أحمد عبدالله إسماعيل - نهر الموت

في طريق وعر، نجري بصعوبة قبيل الفجر هائمين على وجوهنا، يتملكنا الرعب ويحيط بنا الخوف، لا نحتمي من البرد القارس فوق الجبل سوى بسماء ندعو في كل شهيق وزفير أن ترحمنا، انتفض جسدي بعدما سقط زميلاي من شدة التعب، أتساءل: هل كان حلمًا، لا بل كان كابوسًا فظيعًا: خدعنا المهرب!

ليست النهاية التي رسمناها في خيالنا لتلك الليلة، عندما يئست متيقنًا من هلاكنا لمحت مع أول خيوط النهار أحد المنازل الحدودية المنعزلة يلوح في الأفق، بعدما أطعمنا وسقانا ما يبقينا على قيد الحياة، ساعدنا رب هذا البيت على العودة إلى الفندق نجر أذيال الخيبة، أما أنا فكنت أشعر شعور من يمضغ الحصى بعدما فشلت في الوصول إلى نهر الموت.

قبل أن ألتقط أنفاسي أو أدرك حقيقة ما جرى أو أستحم من غبار الطريق الذي أتجرع مرارته في حلقي مختلطًا بما لاقيت من ضياع، دخل رجل أنيق الملبس، هادىء الخطوة متوسط القامة حليق الشارب واللحية، يسأل بصوت حذر عن مصري يبحث عنه في كل مكان، يدعى فتحي. خفض موظف الاستقبال في كدر صوت أغنية جورج وسوف «كلام الناس»، كرر الرجل سؤاله بصوت مسموع، فأقبلت عليه مندفعًا: "أنا فتحي".

على الفور، داهم رجال الشرطة المكان، قُيدت حريتي طيلة ليال كلها سود حوالك، فقلت متحسرًا: "سجنت نفسي قبل أن أسجن هنا، اليوم أجني ما كنت دومًا أتطلع إليه!"

وفي غرفة التحقيق حُفرت في ذاكرتي صرخات ومشاهد تتراءى كأشباح تتراقص بين الموتى، ويلوح خيال أمي وسط الحقول تمد إليَّ ذراعيها كطيف ملائكي؛ فأحاول جاهدًا الهرب من جحيم المعتقل إلى حِضنها.

لم يختلف حالي عن إخوتي؛ جميعنا كُتب علينا السفر وهو كُره لنا، سافر ثلاثة إلى أرض الأحلام التي تغيرت أحوال معظم أبناء جيلنا بفضلها: العراق، أما أنا وأخي الأصغر فكانت الظروف هي ما جعلت الأردن وجهتنا.

لم تظهر الرغبة في السفر بسبب نقص فرص العمل أو ضيق الحال فحسب، بل إن إقامة والدي في مدينة حفر الباطن طوال طفولتنا وشبابنا، وميل معظم أبناء قريتي بل ومحافظة كفر الشيخ كافة إلى السفر جعل التنقل في البلاد هو الحل الأول الذي يومض في عقولنا كضوء أمل في نهاية نفق مظلم، ويستقر في قلوبنا كتأويل رؤيا لمن يحلم بتفاصيل مستقبله تتحقق أمام عينيه.

أجلس ليلة زواجي إلى يسار عروسي "ابنة الجيران"وقد انتصف عامي الخامس والعشرون، مررت بتجربة مذاقها أمرُّ من الحنظل؛ أتذكر جيدًا ما حدث، لم يكن السفر سوى قطعة من العذاب.

عملت في الأردن بمهنة أبي "منجد"غير أن ظروف العمل هناك لم تكن مرضية كما أن سفر أخي -الذي يصغرني بأقل من عام- إلى سوريا وهجرته منها عبر الحدود إلى لبنان، حيث الحياة وفرص الثراء، شجعني على اقتفاء أثره.

أديت خدمتي العسكرية "قدوة حسنة"متطلعًا إلى السفر برغم رفض أمي، التي تحملني على كفوف الراحة، خشية مرارته. دهستني عجلات الأيام؛ لم أشعر بمرور عام وأربعة أشهر منذ وصولي إلى عمان، فقررت اللحاق بأخي مطلع شهر ديسمبر عام ١٩٩٤.

حزمت أمتعتي أحلم بوصولي إلى ضفاف نهر الموت حتى إني رأيت تفاصيل مستقبلي بها وأنا ما زلت في الأتوبيس المنطلق من عمان!

ما أجمل الطبيعة التي تسحر القلب وتمتع العين، على امتداد الطريق أنظر إلى وجهي المنعكس على زجاج الأتوبيس فأرى، بعد عشر سنوات من الغربة، الشاب طويل القامة جذاب المظهر جميل المحيا ذا الشعر الحالك المجعد، الذي لم يتجاوز الاثنين وعشرين ربيعًا اشتد ساعده، يرتدي الملابس الأنيقة ويركب المرسيدس التي لم يقتنها في القرية كلها سواه، أرى البيت والزوجة والأولاد السبعة يجرون حولي حتى نزلت في دمشق.

شعرت بقصر الطريق كأني سافرت من كفر الشيخ إلى طنطا، ورغم سفري بصحبة مصرييْن لم نتجاذب أطراف الحديث كعادتنا في السفر الطويل.

اطلع ضابط الحدود على جواز سفري، وسمح لي بالدخول.

لا أفكر سوى في الوصول إلى الحلم الذي دونته في ورقة صغيرة برغم أني لم أكن بحاجة إليها؛ كل هدفي في تلك اللحظة هو نهر الموت.

جميلة دمشق تشبه القاهرة كثيرًا، نفس طيبة الأهالي، حتى الوجوه يشع منها الدفء والود.

مر الوقت، لم تظهر أي فرصة للسفر ولم أتعرف إلى مَن يساعدني حتى التقيت بيوسف ابن قريتي المقيم في لبنان، حضر إلى الفندق ليساعد شقيقه على اللحاق به.

رتب لنا السفر إلى مدينة طرطوس الحدودية، غير أنه حذرنا: "السفر مهمة شبه مستحيلة حيث تطارد الشرطة المهربين والسماسرة، آخر متسلل وصل مصابًا برصاصة في كتفه لكنه نجا من الموت، وتمكن بصعوبة من عبور الحدود والطريق الوعر والجو شديد البرودة! "

وصلنا فندق أفاميا البسيط في خدماته وتنظيمه، وبرغم أني لم أسكن الفنادق من قبل لكنه لم يكن بفخامة الأماكن التي نسمع عنها، أقمنا ليلة واحدة، غادر بعدها يوسف إلى بيروت بعدما اطمأن للترتيبات التي قمنا بها.

سألْنا إن كانت هناك فرصة للسفر غير أن سوء الحظ جعله في تلك الليلة مستحيلًا؛ لأن المجموعة المسافرة قد اكتمل عددها. تجدد الأمل بعد ظهور مجموعة تخطط للسفر فى اليوم التالي.

توجست في نفسي خيفة؛ طلب السمسار المصري أن أتحدث مع شقيق الشاب الذي وصل قبل يوم واحد، قال: "أنت مع أحسن ناس".

امتلأ قلبي بالاطمئنان؛ دفعت مائة دولار وانطلقنا على أن أدفع المائة المتبقية بمجرد وصولي، كان أحدهما يكبرني بما يزيد على عشرة أعوام أما الآخر فكان يصغرني بقليل.

انطلقت الرحلة في العاشرة مساءً من الفندق إلى حمص ثم حلب حتى وصلنا إلى طريق جبلي، تساقطت الثلوج؛ احتمينا بحديقة تحيط ببيت فخم.

أمرَنا المهرب بعدم الخروج حتى نسمع كلمة السر "ليلة العمر"، فالتزمنا بما قال.

كنت حاضر الذهن، بينما غلبهما النعاس، أترقب سماع كلمة السر، تخوفت ربما لن يرجع: أنا غبي؛ دفعت مائة دولار لمهرب، لمن نشكو لو غدر بنا؟ ومَن المصري الذي رد على الهاتف؟ ربما يعمل لصالح تلك العصابة، لن أسمع كلمة السر مجددًا!

لم أصدق أذناي عندما سمعتها؛ ها قد عاد لكنه طلب المائة دولار الأخرى؛ أقسمت أن أدفع عند الوصول، أما الآخران رفضا الدفع وطلبا منه الالتزام بكلمته؛ لأن الاتفاق كان واضحًا من البداية.

سرنا معًا قرابة الساعة حتى قال: "إننا الآن قرب الحدود، ابقوا في هذه الحديقة، ممنوع الخروج إلا بعد سماع كلمة السر".

مرت الساعات بطيئة حتى سمعنا المنادي : "الصلاة خير من الموت!"

أشرقت الدنيا على كابوس؛ لم يعد المهرب، ولم تكن "ليلة العمر"، توجهنا تلقاء المنازل، ساعدَنا الأهالي على العودة.

قبل أن ألتقط أنفاسي أو أدرك حقيقة ما جرى أو أستحم من غبار الطريق الذي أتجرع مرارته في حلقي مختلطًا بما لاقيت من ضياع، دخل رجل أنيق الملبس، هادىء الخطوة متوسط القامة حليق الشارب واللحية، يسأل بصوت حذر عن مصري يبحث عنه في كل مكان، يدعى فتحي. خفض موظف الاستقبال في كدر صوت أغنية جورج وسوف «كلام الناس»، كرر الرجل سؤاله بصوت مسموع، قلت في نفسي: يمكن من طرف المهرب ويرجع فلوسي، فأقبلت عليه مندفعًا: "أنا فتحي".

على الفور، داهمت قوات الشرطة الفندق، تم اقتيادي إلى جهة أمنية لا أعلمها، ربما في أمن الدولة أو المخابرات السورية حيث قُيدت حريتي.

أتذكر لحظة دخولي المعتقل، تلك اللقطة المحفورة في ذهني أرى فيها سماء كئيبة باللون الرمادي، مع شجيرات خالية من الأوراق تمامًا، ويظهر من بعيد شكل المبنى في لقطات سريعة جدًا ومتقطعة.

أُلقي بي في حجرة تعج بالمقبوض عليهم بتهمة الهجرة غير الشرعية عبر وسيطيْن مصرييْن اسماهما فتحي عبد البر وفتحي أبوالمجد من المحلة، لم يفلحا سوى في تهريب واحد فقط تمكن من الهرب برغم إصابته بطلق ناري في كتفه!

أدركت سبب ضبطي؛ يتهمني رجال الشرطة بالعمل مع عصابات التهريب؟!

بعد أقل من ساعة، تم ضبط الأول؛ شعرت بسعادة غامرة، لكني دعوت أن يُضبط الآخر.

في صباح اليوم التالي تم ضبطه، لكن أمرًا غريبًا حدث: مر شهر بعد ترحيلنا إلى دمشق دون توجيه اتهام إلينا، قضيت الليل في البكاء والنهار أتفكر في الويل الذي لم يخطر ببالي!

تلاحقني لقطات للسجن، له سقف من حديد مغطى بأسلاك، ملحق بنفق كبير على جانبيه زنازين لا أعرف لها نهاية، لا تتسع الزنزانة إلا لسجين واحد، ومع ذلك تم احتجاز ثلاثة في كل واحدة، أما الزنزانة الكبرى فكان النظام فيها يبتسم للأقدم، فيحق له الاستناد إلى الجدار لكن المستجد ينام أسفل أقدام الآخرين على جانبه دون أن يريح ظهره، ننام في أحضان بعضنا تلتف ساق أحدنا على جسد الآخر!!

أقيم الحمام خلف جدار في نفس الزنزانة، به دلو مملوء بالماء، بلا باب؛ أقضي حاجتي أمام النائمين بجواره!

ضرب القمل المكان، كنت أعاني بشدة؛ لم أمر بمثل تلك الأيام في حياتي: النوم والاستيقاظ بالأمر، الفطور أذان الفجر، والنوم العاشرة مساء أما الاستحمام يستغرق دقيقة، أخرج بعد سماع الصافرة، والجَلد عقابي إن لم أفعل.

في أول يوم من الشهر الثاني، بعد معاناة تم استجوابي، سماع صوت الضرب والصراخ المنبعث من الزنازين الأخرى كان مرعبًا.

أشعر بدوار، وبعد نظرات متعددة وسريعة ومتقاطعة تتوقف عيني أمام فتحة صغيرة عليها قضبان حديدية تتوسط الشرفة الرمادية بلونها الداكن على يسار غرفة التحقيق، ثم تدور كي تكون في مواجهة الضابط الجالس على كرسي ومن خلفه يظهر باب الغرفة مغلقًا. ينفث دخان سيجارته في ضيق مع حركة متغيرة لصدري يعلو ويهبط، تخرج زفراتي مغمومة متسارعة، تتلاشى أدخنة السيجارة الكثيفة وهو يستمع إلى أقوالي مثلما فعل مع الآخرين، قلت: "أتيت لشراء ملابس أعود بعدها إلى الأردن".

تم إعادة استجوابي بعد عشرة أيام، توقعت أن يتم إطلاق سراحي، حتى أبوجعفر، المهرب السوري، قال: "دخيل الله اهدى شوي، بلا حكي فاضي، بتاخد إخلاء سبيل، أنت ما إلك علاقة بالتهريب".

تجاهل الضابط ما سمع من أقوال ظنًّا منه أن فتحي ربما يكون اسم حركي لكل أفراد التشكيل العصابي وربما أعترف بعد قليل من الضغط النفسي أو الإيذاء الجسدي!

منتصف ليل الثلاثاء، تم عرضنا في طابور أمام المقبوض عليهم الذين تعرفوا إلى المجرميْن بينما أنكروا أي معرفة بي.

في اليوم الأخير من الشهر الثاني، تم اقتيادي معصوب العينين لغرفة التحقيق، ووضعي على كرسي حديدي، بوضعية غير مريحة؛ ربط أحدهم ساقيَّ في سلاسل وشد ظهري وعنقي للخلف، وجلست في وضع القرفصاء، لكنهم لم يجلدوني كما حدث مع من ثبتت إدانتهم.

كررت نفس الأقوال: "لشراء ملابس من سوريا"؛ ضربني بركبته في وجهي: "اخرس يا كلب .. يا عرصه .. يا أخو السافلة ... !"

كاد الصراخ المرعب الذي يغلف أجواء المكان يهزمني نفسيًّا، حاول الضابط إجباري على الاعتراف حتى يتم ترحيلي إلى مصر لكني بقيت متماسكًا حتى النهاية؛ فك وثاقي من الكرسي الحديدي، وسمح لي بالجلوس.

لم أستطع النهوض؛ فزحفت على كتفي وصدري حتى وصلت إلى الكرسي. بعد عشر دقائق، بصعوبة كبيرة وبطء شديد نظرت إلى الضابط وعلامات الدهشة لا تفارق وجهي، تمكنت من النهوض، لكنها المرة الأولى التي تنتصب قامتي ذليلًا؛ لم تجف دموعي لدرجة أني كرهت السفر، تمنيت لو لم أخرج من داري، وصلت إلى قرار: "لو الجنة في لبنان ممنوع التفكير فيها مرة ثانية".

تملكتني الدهشة أحدث نفسي: "تفتخر كل دولة بالسيطرة الكاملة على شريطها الحدودي مع جارتها؛ لمنع عمليات التسلل الإرهابي والتهريب! متى أنتقل بين كل دول العالم دون قيود؟ إلى متى يظل السفر إلى دولة مجاورة -نتشارك معها في اللغة والتاريخ بل في كل شيء- اتهامًا؟! ماذا يحدث إن حاولت السفر إلى أمريكا إذًا؟"

يحاصرني طيف ابنة الجيران المتأنقة المعطرة بوجهها الجميل البيضاوي المشرق وجسدها الفاتن وشعرها الكستنائي وعينيها العسليتين بأهدابها الطويلة وبشرتها البيضاء، أرى وجهها بوضوح ويلاحق خيالها ذكرياتي؛ فأرتعد في غبطة. كلما طاردتني هذه الأيام كالحطام المتناثر أمامي تجذبني بشدة لأتماسك بعدما أدركت أني أحببتها بضراوة لدرجة أن حبها ترك في حياتي جرحًا مقروحًا، فلا عجب أن وجدت نفسي أتساءل: "إن عاد بي الزمن، هل أركب يومًا نفس الأتوبيس المنطلق من عمان باتجاه دمشق في رحلة جديدة إلى نهر الموت من أجلها؟!"

بعد عشرة أيام، في اليوم السبعين، تكرر النداء الذي حفظه كل من في السجن: "تلاته فتحي وواحد أبو جعفر"، أما هذه المرة تغير النداء : "فتحي المنجد، براءة!"

لا أحمل أية أموال بعد اختفاء المهرب، يعلم الضابط حقيقة وضعي، قال: "فتحي، مبروك البراءة.

أنا رحمتك وتعاملت معك بطيبة لكن لو رجعت!

وأشار بإصبعه السبابة مهددًا،ثم أكمل، تخرج ترجع على الأردن وإياك تلتفت" .

خرجت في الثالثة عصرًا، كانت السماء ملبدة بالغيوم، أتضور جوعًا، بطريقة ما عدت، استقبلني أبا شاكر، صاحب فندق أفاميا، بترحاب ودفع أجرة التاكسي. سمعت في بهو الفندق بترتيب رحلة الليلة إلى لبنان، غلبني الضحك متذكرًا ما مر بي على مدار سبعين يومًا حتى ملأت الدموع عيني، تذكرت حينئذ أمي تطعمني اللحم الشهي في فمي، ناديت بوجع وفمي مليء بالمرارة: "آه، الذل في بُعدي عنك يا أمي، محتاج لحضنك قوي".

صارحت أبو شاكر بما وقع لي، انزعج للغاية غير أنه شجعني على السفر مع مهرب سوري موثوق به يقبل وساطته على أن أدفع مائتي دولار في نهر الموت.

تفكرت في الأمر متذكرًا تهديد ضابط المخابرات السورية بالعذاب الأليم الذي ينتظرني إن رآني للمرة الثانية!

تكررت كل المشاهد واللقطات المرعبة في ذهني، التفتُّ إلى أبي شاكر بصوت مليء بالحسرة قلت مهددًا: "لو الشرطة قبضوا علينا، أنت المسئول وزعيم عصابة التهريب، ساعتها تكون وراء الشمس!"

تبسم ضاحكًا من قولي، فاجأني عندما وافق، فعقدت العزم على السفر!

وقفت ساهمًا، أفكر فيما حدث، وأسبح في فضاء حجرة الاستقبال شديدة الإضاءة برغم أنها تبدو في عيني كالقبو المعتم، أناجي نفسي في حيرة: "لن أخسر شيئًا؛ لا أملك أي نقود، لو رجعت إلى الأردن سوف أعمل بثمن بخس، ولو عدت إلى مصر فالحال أسوأ؛ إذًا لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. بعد مغرب اليوم الأول من خروجي من المعتقل السوري، ومع كل ما رأيت من صنوف العذاب الجسدي والألم النفسي، أنطلق عائدًا في هجرة غير شرعية إلى لبنان! هل أطوي الصفحات المؤلمة لأبدأ صفحة مليئة بالبهجة أم أن كتابي لا يحمل سوى الخيبات؟!"

