د. زياد العوف - مختارات من كتاب الإمتاع والمؤانسة....... في كُنهِ المصادفة والاتّفاق

يُعَدُّ أبو حيّان التوحيدي (ت ٤١٤ للهجرة) واحداً من أهمّ أعلام الأدب والفكر والثقافة العربية على مرّ العصور.
ويمثّلُ كتابه ( الإمتاع والمؤانسة ) فكرَ الرجل وأدبَه ومذهَبه في الكتابة والتأليف خيرَ تمثيل.
وقد بدا لي أنّه من المناسب في هذا الشهر الكريم - رمضانَ - أنّ أضع بين يدي القارئ الكريم صفَحاتٍ من المتعة والفائدة أختارُها من فصول هذا الكتاب التراثيّ القيّم، وأنثرها في أيامٍ معدودات بما يسعف به الحال.
جاء في الكتاب في كُنه المصادفة والاتّفاق:
" .....حكى لنا أبو سليمان (١)في هذه الأيام أنّ ثيودوسيوس ملكَ يونان كتب إلى إبيقس الشاعر أنْ يزوّده بما عنده من كتب فلسفية؛ فجمع ما لديه في عَيبةٍ (٢)ضخمة، وارتحل قاصداً نحوه، فلقي في تلك البادية قوماً من قُطَّاع الطريق، فطمعوا في ماله وهمّوا بقتْله، فناشدهم الله ألّا يقتلوه، وأن يأخذوا ماله ويُخلّوه، فأبَوا، فتحيَّر ونظرَ يميناً وشمالاً يلتمس معيناً وناصراً فلم يجدْ، فرفعَ رأسه إلى السماء، ومدّ طرفه في الهواء، فرأى كَرَاكيّ تطير في الجوّ محلّقةً، فصاحَ: أيتها الكراكيُّ الطائرة، قد أعجزني المعين والناصر، فكوني المطالبةَ بِدَمي، والآخِذَة بثأري. فضحكَ الّلصوس وقال بعضهم لبعض: هذا أنْقصُ الناس عقلاً، ومَنْ لا عقلَ له لا جُناح في قتله؛ ثمّ قتلوه وأخذوا مالَهُ واقتسموه وعادوا إلى أماكنهم؛ فلمّا اتّصلَ الحديثُ بأهل مدينته حزنوا وأعظموا ذلك، وتبِعوا أثر قاتلِه واجتهدوا فلم يغنُوا شيئاً ولم يقفوا على شيء، وحضر اليونانيون وأهل مدينته إلى هيكلهم لقراءة التسابيح والمذاكرة بالحكمة والعِظة، وحضر الناس من كلّ قطرٍ وَأًوْب، وجاء القَتَلَةُ واختلطوا بالجمع، وجلسوا عند بعض أساطين الهيكل، فهم على ذلك إذ مرّتْ بهم كراكيُّ تتناغى وتصيح، فرفع اللصوص أعينهم ووجوههم إلى الهواء ينظرون ما فيه، فإذا كراكيّ تصيح وتطير وتسدُّ الجوَّ؛ فتضاحكوا، وقال بعضهم لبعض: هؤلاء طالِبو دم إبيقس الجاهل- على طريق الاستهزاء - فسمعَ كلامهم بعضُ مَن كان قريباً منهم فأخبر السلطان فأخذهم وشدَّد عليهم وطالبهم فأقرُّوا بقتْلهِ، فقَتَلَهم؛
فكانت الكراكيُّ المطالبةَ بدمهم لو كانوا يعقلون أنّ الطالبَ لهم بالمرصاد.
وقال لنا أبو سليمان: إنّ إبيقس وإن كان خاطب الكراكيَّ فإنّه أشارَ إلى ربِّ الكراكيّ وخالقها، ولم يُطِلَّ(٣) اللهُ دمَهُ.......فسبحانه كيف يهيّئُ الأسباب، ويفتح الأبواب، ويرفع الحجابَ بعد الحجاب. "
١- أبو سليمان محمد بن طاهر المنطقيّ: أكبر علماء بغداد في المنطق والحكمة والفلسفة في عصر أبي حيّان ، وهو أكبر شيوخه في الفلسفة، توفّي في أواخر القرن الرابع الهجريّ.
٢- العَيبةُ: وعاء من جِلْد أو غيره يوضع فيه المتاع.
٣- أطلَّ، وطلَّ دمَ القتيل، أي أهْدَرَهُ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى