بعد كل تلك السنين الطويلة من الحنين الى أبي، رأيته أخيراً، جالساً على حافّة النهر، ينصت الى جريان الماء ويراقب اهتزاز الحشائش. لم أره من قبل بهذا الصفاء الذهني والتوحد مع انسياب الماء، حتى انّه لم ينتبه لوجودي أو ربما أنا تصورت ذلك. جلست بجانبه يغمرني نفس الفرح الطفولي عندما كان يعود مرة كل شهر ولا يبقى معنا الّا أياماً معدودة ثم يعود الى جبهات القتال. وعندما نظرت الى قدمه اليسرى التي قطعت في الحرب وجدتها سليمة ولم تكن مقطوعة مثلما عاد الينا آخر مرة تلك العودة المشؤومة. حاولت أن أخبره عن حزن امّي وحنين اخوتي لكني لم أستطع الكلام. رأيت نفسي صغيراً امام هيبته التي لا توصف. بقيت صامتاً أحاول أن أعيش تلك اللحظات الجميلة التي تشبه موسيقى عمر خيرت لكني لم أستطع السيطرة على ضربات قلبي المتسارعة. كنت خائفاً أن يتركني مرة أخرى في ضياعي الذي كنت أعيشه طيلة سنين عمري ويرحل ثانية، خاصّة عندما أخذتني الذاكرة الخبيثة لآخر حدث حينما ودعتني امّي بدعائها الصباحي قبل الانفجار الذي هز ساحة السوق فتمزق جسمي الى أشلاء متناثرة. رأيت نفسي ابكي مثل طفل صغير، ثم ارتفع بكائي مشتتاً ذلك السكون الذي كنا فيه. التفتَ دون أن تتغير تعابير وجهه الصافي ثم مسح على صدري بيده الحنونة فخنقتني العَبْرَةُ. امْسكني من يدي دون أن ينطق كلمة واحدة وأخذني معه بعد أن غسلتْ السكينة قلبي.
مناف كاظم محسن
العراق - البصرة
مناف كاظم محسن
العراق - البصرة