انطلق المهرب السوري بسيارته، تبعه الأتوبيس بنا حتى حمص ثم ركبنا سيارة أخرى إلى طرطوس. في الطريق، رويت قصة السبعين يومًا في المعتقل السوري للمصرييْن الآخريْن، فقُذف في قلبيهما الرعب؛ دُهشا من المجازفة والمخاطرة بعد هول ما رأيت، لم يستغربا ردي: "لو الشرطة قبضوا علينا، أفضل يفرغوا رصاصات سلاحهم في قلبي على الرجوع للمعتقل".

نزلنا من السيارة، لكن هذا السوري لم يطلب منا المئة دولار الأخرى كما فعل السابق، مررنا بوديان وجبال، أرتجف من الخوف برغم برودة الجو لكن الرعب من دوريات الشرطة كان سيد الموقف، داهمنا صوت يأمرنا بالتوقف!

توجه المهرب السوري نحوه، أما أنا فقد سلمت قدماي للريح، اختبأت تحت شجرة وبالمثل فعل زميلاي. عاد المهرب الذي قال إننا جميعًا سوريون نجلب السجائر المستوردة من بيروت، ووعد بترضيته بعد العودة.

مشى معنا لمدة ساعة حتى لمح دورية خيَّالة مسلحة تابعة لقوات حرس الحدود.

جلسنا بلا حراك أسفل أشجار التين تتدلى أوراقها على الأرض، اتفق معنا في همس على كلمة سر "ورد بلدي"لنجتمع بعد سماعها من جديد، مر رجال الشرطة تدوس حوافر خيولهم أمامنا، نظرتُ إلى أقدامهم وهم على رؤوسنا، فقلت في نفسي: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا".

بعد دقائق من الترقب، نادى السوري بكلمة السر التي أعادتنا إلى الحياة، وصلنا إلى الحدود اللبنانية منتصف الليل، تلقينا تعليمات صارمة حتى تمر الليلة بسلام: "ممنوع فتح أي شباك، أو الخروج لأي سبب".

تخوفت أن نلدغ للمرة الثانية ويذهب هذا المهرب دون أن يرجع كسابقه، لم يهدأ قلبي حتى قرأت كلمة لبنان على لوحة معدنية لسيارة متروكة بجوار المبنى.

دلفنا إلى البيت، قلَّ الخوف وهدأ اضطراب أعصابي الثائرة غير أن القلق ما زال يمارس هوايته معي في عدم إكمال سعادتي، خلدت إلى النوم المؤرق بالفزع برغم شعوري بالجوع الشديد.

في مساء اليوم التالي، تم تسليمنا إلى مهرب لبناني نقلنا إلى بيت آخر، أكثر اتساعًا كأنه نزل فندقي، يضج براغبي السفر عبر الحدود من مختلف الجنسيات. التقيت بأناس من تونس والجزائر والمغرب والسودان و اليمن ... تجمعهم نفس الرغبة في الهرب من جحيم الفقر، حينئذ طلب اللبناني قيمة الرحلة، رفض المغاربة الدفع قبل الوصول، فتركهم واصطحب من دفع فقط. توسلت إليه أن يدفع أخي قيمة المبلغ -مزيدًا عليه إن أراد- بعد الوصول، فوافق على استثنائي.

انطلقنا في مجموعة كبيرة، لكن اللافت للنظر هو سفر شيخ مصري من محافظة الفيوم أشيب الشعر واللحية يقف على حافة الحياة يُدعى عبد التواب حماد! سألته متعجبًا، قال: "يرفض ولدي الوحيد العودة بعد أن فتنته الدنيا والأموال، وتتمنى أمه رؤيته قبل موتها!"

مشينا في جبال ووديان وأحراش، برغم تمتع الشباب بالصحة لكن هذا الشيخ كان أسبقهم وأكثرهم همة!

أدهشني حين رفع بصره إلى السماء قائلًا: "أيُفعل هذا بي وأنا رجل مسن مريض؟ هل هذا رد الجميل يا ولدي؟ متى تصير كل دول العالم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد؟ متى أرى لافتة "هنا تنتهي الحدود المصرية"وفي خلفيتها "مرحبًا بكم في الحدود الليبية"ولا تفصل بين الجارتين سوى لافتة أو علامة؟"

استند على كتفي الأيسر بيده اليمنى ثم نظر إليَّ بإمعان متحدثًا بألم: "مهما دخلت أفخم الأماكن، وجربت النجاح والفشل، والغنى والفقر، والتجربة والسفر، لا تنس أن وجودك موصول بأبيك وأمك، سبب وجودك في الحياة، بعيدًا عنك حياتهما لا قيمة لها، ومعنى السعادة في لحظات رؤيتهما لك. لو وقف الأسد في مكانه، لن تأتيه الظباء طوعًا؛ لذا سافر واغتنم كل فرصة ممكنة لكن احذر أن تأخذك الغربة كما خدعت ولدي، فينقلب حلمك إلى كابوس يكاد يقتل من لم يحلم بشيء سوى أن يحملك رضيعًا بين يديه".

وصلنا إلى نقطة محددة، ركبنا سيارة وتم التنبيه علينا إن قابلتنا دورية شرطة أن نقول: "نتجه نحو السكن بعد فراغنا من العمل في مزرعة مجاورة".

وصلنا إلى مكان آخر كما هو مخطط، قمنا بتغيير ملابسنا، لتبدأ عملية التوزيع. جالت بخاطري المخاوف، ربما يتم التخلص منا بأي طريقة أو يتم إنزالي من السيارة!

أحضر المهرب الطعام، لا أعرف لماذا امتنعت عن تناوله برغم شدة شعوري بالجوع!

حدث ما كنت أخشاه، طلب مني النزول من السيارة بسبب مرورنا بنقطة تفتيش، رفضت، أوضح أن الضابط لا يحق له تفتيش المارة المترجلين؛ نزلت. تكرر الأمر ثلاث مرات حتى وصلنا.

أسعد لحظة في حياتي حين قال: "أقرب مكان هو نهر الموت".

قلت: "مصنع كرم للإسفنج".

وصلت السيارة إلى المنطقة، سألنا عن اسم المصنع، لصدمة الجميع، عرفنا أنه احترق قبل أسبوع!

أصابني الذعر، هدأ المهرب من روعي حتى وصلنا إلى باب المصنع، وجدنا عمال ينظفون آثار الحريق، سألت عن يوسف، قال أحدهم: "مات!"

لم تقدر قدمي على حملي، شعرت أن ركبتي اليسرى ترتطم بالأرض، ثم قال: "يوسف ميشال عون مات من أسبوع".

سألته: يوسف حسن، اسمه يوسف حسن سلام، مصري من كفر الشيخ".

أومأ برأسه: "المصري، بسبع أرواح مثل القطط، ما صار له شي".

هدأت وحاولت النهوض، جاء مسرعًا، فاحتضنته وقبّلته: "يوسف، يوسف، يوسف!"

عادت إليَّ روحي، لم أشعر بنفسي سوى عندما تحدث المهرب اللبناني يتعجل المغادرة، أخذ يوسف جواز سفري وأعطاه مائتي دولار، ثم تواصل هاتفيًّا بأخي الذي جاء على جناحي نسر.

حاول أخي أنور التواصل مع والدتي لكن الاتصالات كانت سيئة للغاية، وبخاصة في هذا الوقت من العام. في ظهر اليوم التالي، لم تصدق أنها تحدثني حتى ذكَّرتها بالدفء الذي يغمرني حين تضع الطعام في فمي؛ وكانت ذات مزاج متشائم؛ فأجهشت بالبكاء، تتحسر على حرمانها من كل أبنائها، ثلاثة في العراق واثنان في لبنان، والزوج بالسعودية، قائلة: "يعني أموت من الوحدة؟ السفر حرمني من كل أحبابي!"

عدت بعد فترة، لم أتذوق خلالها طعم الغربة، أتحرك في شوارع لبنان بلا خوف، أمضي أطيب الأوقات في لعب كرة القدم، وأذهب إلى الشاطىء يوم الأحد، لا أترقب سوى الحصول على الإقامة.

سني مصري يعمل لدى مسيحي لبناني مع ثلاثة: شيعي يمني و عَلوي سوري و دُرزي لبناني، لم نختلف يومًا أو يسأل أحدنا عن شيء لم يبدأ الآخر الحديث فيه، لم أتجادل معهم؛ إذ سعيت من أول يوم لكسب قبولهم ولم أخسره، ولو أقمنا معًا لعقود بعد ذلك ما وقع بيننا أي خصام يورث الخصومة على الرغم من الضيق في بعض الأحيان بسبب التفاوت في الأجر بيننا.

أذكر ليلة الاحتفال بعيد ميلاد صاحب العمل مع بناته وزوجته، أشرب العصير دون أن يجبرني أحد على تناول الويسكي، تتراقص بناته فأرى ما يجعل جسدي يستعر من لظى الحركات المتمايلة التي أيقظت الرجل الكامن في جسدي، ولست آسفا على انصرافي مبكرًا أكثر من أسفي على تعلقي الشديد بابنته الكبرى، تحججت بالذهاب لقضاء حاجتي، كنت أنوي تقبيلها لكن في الوقت الذي أوشكت على معانقتها والاعتراف بحبها ارتبكت متذكرًا ابنة الجيران في مصر فغادرت المكان على الفور.

قبل عودتي ببضعة أسابيع دُعيت إلى سهرة، انقبض قلبي لحظة دخولي ذلك البيت المفعم بكل ألوان التحرر، فعدت ألوم نفسي وفي سجودي بكيت مترددًا بين البقاء والعودة.

قررت الرحيل إلى بلدي محتفظًا بمحبة كل من عاشرتهم.

مر أسبوع مع أمي، تلقيت اتصالًا من أنور: "يا خسارة، كان لا بد تصبر يا أخي، كل عمال المصنع في سابع سما؛ أخيرًا بعد طول انتظار وزارة الداخلية فتحت الإقامات".

لم أحزن سوى على ألمي من شوقي الشديد إلى رفاق الغربة، لكني حزنت أيضًا لوفاة الشيخ عبد التواب قبل بضعة أسابيع، أذكر ملامحه ليلة هروبنا معًا بوضوح، أسترجع صورته في بصيرتي، أذكر كم كنت أحبه. حضور ولده حفل زواجي، بصحبة والدته وزوجته الحسناء اللبنانية، أسعدني كثيرًا، وزادت فرحتي أضعافًا عندما علمت مدى ابتهاجه في آخر عمره بإعادة ولده، ورؤية حفيده الصغير الذي يشبهه كثيرًا، ببشرته الناعمة البيضاء، ورموشه الطويلة، وضحكته الجميلة التي تظهر منها أسنانه الصغيرة.

حملت الطفل ثم قبلته معترفًا: "عدت أنشد من زواجي الدفء العائلي التقليدي بعدما أخذت من الغربة ما يكفيني، ومهما حدث لن أشهد أبدًا طيلة عمري أهوالًا تشبه تلك التي صادفتني بصحبة جدك في طريق الهجرة إلى لبنان".

في صباح اليوم التالي لزواجي، تلقيت اتصالًا انتظرته من أنور على أحر من الجمر.

لدهشتي، بدلًا من سماع صوت أخي، أجاب يوسف بصوت متحشرج يخرج بصعوبة: "أثناء استقبال ثلاثة من المتسللين، أشقاء زملائه بمصنع الإسفنج، أحدهم جزائري والثاني فلسطيني والثالث سوداني، نجا طفل عمره خمس سنوات كان بصحبة والده الفلسطيني، بينما مات أنور برصاصة في رقبته من الخلف، ولقي المهرب والمتسللين مصرعهم قرب الشريط الحدودي قبل وصولهم إلى نهر الموت!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى