلق ظروفاً جديرة بالإنسان لحياتها بعد أن تطيح بنير الملاكين العقاريين والرأسماليين, بل إنه قد عرف أيضاً كيف يعكس بقوة رائعة الحالة الفكرية للجماهير الواسعة المظلومة من قبل النظام القائم, ويصف وضعها, ويعبر عن مشاعرها العفوية, مشاعر الإحتجاج والغضب, وأن تولستوي إذ يعود إلى الحقبة الواقعة بين 1861 وَ 1904 بشكل أساسي, قد جسّد في مؤلفاته – كفنان ومفكر وواعظ – ببروز مدهش وأصالة خاصة السّمات التاريخية التي تميزت بها الثورة الروسية الأولى بأكملها, بما فيها من قوة وضعف.
إن إحدى السّمات الرئيسية المميزة لثورتنا تتلخص في أنها كانت ثورة برجوازية فلاحية, حدثت في عهد بلغت الرأسمالية فيه درجة عالية جداً من التطور في العالم أجمع, ودرجة رفيعة نسبياً في روسيا, لقد كانت هذه الثورة برجوازية, إذ كانت مهمتها المباشرة هي الإطاحة بالأوتوقراطية القيصرية والملَلَكيّة القيصرية وتحطيم مُلكية الإقطاعيين للأرض, لا الإطاحة بالسيطرة البرجوازية, فما كان الفلاحون على وجه الخصوص يدركون هذه المهمة الأخيرة, ولايدركون مايميزها عن أغراض أقرب وأكثر مباشرة للنضال. وكانت هذه أيضاً ثورة برجوازية فلاحية لأن الظروف الموضوعية قد دفعت إلى المرتبة الأولى, مسألة تعديل الظروف الجذرية لحياة الفلاحين, مسألة هدم الشكل القديم القروسطي لملكية الأرض, مسألة ((تمهيد التربة)) للرأسمالية, لأن الظروف الموضوعية دفعت جماهير الفلاحين إلى حلبة النشاط التاريخي المستقل إلى هذا الحد أو ذاك.
ولقد انعكس في مؤلفات تولستوي ما لازم حركة الفلاحين الجماهيرية بالذات من قوة وضعف, من قدرة وضيق, وقد كان إحتجاجه الحار, المتحمس, والحاد بلا هوادة في بعض الأحيان على الدولة والكنيسة الرسمية البوليسية يعبر عن مزاج ديموقراطية الفلاحين البدائية التي كدست فيها قرون من القنانة, ومن تعسف الموظفين ونهبهم ومن اليسوعية الإكليريكية, ومن الأكاذيب والمخاتلات, جبالاً من الحقد العارم والغضب, إن رفضه الشديد للملكية الخاصة للأرض يعكس نفسية جماهير الفلاحين في تلك اللحظة التاريخية التي تبين فيها أن ملكية الأرض القديمة القروسطية, ملكية الملاكين العقاريين والملكية الرسمية القائمة على منح قطع الأراضي, أصبحت نهائياً عقبة لاتطاق بوجه تطور البلاد لاحقاً, وأنه لابد من هدم هذه الملكية القديمة للأرض بلاهوادة وبمنتهى الشدة والسرعة وأن فضحه الدائم للرأسمالية, بأعمق الشعور وأشد الإستياء, يفصح عن كل رعب الفلاح البطريركي الذي أخذ يزحف عليه عدو جديد خفي, غير مفهوم يأتي من مكان ما من المدينة أو من الخارج ويقوّض جميع ((دعائم)) الحياة الريفية ويحمل معه خراباً لامثيل له, والبؤس, والموت جوعاً, والعودة إلى الحالة المتوحشة, والدعارة, والسفلس, أي جميع نكبات ((عهد التراكم البدائي)) التي تفاقمت تفاقماً خطيراً بنقل أحدث طرائق النهب التي اخترعها السيد كوبون(264) إلى الأرض الروسية.
على أن هذا المحتج المتحمس, والمتهم المندفع, والناقد الكبير, قد أظهر في الوقت ذاته في مؤلفاته عدم فهم لأسباب الأزمة الزاحفة على روسيا ولوسائل الخروج منها, جدير بالفلاح البطريركي الساذج فقط, لابكاتب أوروبي الثقافة, إن الكفاح ضد الدولة الإقطاعية والبوليسية, وضد المَلكية قد تحوَل عنده إلى إنكار للسياسة, وأدى إلى مذهب ((عدم مقاومة الشر)), وانتهى به الأمر أن إبتعد إبتعاداً كلياً عن نضال الجماهير الثوري في سنوات 1905 – 1907. وقد جمع بين النضال ضد الكنيسة الرسمية والدعوة إلى دين جديد مصفى, أي إلى اسم جديد, مصفى من أجل الجماهير المظلومة, وكان إنكار الملكية الخاصة للأرض لايؤدي إلى تركيز النضال ضد العدو الحقيقي, وهو ملكية الملاكين العقاريين للأرض, وأداة سيطرتها السياسية أي النظام الملكي, بل إلى زفرات حالمة, غامضة, عاجزة, وجمع بين فضيح الرأسمالية والنكبات التي تعود بها على الجماهير وبين اللامبالاة التامة تجاه النضال التحرري العالمي الذي تخوضه البروليتاريا الإشتراكية العالمية.
إن التناقضات في وجهات نظر تولستوي ليست تناقضات فكره الشخصي وحده, إنما هي أيضاً إنعكاس للظروف والتأثيرات الإجتماعية, والتقاليد التاريخية المعقدة والمتناقضة بالغ التعقيد والتناقض والتي حددت نفسية مختلف الطبقات ومختلف أوساط المجتمع الروسي في الحقبة التالية للإصلاح ولكن السابقة للثورة. وعليه لايمكن تقدير تولستوي تقديراً صحيحاً من وجهة نظر تلك الطبقة التي برهنت, بفضل دورها السياسي ونضالها أثناء أول إنفجار لهذه التناقضات, أي خلال الثورة, على أن رسالتها, هي قيادة النضال في سبيل حرية الشعب وتحرير الجماهير من الإستغلال, وبرهنت على وفائها اللامتناهي لقضية الديموقراطية وقدرتها على خوض النضال ضد ضيق الأفق وإنعدام الإنسجام في الديموقراطية البرجوازية (بما فيها الديموقراطية الفلاحية), إن هذا التقدير غير ممكن إلا من وجهة نظر البروليتاريا الإشتراكية-الديموقراطية.
انظروا إلى تقدير تولستوي في الصحف الحكومية, إنها تذرف دموع التماسيح, مؤكدة احترامها ((للكاتب الكبير)), ومدافعة في الوقت ذاته عن السينودوس (المجمع)((المقدس))(265), في حين أن الآباء القديسين قد ارتكبوا للتو خسة بالغة الحطة, إذ أرسلوا الكهنة إلى تولستوي وهو يحتضر لكي يخدعوا الشعب ويقولوا أن تولستوي قد ((تاب)). لقد حرم المقدس تولستوي. شيئ حسن . فسوف تحسب هذه المأثرة لهذا المجمع عندما يصفي الشعب حسابه مع الموظفين بثياب الكهنة, ودرك يسوع, ورجال محكمة التفتيش اللئام الذين أيدوا مذابح اليهود وسائر مآثر عصابة ((المئة السود)) القيصرية.
وانظروا إلى تقدير تولستوي في الصحف الليبرالية, إنها تعمد إلى تلك الجمل الفارغة, الليبرالية الرسمية, المبتذلة, المطروقة, الجامعية. حول ((صوت الإنسانية المتمدنة)) وَ((الصدى العالمي الإجماعي))وَ((أفكار الحقيقة والخير)), إلخ. هذه الجمل التي كان تولستوي قد إنهال بسياط الإنتقاد –وبكامل الحق- على العلم البرجوازي لإستعماله إياها, إن الصحف الليبرالية لاتستطيع أن تعبر بكل وضوح وصراحة عن تقديرها لآراء تولستوي فيما يخص الدولة, والكنيسة, والملكية الخاصة للأرض, والرأسمالية –وليس ذلك لأن المراقبة تعيقها, فإن المراقبة, على العكس, تساعدها في التخلص من الورطة!- بل لأن كل موضوعة واردة في انتقاد تولستوي هي صفعة لليبرالية البرجوازية؛ -لأن مجرد طرح أقسى المسائل والعنها في عصرنا من قبل تولستوي بصورة سافرة وجريئة وحادة لاهوادة فيها تصفع الجمل المنمقة الجامدة, والأقوال المطروقة, والأكاذيب ((المتمدنة)) الملتوية التي تلجأ إليها صحافتنا الليبرالية (والليبرالية الشعبية), إن الليبراليين متحمسون كل التحمس لتولستوي, ومتحمسون كل التحمس ضد المجمع المقدس, وهم في الوقت ذاته يؤيدون ((الفيخيين))(266) الذين ((تمكن المناقشة)) معهم ولكنه ((يجب)) التعايش معهم في حزب واحد و ((يجب)) العمل معهم في الأدب والسياسة, أما الفيخيون فهم الذين يتلقون عناق انطوني فولينسكي.
إن الليبراليين يقدمون إلى مكان الصدارة الموضوعة القائلة أن تولستوي هو ((الضمير الكبير)). أليست هذه موضوعة فارغة ترددها بمختلف الأشكال صحيفة ((نوفوية فريميا)) (“الأزمنة الحديثة”) وأمثالها؟ ألايعني هذا تهرباً من المسائل الملموسة للديموقراطية والإشتراكية التي طرحها تولستوي؟ ألا يدفع هذا إلى المقدمة مايعبر عن أوهام تولستوي وليس عن عقله, ومايتعلق فيه بالماضي وليس بالمستقبل, بإنكاره للسياسة وتبشيره بتكامل ذاتي أخلاقي, وليس بإحتجاجه الشديد على كل سيطرة طبقية؟
لقد توفي تولستوي وغرقت في لجة الماضي روسيا ماقبل الثورة, روسيا التي انعكس ضعفها وعجزها في فلسفة هذا الفنان العبقري, ووصفتهما مؤلفاته, بيد أن في تركته مالم يغرق في لجة الماضي, بل يخص المستقبل, إن هذه التركة تأخذها بروليتاريا روسيا وتدرسها, ولسوف تشرح لجماهير الشغيلة والمستغَلين مغزى انتقاد تولستوي للدولة, والكنيسة, والملكية الخاصة للأرض –لا لكي تقتصر الجماهير على تكاملها الذاتي وعلى التأوهات وراء حياة حسب إرادة الله, بل لكي تنهض وتسدد ضربة جديدة للنظام الملكي القيصري وملكية الإقطاعيين للأرض اللذين لم يتم في 1905 إلا كسرهما كسراً خفيفاً واللذين لابد من القضاء عليهما نهائياً ولسوف تشرح للجماهير نقد تولستوي للرأسمالية لكي لا تقتصر الجماهير على لعن رأس المال وسلطة المال, بل لكي تتعلم الإعتماد في كل خطوة في حياتها ونضالها على المنجزات التكنيكية والإجتماعية للرأسمالية ولكي تتعلم أن تتجمع في جيش واحد متعدد الملايين من المناضلين الإشتراكيين الذين سيطيحون بالرأسمالية وينشئون مجتمعاً جديداً لا وجود فيه لبؤس الشعب ولا لإستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
“سوسيال – ديموقراط”, العدد18, 16(29) تشيرين الثاني (نوفمبر)1910م.


المصدر: (لينين: المختارات) – ترجمة: إلياس شاهين / دار التقدم – موسكو: الإتحاد السوفييتي 1976م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى