(١)
شعرت بالضيق حين عرفت بموت ثويبة، ليس لموتها، ولكن لأنني تذكرت ان اللحم كان في اللحم، ذلك اللحم الدافئ الذي سيبرد الآن ويتفسخ، ربما هذا ما جعلني لا أتذكر وجه كفاح حين اقترب مني، وجهه المشعر كالقرد، حتى أن ملامحه تختفي تحت شيبه المتكدس كاللباد مخفياً شبابه الضائع. ورغم إحراجي لكنه لم يرتبك، ذكرني بنفسه، فحاولت البحث عن مخرج آمن بكثير من اللعثمة. وحين وقفتُ أمام قبر ثويبة قررت أن أحلق له شعره.. عليه أن يتشذب، ليعود كائناً أقل تحطماً مما هو عليه.
كانت المقبرة ترابية، جافة ومتصدعة، والشمس ترهق الجثامين بحرارتها التي تنفذ إلى الأعماق. وهنا تذكرت تلك اللحظات الحميمة التي كان فيها اللحم في اللحم، العرق، والحيوية، النشوة، وتلك العفونة الصغيرة التي تمرق كخيط عنكبوت بين مسامات عطور الحب.
(٢)
تلاعبت بي الكوابيس كعادتها، واستيقظت في منتصف الليل لاجترع جرعات من الماء البارد، لكنه لم يك بارداً، فتذكرت أن الثلاجة معطوبة منذ يومين.
الساعة الثالثة صباحاً.. كانت ثويبة تعتقد في إشارات الساعة، وخاصة الحادية عشر وإحدى عشرة دقيقة. أربعة خطوط متوازية تفصل بين كل زوجين منها نقطتان أفقيتان. كانت تمد هاتفها وتتحدث عيناها الضاحكتان. ولم أكن أفهم شيئاً. "إنني أشعر بالذنب بلا سبب معقول" قلت بارتباك لنفسي، وحاولت استعادة النوم لكنني لم أفلح.
(٣)
من الوزارة اتجهت بقدمي نحو الجسر، كان تحته متحف عسكري، في مقدمته طائرة قديمة، لا تبدو طائرة عسكرية، ثم إلى الخلف قليلاً تقبع دبابة تم دهنها -بسذاجة- بلون أخضر ولماع فبدت كلعبة أطفال. كان المتحف خالياً تقريباً وأخبرني الشاب البائس الذي ينام على أريكة في غرفة الإستقبال المتهالكة بأن الصالات مغلقة ويمكنني أن أعاود الزيارة غداً. كان أكثر يأساً من كفاح لكنه مشذب الذقن والشارب والحاجبين. رغبتي لم تكن في رؤية الأسلحة، وإنما في طرد ذلك الشعور بالمقت لنفسي، فغادرت الصالة واتجهت إلى الجسر المحاط بالسياجات الفولاذية المتينة، حيث تحته مباشرة يرتمي النهر خامداً بسبب الصيف، لكنه كان أنظف منه في فصل الخريف، كانت ثويبة ترفض النزول فيه لأنه قذر. كانت تعتقد أنه نهر قذر..وكانت.. كانت تتخيل أن جثة متحللة ستطفوا من قعره الطيني اللزج فجأة.
أي لعنة تلك. ثم أطلقتُ سباباً لا أتذكره. ناظراً إلى السماء قلت: -ألا تكتفي؟
(٤)
كان شعرها يلتصق بخديها، ويتورد ما تبقى من الخدين رغم سمرة بشرتها، كانت تشع وهي مغمضة العينين. إبطاها نظيفان ودافئان، يتدفق الشحم البض من عضديها حين ترتخي كل خلية عصبية فيها. تفغر ثغرة بين شفتيها وتئز أنفاسها الحارة أزيزاً متقطعاً. تمشط شعري وظهري بحنان دافق. كانت كل مساماتنا تلتحم إلتحاماً فذاً..التحاماً عبقرياً.. ويبدو أنه لا نهاية للعالم الذي هو نحن. لكن العالم ينتهي، وحينها أشعر بأنه كان عالماً مزيفاً كمشاعري تجاهها. إنها الرغبة فقط. إن كل شيء ينقلب رأساً على عقب بل ويتبدل كما لو كنا داخل قبعة ساحر. أو لأكن أكثر صدقاً: كما لو كنت أناْ وحدي داخل قبعة ساحر. أما هي فكانت كالموت دائماً.
(٥)
تصفر الصراصير صفيراً متقطعاً مؤلماً، تنادي ذكور الضفادع إناثها بالنقيق الفخيم، ذلك النواح الحائم في جنح الليل كبوليس سري. تتحرك الغيوم، وتبدو مقهقة تحت ضوء القمر. ثم يتناثر رذاذ خفيف فيبدو كثقوب الرصاص فوق شواهد القبور المعتمة.
كانت الرطوبة تمتزج بالحر وتعصر العرق من جبينه وفوديه. غير أن كفيه ظلتا تنغرسان في الكومة الترابية وتفجها بسرعة وببطء، فهو بين التردد والعزم على وقف تلك الكوابيس. حتى انفرجت كوة صغيرة فاحت منها رائحة عفونة قاتلة.. كانت كفاه الكبيرتان تدقان بأناملهما على التراب وتزيح أكبر قدر منه، حتى باح ظلام القبر بهيكل وجه رمادي.. "هل هو وجهها".. كان في حيرة، وهو يحدق في ملامح لم يعرفها من قبل، ثم انفتحت عيناها فجأة وانسل منهمما خيط وميض أزرق امتص روحه من عينيه فصرخ. أدرك أنه داخل كابوس، وإن كان كل شيء يبدو حقيقياً. أمسك عنقه ليجبره على ضخ الهواء إلى الرئتين.. فانفتحت عيناه على سقف الغرفة.
(٦)
المكتب مؤسس بأثاث رخيص، الطاولة خالية إلا من كشكول متوسط الحجم لكتابة الوصفات الطبية، كوب شاي به أقلام حبر قديمة وهناك قلم واحد في وسط الطاولة الخشبية بنية اللون.
نهض الطبيب النحيل وفتح النافذة المطلة على الشارع فطار الضجيج منها إلى الداخل وبعض التراب.
- اعذرني.. فالكهرباء مقطوعة.. نحن نعيش في دولة بائسة كما لو كانت تخوض حرباً عالمية..
عاد وخلع الجاكيت الزيتي وفرده على ظهر كرسي الخشب، ثم جلس فوق الكرسي نفسه وأمسك بالقلم، لكنه ترك القلم فجأة وانحنى قليلاً وفتح درجاً على يساره مخرجاً منه ملفاً.
- هذه هي الجلسة الأولى لك؟
كان يقرأ في ورقة خالية من أي كتابة سوى ترويسة العيادة.
- هل ذهبت إلى طبيب من قبل؟
أجابه:
- لا..
بدأ الطبيب في تدوين كلام أكثر مما يتلقاه من إجابات، كتب كل ذلك باللغة الإنجليزية.
- مِمَّ تعاني؟
- كوابيس..
توقف الطبيب عن الكتابة ثم عاد ففتح الدرج وأخرج نظارة بإطار أسود.
- متى بدأت هذه الكوابيس؟
- منذ موت ثويبة.
- زوجتك؟
- لا..
لفهما الصمت، وبدا الطبيب كما لو كان متفهماً حين هز رأسه ببطء.
- كانت علاقة حب قوية؟
- لا.. على الأقل.. على الأقل ليس من طرفي أنا..
- كانت تحبك؟
- نعم..
- هل تبدو الكوابيس حقيقية إلى حد بعي؟د..
بكى وهو يقول:
- نعم.. وهذا هو ما يؤلمني..
- هل بت تخاف النوم؟..
- نعم..
- لا بد أنك تعاني أثناء النهار من التعب؟..
- هذا ما يحدث بالفعل..
واصل الطبيب الكتابة على ورقته بصمت، كتب الكثير من الفقرات، ثم اقتلع ورقة وهو يقول:
- سأكتب لك قرص ريسبيريدون واحد يومياً.. لكن الأهم من ذلك هو أن تتبع منهجاً استرخائياً قبل النوم.. عد لي بعد أسبوع ولن تدفع ثمن الزيارة الثانية.
قال هذه الجملة الأخيرة وهو يرفع عينيه ويحدق بهما في عينيه كما لو كان لصاً.
(٧)
التقيت به مرة أخرى فعرفته على الفور، نظرت في عينيه متفقداً ملامحه من خلف الشعر الكثيف. لكنه نظر لي بعدستين باردتين ومضى بحركة بطيئة.
هممت بإخراج ماكينة الحلاقة حين رأيته يشيح بوجهه ويغادر. علمت فيما بعد بأنه قد فقد عقله، وازداد شعر وجهه كثافة، ثم فقد ما يستره من ملابس وسار في رحاب الله لا يلوي على شيء.
مضى أسبوعان بلا ثويبة، فحلقت شعري أنا، حلقته بالكامل، شعر الراس والشارب واللحية وحتى الحاجبين والإبطين والعانة، وكأنما أحاول ولادة نفسي من جديد. الأشياء السيئة تأتي..الأشياء السيئة تذهب.. لذلك خرجت فرأيته في زقاق ضيق، كان ذكره منتصباً كآلهة قديمة، تقدم نحوي وهو يستمني.
- ابتعد..
ثم رفعت حجراً وهددته به لكنه لم يعبأ بل استمر.. قذفته بالحجر فأصابه ودميت عينه اليسرى، لكنه مع ذلك لم يتوقف.. بعدها طوقني من الخلف بذراعين قويين، ذراعا مجنون، وبدأ في خنقي. حاولت الإفلات منه لكنه لم يتوقف إلا حين صرخت..ورأيت سقف الغرفة..
دقت التاسعة صباحاً، الساعة المعلقة على الجدار، ثم دقت في العاشرة، ثم في الحادية عشر.. حينها أشارت لي الفتاة برأسها فدخلت عليه. وجدته يفتح النافذة، عاد وجلس ثم نظر نحوي وقال:
- من مات مرة أخرى؟
قلت:
- لم يمت.. لقد أصيب بالجنون..
قال:
- ستفقد الكثير ممن تحبهم..عليك أن تكون أكثر قوة من هذا.. لا يوجد بروتوكول يمنعني من نصحك بذلك..
(٨)
استلم جواز سفره الأزرق، جواز سفر بحري. وقال رئيس الطاقم:
- العمل في البحر شاق جداً خاصة في سفن الشحن.. الربان هنا ليس فقط قائد سفينة بل رجل القانون الأول.. مع ذلك فكل شيء يسير على ما يرام..
كان البحر شديد الكآبة، خاصة عند الفجر والغروب وهو يحاصر السفينة من كل اتجاه. النجوم تزداد لمعاناً وتشع كوجه ثويبة في تلك اللحظات الحميمة. يلف الكون نواح الموج كقرقعة معدة جائعة، ولا شيء في الأفق.
- هل سنصل إلى جزيرة الكنز؟
يسأل نفسه، ويرى في أحلامه جزيرة خالية من وجوه البشر. لا أحد ممن عرفهم، لا أحد ممن أحبهم.. فيشعر بالسلام..
(تمت)
شعرت بالضيق حين عرفت بموت ثويبة، ليس لموتها، ولكن لأنني تذكرت ان اللحم كان في اللحم، ذلك اللحم الدافئ الذي سيبرد الآن ويتفسخ، ربما هذا ما جعلني لا أتذكر وجه كفاح حين اقترب مني، وجهه المشعر كالقرد، حتى أن ملامحه تختفي تحت شيبه المتكدس كاللباد مخفياً شبابه الضائع. ورغم إحراجي لكنه لم يرتبك، ذكرني بنفسه، فحاولت البحث عن مخرج آمن بكثير من اللعثمة. وحين وقفتُ أمام قبر ثويبة قررت أن أحلق له شعره.. عليه أن يتشذب، ليعود كائناً أقل تحطماً مما هو عليه.
كانت المقبرة ترابية، جافة ومتصدعة، والشمس ترهق الجثامين بحرارتها التي تنفذ إلى الأعماق. وهنا تذكرت تلك اللحظات الحميمة التي كان فيها اللحم في اللحم، العرق، والحيوية، النشوة، وتلك العفونة الصغيرة التي تمرق كخيط عنكبوت بين مسامات عطور الحب.
(٢)
تلاعبت بي الكوابيس كعادتها، واستيقظت في منتصف الليل لاجترع جرعات من الماء البارد، لكنه لم يك بارداً، فتذكرت أن الثلاجة معطوبة منذ يومين.
الساعة الثالثة صباحاً.. كانت ثويبة تعتقد في إشارات الساعة، وخاصة الحادية عشر وإحدى عشرة دقيقة. أربعة خطوط متوازية تفصل بين كل زوجين منها نقطتان أفقيتان. كانت تمد هاتفها وتتحدث عيناها الضاحكتان. ولم أكن أفهم شيئاً. "إنني أشعر بالذنب بلا سبب معقول" قلت بارتباك لنفسي، وحاولت استعادة النوم لكنني لم أفلح.
(٣)
من الوزارة اتجهت بقدمي نحو الجسر، كان تحته متحف عسكري، في مقدمته طائرة قديمة، لا تبدو طائرة عسكرية، ثم إلى الخلف قليلاً تقبع دبابة تم دهنها -بسذاجة- بلون أخضر ولماع فبدت كلعبة أطفال. كان المتحف خالياً تقريباً وأخبرني الشاب البائس الذي ينام على أريكة في غرفة الإستقبال المتهالكة بأن الصالات مغلقة ويمكنني أن أعاود الزيارة غداً. كان أكثر يأساً من كفاح لكنه مشذب الذقن والشارب والحاجبين. رغبتي لم تكن في رؤية الأسلحة، وإنما في طرد ذلك الشعور بالمقت لنفسي، فغادرت الصالة واتجهت إلى الجسر المحاط بالسياجات الفولاذية المتينة، حيث تحته مباشرة يرتمي النهر خامداً بسبب الصيف، لكنه كان أنظف منه في فصل الخريف، كانت ثويبة ترفض النزول فيه لأنه قذر. كانت تعتقد أنه نهر قذر..وكانت.. كانت تتخيل أن جثة متحللة ستطفوا من قعره الطيني اللزج فجأة.
أي لعنة تلك. ثم أطلقتُ سباباً لا أتذكره. ناظراً إلى السماء قلت: -ألا تكتفي؟
(٤)
كان شعرها يلتصق بخديها، ويتورد ما تبقى من الخدين رغم سمرة بشرتها، كانت تشع وهي مغمضة العينين. إبطاها نظيفان ودافئان، يتدفق الشحم البض من عضديها حين ترتخي كل خلية عصبية فيها. تفغر ثغرة بين شفتيها وتئز أنفاسها الحارة أزيزاً متقطعاً. تمشط شعري وظهري بحنان دافق. كانت كل مساماتنا تلتحم إلتحاماً فذاً..التحاماً عبقرياً.. ويبدو أنه لا نهاية للعالم الذي هو نحن. لكن العالم ينتهي، وحينها أشعر بأنه كان عالماً مزيفاً كمشاعري تجاهها. إنها الرغبة فقط. إن كل شيء ينقلب رأساً على عقب بل ويتبدل كما لو كنا داخل قبعة ساحر. أو لأكن أكثر صدقاً: كما لو كنت أناْ وحدي داخل قبعة ساحر. أما هي فكانت كالموت دائماً.
(٥)
تصفر الصراصير صفيراً متقطعاً مؤلماً، تنادي ذكور الضفادع إناثها بالنقيق الفخيم، ذلك النواح الحائم في جنح الليل كبوليس سري. تتحرك الغيوم، وتبدو مقهقة تحت ضوء القمر. ثم يتناثر رذاذ خفيف فيبدو كثقوب الرصاص فوق شواهد القبور المعتمة.
كانت الرطوبة تمتزج بالحر وتعصر العرق من جبينه وفوديه. غير أن كفيه ظلتا تنغرسان في الكومة الترابية وتفجها بسرعة وببطء، فهو بين التردد والعزم على وقف تلك الكوابيس. حتى انفرجت كوة صغيرة فاحت منها رائحة عفونة قاتلة.. كانت كفاه الكبيرتان تدقان بأناملهما على التراب وتزيح أكبر قدر منه، حتى باح ظلام القبر بهيكل وجه رمادي.. "هل هو وجهها".. كان في حيرة، وهو يحدق في ملامح لم يعرفها من قبل، ثم انفتحت عيناها فجأة وانسل منهمما خيط وميض أزرق امتص روحه من عينيه فصرخ. أدرك أنه داخل كابوس، وإن كان كل شيء يبدو حقيقياً. أمسك عنقه ليجبره على ضخ الهواء إلى الرئتين.. فانفتحت عيناه على سقف الغرفة.
(٦)
المكتب مؤسس بأثاث رخيص، الطاولة خالية إلا من كشكول متوسط الحجم لكتابة الوصفات الطبية، كوب شاي به أقلام حبر قديمة وهناك قلم واحد في وسط الطاولة الخشبية بنية اللون.
نهض الطبيب النحيل وفتح النافذة المطلة على الشارع فطار الضجيج منها إلى الداخل وبعض التراب.
- اعذرني.. فالكهرباء مقطوعة.. نحن نعيش في دولة بائسة كما لو كانت تخوض حرباً عالمية..
عاد وخلع الجاكيت الزيتي وفرده على ظهر كرسي الخشب، ثم جلس فوق الكرسي نفسه وأمسك بالقلم، لكنه ترك القلم فجأة وانحنى قليلاً وفتح درجاً على يساره مخرجاً منه ملفاً.
- هذه هي الجلسة الأولى لك؟
كان يقرأ في ورقة خالية من أي كتابة سوى ترويسة العيادة.
