غريب لا أعلم متى سأصل إلى داري، منذ آويت إلى هذه الحارة أعاني من الوحدة، لا أحد يهتم بي؛ تنفر مني النساء يبدو أنني مصاب بالجرب، هل كتب علي التشرد في بلاد الله؟
أشعر بأنني بلا جذر يشدني إليهم، أو على أقل تقدير لم أجد منهم اهتماما، إنه ازدراء بلا سبب، ربما لخلقتي السوداء المتفحمة، رغم أنهم لا تتجري في عروقهم الدماء الزرقاء، كلنا سقط متاع؛ أزيد عليهم بأنني هجين أو غريب أو لقيط، مسميات لواقع تعيس أعيشه، كثيرون يحسبونني من الغجر الذين يجوبون الكفور والنجوع، يحملون أشياءهم على أكتافهم، يسلخون الحمير ليصنعوا منها طبلا، يجمعون عظام البهائم النافقة فيحيلونها أمشاطا وفلايات، يصنعون مزامير من صفيح علب السمن؛ بل حتى يختنون الصغيرات ويسدون المكان برماد الفرن، ينادون على النحاس الأصفر، قد يسرقون العنزات أو يسطون على أكنان الدجاج، يدقون وشما على خدودهم، يرتدون ثيابا زاهية، حلقا تتدلى من أنوفهم؛ يأتون بأفعال غريبة، يخوفون بهم الصغار، يسكنون أطراف المدينة، بعضهم سحرة يراقصون الطوب، والآخرون منهم يرتدون ثياب النساء، يحلقون شعورهم تطاردهم الكلاب ويعبث بهم كل من هب ودب.
أحمل في قلبي حبا وطيبة هذه أشياء توهب بلا ثمن، أحلم بأن أجد لي بابا أو امرأة ومن ثم أغدو واحدا منهم، حاولت أن أطلب مساعدة من شيخ الجامع؛ ردني في رفق" ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات"
صرت أمقت هؤلاء الأدعياء الذين يرتدون عباءة الله!
إنهم يكذبون عليه؛ لم يعطهم وثيقة تمنحهم قبول الناس في جنته، كذا لم يفوضهم في الحديث باسمه، هذا الشيخ يختزن طن قمح ومائة عباءة؛ سأدعو الله أن يسلط عليه السوس والفئران.
علي أن أغتسل وأستقبل القبلة؛ لكنني منذ سنة أو يزيد لم أدخل الجامع؛ طردني العامل؛ ثيابي متسخة؛ ما عندي آخر أحسن حالا ﻷغطي عورتي، لا لن أذهب سأدعو الله من هنا؛ إنه في كل مكان؛ لا حاجة بي ﻷن أطرد مرة ثانية؛ يوما ما سيتقبل الله دعائي حتى ولو كنت بلا لسان.
تعبت من السير في ممرات المكان الضيقة، تمزقت ثيابي حتى تعبت منها الرقع، حفظت قدمي الحواري، عرفت البيوت بأسماء النساء المتخفيات في حنايا الحجرات المغلفة بأسرار ليالي العجز ولربما كانت تتثاءب جراء فوضى الأسرة، صرت مثل رغيف الشحاذ يأتي من كل باب وتهبه أي يد، وتسود به وجوه السائلين، ضربني الوجع وهزمني الشقاء، ارتميت على أقرب كومة وجدتها، سبقني إليها المكدودون؛ من لفظتهم الحياة إلى الهامش، فنحن نحترم من يلمع حذاؤه، ومن تكون له بين الناس مقاعد عليها يتكئون!
ثمة اتجاه للرؤية غام عني طوال هذا العمر الكسيح؛ أن أرفع ناظري إلى أبواب السماء، ساعتها ربما تتنزل المائدة الشهية من السماء، زمن المعجزات لم ينته بعد، فالجوعى تهفو أمعاؤهم لطبق حساء ساخن والبرد يرتجف من هول وقعه الصغار، تخوم وأقبية، قيود وكراس، رابطات عنق ذات ألوان، عربات مكيفة، نساء تتهدل شهورهن فأشبهن عوارف الخيل هذه هي أثقال الأرض التي ندرج عليها.
في السماء عالم آخر تقنع به نفوس الحيارى، تمني البطون بألف حلم؛ كفاء رغيف الخبز الضامر، تنزل عليهم الرحمة مائدة، لكن المسيح مرفوع من الأرض، خلت بوابة السماء من يد الطارق، تحوم الغربان كل ناحية، تشتعل الفتن بحور شر تتلاطم دماء.
ندر أن أضع الماء على جسدي؛ ماتت الرغبة التي كبلتني إثما، أعايش الخوف من الأشياء والألقاب، ترهلت كثيرا جراء ترددها في محافل تغبش فيها عناكب الظلام، ذوي الياقات الحمراء، من يضعون فوق خواصرهم أدوات الموت السريع.
تراود الرغبة الضالة جسدي، لكنها أعرضت عني، تباهت بأنوثة مفرطة، هذه جينات لم تعد نادرة هذه الأيام؛ المساحيق تثير السخرية؛ تعطي مسحة فتنة، العقاقير تهب الأثداء وجودا.
ماذا لو رزقت بدل المن والسلوى واحدة ذات جمال؟
في اليوم الآخر تتوج الحوريات ملكات، أيهبنى الله واحدة كفاء حرمان أصاب جسدي بالنحول ورغبتي بالموات؟!
لست المسيح تطارده المجدلية، يقال إنها أحبته، شفرة دافنشي تفصح أسرارها المكدسة، احتمت به، نادى في الحواريين: على الطاهر من الخطيئة أن يرميها بحجر، أمسكت بطرف ثوبه، نظر إلى السماء، ومن ثم دعا بالمائدة، أيحسن بي وقد ارتحلت في ممرات السماء- أعانق الحور- أن أنظر من تمشي في الأسواق؟
رغيف يسد لهب معدة خاوية أم جمال أنثي تشبع رغبة مؤجلة؟
أيا كانت الإجابة فأنا أعيش في فجوة تتناهى وقد خلت حياتي من قائمة الرغبات، إنه موات يلاحقني، يجمع بقاياه ومن ثم يتربص بالعابر في ذلك التيه الذي يفضي إلى نهاية غير متوقعة.
يراغمني السرد أشتاتا متنافرة من مفردات تعبت من الدوران في ثنايا الأسطر، لن يمضي أحد دون أن يرتشف من رضاب المجدلية حتى ولو كان المسيح، هذه كلمة تشرع لألف سبة ومائة دليل اتهام يقود إلى ذلك القبو المنعزل في باطن بحر مالح.
تناهى إلى عقلي خاطر مجلل بالخرف؛ ستوزع النساء عدلا بلا سرف، لكل واحد أربع ومن تأبى تقام لخصيته مراسيم العزاء.
غفوت عند بوابة المدينة التائهة من خارطة مكان مبعثر، استرحت لهذا الوهم؛ فمن النسيان دواء لمن يتعاطون الدخان الأزرق مائدة من السماء !
أخشى أن يأخذني طبيب ومن ثم يقسم جسدي قطع غيار؛ في بلاد مجاورة يذيبون الجسد في حامض؛ تعجبت هل الطعام البائت يحيل العظام هباء منثورا؟
أعلم أنني ابن لهؤلاء المهمشين الذين يعيشون كيفما اتفق لهم، لا طعام ولا كساء بل حتى ولا رغبات جسد تشعرني بأنني أحيا، حاولت أن أستعيد بطاقة هويتي، أن أدلل على انتمائي إليهم.
قدري أن أظل هكذا، يأتي الشتاء فلا أجد بيتا آوى إليه، يضربني البرد والجوع فأتكور لألتمس بعض دفء، مضى زمن الطيبين كنت أجد طعاما ، الآن أبحث في مقالب النفاية الجميع يمد يده كل صباح ليتناول أرغفة من صراف الفرن الآلي، تنكشف سوءتي، أحاول سترها فأعجز، يتبلد شعر رأسي كأنه كومة من سبخ الأرض، تطول أظافري فآكلها بأسناني المتكسرة جراء الضعف والهزال.
لا أقدر حتى أن أحرك يدي، تعودت أن أتلقى الصفعة تلو الأخرى، عادة ما انقطعت منذ جئت إلى هنا.
أحمل أشيائي وأجري من الكلاب التي تعفو عني حين تمسك بي؛ أبدو في ناظريها عظما مغطى بجلد.
لا أعلم لي أبا فأنتسب إليه، أحسد الجراء الصغيرة حين تلقم ثدي أمهاتها.
في ليلة لاتزال عالقة بذاكرتي، نمت جوار حائط متهدم، في خرابة جوار سكة القطار، الليل مظلم موحش تتحرك فيه كائنات لا ترى بالعين المجردة، جاءا يحملان شيئا؛ أكان طفلا؟
ربما!
يحفران في سرعة منقطعة، ثم وضعا حجرة بيضاء لتكون شاهدا، دبت في حالة من الشغف، يمسك بي التردد لعلها مصيبة يخفيانها، تحدثني نفسي، أنظر ثم أفر هاربا، في إعياء شديد تحركت صوب المكان، تحسسته، ما يزال الحفر يشي بما داخله، طرف من ثوب بقي منه، تحاملت على نفسي، أخذت في جذبه، طاوعني وخرج في يدي؛ إنها لفافة داخل أخرى، حسبتها طفلا؛ ظننتها سرا أرادا دفنه.
عبثت يدي بها، بدأت تنكشف أمامي؛ أوراق مطوية، ذهب من حلي متناثر، تماثيل بحجم كف اليد، كدت أصاب بجنون يفوق ما أنا فيه.
جلست أتحسس هذه الأشياء، سرح بي الخيال؛ أشتري قطارا مثل هذا القادم إلى المحطة، أوزع على الركاب وجبات طعام ساخنة، أبني بيوتا للقطط تسكنها، أزرع قمحا لعصافير الحقول التي تموت من الجوع.
سأعطي لكل من لا يجدون بطاقة هوية ألقابا يفتخرون بها، أخلط ماء النهر بالعطور ليشرب الناس محلوﻻ مزهرا، أدهن واجهات القبور بألوان زاهية؛ يكفى الموتى ما يعانونه من كآبة المكان.
وربما بعضهم يتلظى بسوء أفعاله، سرق أو اختلس أو حتى التمس بابا آخر للحياة، يقول الشيخ: إن الله غفار رحيم، لن أخشى لقاءه حيث ستسعني رحمته.
في الجنة طعام وفير، لبن وعسل بل ولحم يكفي لكل الجوعى.
لا لن أفعل كل هذا سأهرب بهذا الكنز إلى بلاد لا يعرفني فيها أحد، أشتري امرأة بيضاء ﻷرى وجهي فيها، تنظف لي ثيابي، تقلم لي أظافري، يقولون: إن البيت الذي لا توجد به امرأة تسكنه الشياطين.
ولربما دبت في القوة فآتيها، تنجب لي طفلا، هل يكون ابنا لي، أشك في هذا، حتى لو حدث هذا، سينسب إلى آخر ممن يرتدون النظارات السوداء ويركبون السيارات الجديدة..
لا لن أترك واحدة تستولي على كنزي؛ سأشتري حمارا أركبه، وأحرك قدمي، يراني أهل القرية غنيا، يقدمون لي التحية، يشركونني في طعامهم.
بدأ الملل يتسرب إلي، أي فكرة من كل هذه تستغرق وقتا طويلا، سأنادي في الصباح أن الأرض تنبت ذهبا، لن يصدقني أحد، أنا مجنون، كل من يمر بي يحرك كفه ناحية رأسه في حركة نصف دائرية.
بعضهم يغيظني بأن يشير بإصبعه عند منتصف أنفه، لعلى أكون أخرس وأنا لا أدري.
تسقط السماء مطرا شديدا، تضرب الريح في عنف، يأتي الرجلان مرة ثانية، يحفران على مقربة مني؛ يضعان حقيبة أخرى، أترك ما في يدي أفعل بها مثلما فعلت في الحفرة الأولى، هذه المرة تخرج عنزة تلمع في الظلام؛ تومض ذهبا، أتراقص طربا، يبدو أنني بالفعل مصاب بالجنون، أو لعلهم لا يشعرون بي، هذا محال.
سأظل هنا فهم بالتأكيد سيحضرون حقيبة ثالثة، لقد تأخروا هذه المرة، أوشك الفجر أن يطلع، يفضح بنوره ما أخفوه، صوت من بعيد، هذا هو اللص الذي يختزن أموال المدينة، خدعنا ويستعد للهرب بها.
يسخران مني، أيها الأبله، الأخريات أخذها الغراب وطار بعيدا.
أشعر بأنني بلا جذر يشدني إليهم، أو على أقل تقدير لم أجد منهم اهتماما، إنه ازدراء بلا سبب، ربما لخلقتي السوداء المتفحمة، رغم أنهم لا تتجري في عروقهم الدماء الزرقاء، كلنا سقط متاع؛ أزيد عليهم بأنني هجين أو غريب أو لقيط، مسميات لواقع تعيس أعيشه، كثيرون يحسبونني من الغجر الذين يجوبون الكفور والنجوع، يحملون أشياءهم على أكتافهم، يسلخون الحمير ليصنعوا منها طبلا، يجمعون عظام البهائم النافقة فيحيلونها أمشاطا وفلايات، يصنعون مزامير من صفيح علب السمن؛ بل حتى يختنون الصغيرات ويسدون المكان برماد الفرن، ينادون على النحاس الأصفر، قد يسرقون العنزات أو يسطون على أكنان الدجاج، يدقون وشما على خدودهم، يرتدون ثيابا زاهية، حلقا تتدلى من أنوفهم؛ يأتون بأفعال غريبة، يخوفون بهم الصغار، يسكنون أطراف المدينة، بعضهم سحرة يراقصون الطوب، والآخرون منهم يرتدون ثياب النساء، يحلقون شعورهم تطاردهم الكلاب ويعبث بهم كل من هب ودب.
أحمل في قلبي حبا وطيبة هذه أشياء توهب بلا ثمن، أحلم بأن أجد لي بابا أو امرأة ومن ثم أغدو واحدا منهم، حاولت أن أطلب مساعدة من شيخ الجامع؛ ردني في رفق" ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات"
صرت أمقت هؤلاء الأدعياء الذين يرتدون عباءة الله!
إنهم يكذبون عليه؛ لم يعطهم وثيقة تمنحهم قبول الناس في جنته، كذا لم يفوضهم في الحديث باسمه، هذا الشيخ يختزن طن قمح ومائة عباءة؛ سأدعو الله أن يسلط عليه السوس والفئران.
علي أن أغتسل وأستقبل القبلة؛ لكنني منذ سنة أو يزيد لم أدخل الجامع؛ طردني العامل؛ ثيابي متسخة؛ ما عندي آخر أحسن حالا ﻷغطي عورتي، لا لن أذهب سأدعو الله من هنا؛ إنه في كل مكان؛ لا حاجة بي ﻷن أطرد مرة ثانية؛ يوما ما سيتقبل الله دعائي حتى ولو كنت بلا لسان.
تعبت من السير في ممرات المكان الضيقة، تمزقت ثيابي حتى تعبت منها الرقع، حفظت قدمي الحواري، عرفت البيوت بأسماء النساء المتخفيات في حنايا الحجرات المغلفة بأسرار ليالي العجز ولربما كانت تتثاءب جراء فوضى الأسرة، صرت مثل رغيف الشحاذ يأتي من كل باب وتهبه أي يد، وتسود به وجوه السائلين، ضربني الوجع وهزمني الشقاء، ارتميت على أقرب كومة وجدتها، سبقني إليها المكدودون؛ من لفظتهم الحياة إلى الهامش، فنحن نحترم من يلمع حذاؤه، ومن تكون له بين الناس مقاعد عليها يتكئون!
ثمة اتجاه للرؤية غام عني طوال هذا العمر الكسيح؛ أن أرفع ناظري إلى أبواب السماء، ساعتها ربما تتنزل المائدة الشهية من السماء، زمن المعجزات لم ينته بعد، فالجوعى تهفو أمعاؤهم لطبق حساء ساخن والبرد يرتجف من هول وقعه الصغار، تخوم وأقبية، قيود وكراس، رابطات عنق ذات ألوان، عربات مكيفة، نساء تتهدل شهورهن فأشبهن عوارف الخيل هذه هي أثقال الأرض التي ندرج عليها.
في السماء عالم آخر تقنع به نفوس الحيارى، تمني البطون بألف حلم؛ كفاء رغيف الخبز الضامر، تنزل عليهم الرحمة مائدة، لكن المسيح مرفوع من الأرض، خلت بوابة السماء من يد الطارق، تحوم الغربان كل ناحية، تشتعل الفتن بحور شر تتلاطم دماء.
ندر أن أضع الماء على جسدي؛ ماتت الرغبة التي كبلتني إثما، أعايش الخوف من الأشياء والألقاب، ترهلت كثيرا جراء ترددها في محافل تغبش فيها عناكب الظلام، ذوي الياقات الحمراء، من يضعون فوق خواصرهم أدوات الموت السريع.
تراود الرغبة الضالة جسدي، لكنها أعرضت عني، تباهت بأنوثة مفرطة، هذه جينات لم تعد نادرة هذه الأيام؛ المساحيق تثير السخرية؛ تعطي مسحة فتنة، العقاقير تهب الأثداء وجودا.
ماذا لو رزقت بدل المن والسلوى واحدة ذات جمال؟
في اليوم الآخر تتوج الحوريات ملكات، أيهبنى الله واحدة كفاء حرمان أصاب جسدي بالنحول ورغبتي بالموات؟!
لست المسيح تطارده المجدلية، يقال إنها أحبته، شفرة دافنشي تفصح أسرارها المكدسة، احتمت به، نادى في الحواريين: على الطاهر من الخطيئة أن يرميها بحجر، أمسكت بطرف ثوبه، نظر إلى السماء، ومن ثم دعا بالمائدة، أيحسن بي وقد ارتحلت في ممرات السماء- أعانق الحور- أن أنظر من تمشي في الأسواق؟
رغيف يسد لهب معدة خاوية أم جمال أنثي تشبع رغبة مؤجلة؟
أيا كانت الإجابة فأنا أعيش في فجوة تتناهى وقد خلت حياتي من قائمة الرغبات، إنه موات يلاحقني، يجمع بقاياه ومن ثم يتربص بالعابر في ذلك التيه الذي يفضي إلى نهاية غير متوقعة.
يراغمني السرد أشتاتا متنافرة من مفردات تعبت من الدوران في ثنايا الأسطر، لن يمضي أحد دون أن يرتشف من رضاب المجدلية حتى ولو كان المسيح، هذه كلمة تشرع لألف سبة ومائة دليل اتهام يقود إلى ذلك القبو المنعزل في باطن بحر مالح.
تناهى إلى عقلي خاطر مجلل بالخرف؛ ستوزع النساء عدلا بلا سرف، لكل واحد أربع ومن تأبى تقام لخصيته مراسيم العزاء.
غفوت عند بوابة المدينة التائهة من خارطة مكان مبعثر، استرحت لهذا الوهم؛ فمن النسيان دواء لمن يتعاطون الدخان الأزرق مائدة من السماء !
أخشى أن يأخذني طبيب ومن ثم يقسم جسدي قطع غيار؛ في بلاد مجاورة يذيبون الجسد في حامض؛ تعجبت هل الطعام البائت يحيل العظام هباء منثورا؟
أعلم أنني ابن لهؤلاء المهمشين الذين يعيشون كيفما اتفق لهم، لا طعام ولا كساء بل حتى ولا رغبات جسد تشعرني بأنني أحيا، حاولت أن أستعيد بطاقة هويتي، أن أدلل على انتمائي إليهم.
قدري أن أظل هكذا، يأتي الشتاء فلا أجد بيتا آوى إليه، يضربني البرد والجوع فأتكور لألتمس بعض دفء، مضى زمن الطيبين كنت أجد طعاما ، الآن أبحث في مقالب النفاية الجميع يمد يده كل صباح ليتناول أرغفة من صراف الفرن الآلي، تنكشف سوءتي، أحاول سترها فأعجز، يتبلد شعر رأسي كأنه كومة من سبخ الأرض، تطول أظافري فآكلها بأسناني المتكسرة جراء الضعف والهزال.
لا أقدر حتى أن أحرك يدي، تعودت أن أتلقى الصفعة تلو الأخرى، عادة ما انقطعت منذ جئت إلى هنا.
أحمل أشيائي وأجري من الكلاب التي تعفو عني حين تمسك بي؛ أبدو في ناظريها عظما مغطى بجلد.
لا أعلم لي أبا فأنتسب إليه، أحسد الجراء الصغيرة حين تلقم ثدي أمهاتها.
في ليلة لاتزال عالقة بذاكرتي، نمت جوار حائط متهدم، في خرابة جوار سكة القطار، الليل مظلم موحش تتحرك فيه كائنات لا ترى بالعين المجردة، جاءا يحملان شيئا؛ أكان طفلا؟
ربما!
يحفران في سرعة منقطعة، ثم وضعا حجرة بيضاء لتكون شاهدا، دبت في حالة من الشغف، يمسك بي التردد لعلها مصيبة يخفيانها، تحدثني نفسي، أنظر ثم أفر هاربا، في إعياء شديد تحركت صوب المكان، تحسسته، ما يزال الحفر يشي بما داخله، طرف من ثوب بقي منه، تحاملت على نفسي، أخذت في جذبه، طاوعني وخرج في يدي؛ إنها لفافة داخل أخرى، حسبتها طفلا؛ ظننتها سرا أرادا دفنه.
عبثت يدي بها، بدأت تنكشف أمامي؛ أوراق مطوية، ذهب من حلي متناثر، تماثيل بحجم كف اليد، كدت أصاب بجنون يفوق ما أنا فيه.
جلست أتحسس هذه الأشياء، سرح بي الخيال؛ أشتري قطارا مثل هذا القادم إلى المحطة، أوزع على الركاب وجبات طعام ساخنة، أبني بيوتا للقطط تسكنها، أزرع قمحا لعصافير الحقول التي تموت من الجوع.
سأعطي لكل من لا يجدون بطاقة هوية ألقابا يفتخرون بها، أخلط ماء النهر بالعطور ليشرب الناس محلوﻻ مزهرا، أدهن واجهات القبور بألوان زاهية؛ يكفى الموتى ما يعانونه من كآبة المكان.
وربما بعضهم يتلظى بسوء أفعاله، سرق أو اختلس أو حتى التمس بابا آخر للحياة، يقول الشيخ: إن الله غفار رحيم، لن أخشى لقاءه حيث ستسعني رحمته.
في الجنة طعام وفير، لبن وعسل بل ولحم يكفي لكل الجوعى.
لا لن أفعل كل هذا سأهرب بهذا الكنز إلى بلاد لا يعرفني فيها أحد، أشتري امرأة بيضاء ﻷرى وجهي فيها، تنظف لي ثيابي، تقلم لي أظافري، يقولون: إن البيت الذي لا توجد به امرأة تسكنه الشياطين.
ولربما دبت في القوة فآتيها، تنجب لي طفلا، هل يكون ابنا لي، أشك في هذا، حتى لو حدث هذا، سينسب إلى آخر ممن يرتدون النظارات السوداء ويركبون السيارات الجديدة..
لا لن أترك واحدة تستولي على كنزي؛ سأشتري حمارا أركبه، وأحرك قدمي، يراني أهل القرية غنيا، يقدمون لي التحية، يشركونني في طعامهم.
بدأ الملل يتسرب إلي، أي فكرة من كل هذه تستغرق وقتا طويلا، سأنادي في الصباح أن الأرض تنبت ذهبا، لن يصدقني أحد، أنا مجنون، كل من يمر بي يحرك كفه ناحية رأسه في حركة نصف دائرية.
بعضهم يغيظني بأن يشير بإصبعه عند منتصف أنفه، لعلى أكون أخرس وأنا لا أدري.
تسقط السماء مطرا شديدا، تضرب الريح في عنف، يأتي الرجلان مرة ثانية، يحفران على مقربة مني؛ يضعان حقيبة أخرى، أترك ما في يدي أفعل بها مثلما فعلت في الحفرة الأولى، هذه المرة تخرج عنزة تلمع في الظلام؛ تومض ذهبا، أتراقص طربا، يبدو أنني بالفعل مصاب بالجنون، أو لعلهم لا يشعرون بي، هذا محال.
سأظل هنا فهم بالتأكيد سيحضرون حقيبة ثالثة، لقد تأخروا هذه المرة، أوشك الفجر أن يطلع، يفضح بنوره ما أخفوه، صوت من بعيد، هذا هو اللص الذي يختزن أموال المدينة، خدعنا ويستعد للهرب بها.
يسخران مني، أيها الأبله، الأخريات أخذها الغراب وطار بعيدا.