- هل ذهبت إلى طبيب من قبل؟
أجابه:
- لا..
بدأ الطبيب في تدوين كلام أكثر مما يتلقاه من إجابات، كتب كل ذلك باللغة الإنجليزية.
- مِمَّ تعاني؟
- كوابيس..
توقف الطبيب عن الكتابة ثم عاد ففتح الدرج وأخرج نظارة بإطار أسود.
- متى بدأت هذه الكوابيس؟
- منذ موت ثويبة.
- زوجتك؟
- لا..
لفهما الصمت، وبدا الطبيب كما لو كان متفهماً حين هز رأسه ببطء.
- كانت علاقة حب قوية؟
- لا.. على الأقل.. على الأقل ليس من طرفي أنا..
- كانت تحبك؟
- نعم..
- هل تبدو الكوابيس حقيقية إلى حد بعي؟د..
بكى وهو يقول:
- نعم.. وهذا هو ما يؤلمني..
- هل بت تخاف النوم؟..
- نعم..
- لا بد أنك تعاني أثناء النهار من التعب؟..
- هذا ما يحدث بالفعل..
واصل الطبيب الكتابة على ورقته بصمت، كتب الكثير من الفقرات، ثم اقتلع ورقة وهو يقول:
- سأكتب لك قرص ريسبيريدون واحد يومياً.. لكن الأهم من ذلك هو أن تتبع منهجاً استرخائياً قبل النوم.. عد لي بعد أسبوع ولن تدفع ثمن الزيارة الثانية.
قال هذه الجملة الأخيرة وهو يرفع عينيه ويحدق بهما في عينيه كما لو كان لصاً.
(٧)
التقيت به مرة أخرى فعرفته على الفور، نظرت في عينيه متفقداً ملامحه من خلف الشعر الكثيف. لكنه نظر لي بعدستين باردتين ومضى بحركة بطيئة.
هممت بإخراج ماكينة الحلاقة حين رأيته يشيح بوجهه ويغادر. علمت فيما بعد بأنه قد فقد عقله، وازداد شعر وجهه كثافة، ثم فقد ما يستره من ملابس وسار في رحاب الله لا يلوي على شيء.
مضى أسبوعان بلا ثويبة، فحلقت شعري أنا، حلقته بالكامل، شعر الراس والشارب واللحية وحتى الحاجبين والإبطين والعانة، وكأنما أحاول ولادة نفسي من جديد. الأشياء السيئة تأتي..الأشياء السيئة تذهب.. لذلك خرجت فرأيته في زقاق ضيق، كان ذكره منتصباً كآلهة قديمة، تقدم نحوي وهو يستمني.
- ابتعد..
ثم رفعت حجراً وهددته به لكنه لم يعبأ بل استمر.. قذفته بالحجر فأصابه ودميت عينه اليسرى، لكنه مع ذلك لم يتوقف.. بعدها طوقني من الخلف بذراعين قويين، ذراعا مجنون، وبدأ في خنقي. حاولت الإفلات منه لكنه لم يتوقف إلا حين صرخت..ورأيت سقف الغرفة..
دقت التاسعة صباحاً، الساعة المعلقة على الجدار، ثم دقت في العاشرة، ثم في الحادية عشر.. حينها أشارت لي الفتاة برأسها فدخلت عليه. وجدته يفتح النافذة، عاد وجلس ثم نظر نحوي وقال:
- من مات مرة أخرى؟
قلت:
- لم يمت.. لقد أصيب بالجنون..
قال:
- ستفقد الكثير ممن تحبهم..عليك أن تكون أكثر قوة من هذا.. لا يوجد بروتوكول يمنعني من نصحك بذلك..
(٨)
استلم جواز سفره الأزرق، جواز سفر بحري. وقال رئيس الطاقم:
- العمل في البحر شاق جداً خاصة في سفن الشحن.. الربان هنا ليس فقط قائد سفينة بل رجل القانون الأول.. مع ذلك فكل شيء يسير على ما يرام..
كان البحر شديد الكآبة، خاصة عند الفجر والغروب وهو يحاصر السفينة من كل اتجاه. النجوم تزداد لمعاناً وتشع كوجه ثويبة في تلك اللحظات الحميمة. يلف الكون نواح الموج كقرقعة معدة جائعة، ولا شيء في الأفق.
- هل سنصل إلى جزيرة الكنز؟
يسأل نفسه، ويرى في أحلامه جزيرة خالية من وجوه البشر. لا أحد ممن عرفهم، لا أحد ممن أحبهم.. فيشعر بالسلام..
(تمت)