في العام الدراسي1949 ـ1950 كنت في السنة السادسة بمدرسة بلدتنا الإلزامية, وكان عاما دراسيا حافلا بالمفاجآت.
فلقد أحيل الناظر الشيخ حسن الزيات إلي المعاش لبلوغه السن القانونية, وجاءنا بدلا منه ناظر جديد من بلدتنا هو الشيخ عبدالباري عبادة. وأضيف إلي معلمينا كل من محمد افندي العسلي ـ الذي قيل إنه راسب في امتحان كفاءة المعلمين ولكن الوزارة اضطرت إلي تعيينه نظرا لازدياد الحاجة إلي معلمين ـ ومحمد افندي حسن ريشة الذي كان معلما في بلدة أخري لسنوات عديدة قبل أن تنقله الوزارة إلي بلدتنا, وبعد شهر أو أكثر قليلا انضم إلي المدرسة عبدالفتاح افندي مهيا وهو أيضا من نفس البلدة وكان يعمل هو الآخر في بلدة أخري مجاورة, وهكذا أصبح جميع معلمينا من أبناء بلدتنا نعرف أهاليهم ويعرفون أهالينا: محمد افندي راضي حامد, عبدالمجيد افندي حامد, قمر افندي الشرنوبي, سيد افندي جابر, محمد افندي العسلي, محمد افندي ريشة, عبدالفتاح مهيا, إضافة إلي الناظر الشيخ عبدالباري عبادة وجميعهم من عائلات كبيرة ذات شأن في الزراعة أو تجارة المحاصيل الزراعية, كذلك أضيف إلي المدرسة فراش جديد لمساعدة محمود المهدي اسمه هو الآخر محمود ولقبه حمامو. كان الشيخ عبدالباري عبادة رجلا في غاية اللطف والدماثة وخفة الظل. في داخله طاقة مرح مقموعة بإرادته لكنها تغلبه في مواقف كثيرة فإذا بك أمام رجل فيه انسانية مبذولة, شديد الاقناع والمؤانسة بحلو الحديث وطلاوته وامتلائه بالحكمة والموعظة الحسنة, في صياغات بليغة لامعة جاذبة. كان معلما بالسليقة, خلقه الله علي هذا التصميم ليكون معلما, فزوده بموهبة الوضوح في الشرح الجلي, في القدرة علي التبسيط دونما ابتذال أو ترخص في الألفاظ. العبارات الوجيزة ذات الكلمات المعدودة التي تقرؤها في قصيدة من المحفوظات أو في موضوع في كتاب المطالعة تتحول علي لسانه إلي معان كبيرة جدا ومشرقة, نشعر ونحن نستمع إليها كأنها تتمدد في أدمغتنا فتوسعها, فتشعر لذلك بمتعة فائقة, تعلو الابتسامات ثغورنا طوال حصة الشيخ عبدالباري, ولعله أحد أهم معلمي, حيث أشعرني في سن مبكرة بجمال وجلال اللغة العربية عند نطقه لها بإيقاع طه حسين حينما يقرأ علينا نصا. ولعله كذلك أول من لفت نظري إلي المسرحيات الشعرية لأمير الشعراء أحمد شوقي بك وبخاصة مجنون ليلي ومصرع كليوباترا, وكنت أشعر بالغيرة من ابنه الأصغر, زميلنا عبدالفتاح ـ توحه ـ الذي كان يحفظ مسرحية كليوباترا عن ظهر قلب. أما الشرح عند الشيخ عبدالباري, فبالبلدي, بالعامية الأليفة رغم امتلائها بشحنات ثقافية ومعان عميقة نشعر بلذة كبيرة إذ يوصلنا هو بالايحاء وباستخدام حركة اليدين وتعبيرات وجهه إلي إدراكها. إنه يشرح في لهجة ودود تشعرنا بشيء من الندية, كأننا صرنا رجالا مثله يجالسنا علي مصطبة داره ويتحدث إلينا في حديث ذي شجون. تنتفي الرهبة من الدروس الثقيلة المعقدة, يتحول الدرس ـ مهما ثقلت مادته ـ إلي موضوع للدردشة الحميمة, وحين يندمج في الشرح يمثل بأسمائنا في بعض المواقف كأن يقول: علي سبيل المثال أنا ميلت علي جاري عطية شرف ـ الذي هو تلميذ معنا في الفصل ـ وقلت له: يا عطية يا اخويه أنا في وضع كيت وكيت, ألاقيش معاك قرشين لحد ما يخش محصول القطن؟ فعطية شرف ـ ويرد بلسان عطية شرف متقمصا شخصيته ـ رد علي وقال لي كذا كذا كذا, ويكون الرد فيه شهامة وحسن تصرف وإيثار. مما يجعل عطية شرف يرفع رأسه والزهو الجميل علي ملامحه بل علي ملامحنا جميعا إذ إننا لحظنا إن لم نكن كلنا قد صرنا عطية شرف فعلي الأقل صار عندنا استعداد للرد هكذا علي من يطلب منا طلبا كهذا. صوته كان خشنا وغير موسيقي. إلا أنه كان معبأ بالمشاعر الحية المؤثرة فيمن بسمعه تأثيرا قويا بقدرة صوته ـ رغم خشونته ـ علي تلوين العبارات تبعا لما تتضمنه من مشاعر ـ إنه وريث فن الخطابة وهو أحد أهم أبواب البلاغة العربية. وكنت كثيرا ما أحضر له خطبة في الجامع الكبير في ميدان الرحبة القريب من داره المتميزة بكونها مبنية بالطوب الأحمر وذات قراندات عريضة مطلة علي الحارة ومن خلفها زريبة للماشية إذ إنه في نفس الوقت يمارس الفلاحة بالإشراف علي زراعة أرض له يزرعها نفر من عياله وعيال عائلته. فإذا بخطبته علي المنبر غير تقليدية مثله تماما. ذلك أن مظهره نفسه غير تقليدي من الأساس, فبرغم حصوله علي عالمية الأزهر الشريف كان نادرا, بل نادرا جدا, ما يلبس الجبة والقفطان مع أن لقب الشيخ ملازم لاسمه وألصق به من لقب حضرة الناظر, الذي لم يكن يتحمس له علي كل حال.. لم يكن يتورع عن الذهاب إلي المدرسة بالجلباب والعمامة وبنفس الجلباب والعمامة يصعد إلي المنبر, يظلع في مشيته قليلا, يبدأ الخطبة بالحاشية المحفوظة ولكن باختصار شديد, بلا سجع بلا تكرار بلا إطناب, ينهيها مصليا علي النبي الكريم أشرف الخلق وخاتم المرسلين, ما يلبث حتي يقرن هذه الصلاة بعدم رضائه صلي الله عليه وسلم عن كذا وكيت من الأمور التي تكون قد حدثت خلال الأسبوع المنصرم, في بلدتنا أو في بلدة مجاورة أو حتي في مصر العاصمة أو ربما في فلسطين أو كوريا أواليابان أو في دولة لم يسمع بها عامة المصلين لكنهم سوف يعرفون منه الكثير عنها بعد قليل. يستعرض مافي الحياة من مظالم, وما في سلوك الناس من شين وعار, لا يستشهد بآية قرآنية أو حديث نبوي شريف إلا أن يكون الاستشهاد في المكان الملائم تماما حتي ليبدو وكأن الآية الكريمة أو الحديث الشريف قد قصدا إلي هذا المعني علي وجه التحديد, فكأن المصلين قد رأوا تشخيصا واقعيا حيا لمعني الآية أو الحديث لم يكن ليخطر لهم علي بال, فتمصمص الشفاه وتبتسم, تخرج من بينها همهات الاستحسان والاستغفار وطلب العفو والستر من الله. الواقع أن الشيخ عبدالباري عبادة لم يكن متفردا في هذه الظاهرة, بل لعله كان جيلا بأكمله من الأزهريين الخلص, الذين يحق لهم أن نصفهم بالمنارات دون تزيد أو مبالغة أو بقششة في الأوصاف, الكثيرون منهم حصلوا علي عالمية الأزهر الشريف وعادوا إلي قراهم علماء بغير وظيفة رسمية حكومية, اللهم إلا تفليح أرض ورثوها عن آبائهم, أو يباشر بعضهم عملا تجاريا موسميا, أو يعمل مأذونا شرعيا, أو يبقي رأسا لعائلة تفخر به وتكتسب بفضله عزة فوق عزة. إلا أن مجرد وجودهم في البلدة ـ أي بلدة ـ يكون مصدر إشعاع, ليس دينيا فحسب بل ثقافيا وعلي درجة عالية من الاستشارة والشعور بالمسئولية الانسانية أولا ثم الوطنية ثم القومية الإسلامية, يقدمهم الناس إلي منابر المساجد, والإمامة. ويلجأ إليهم الناس في طلب الفتاوي إذا استعصي عليهم أمر من الأمور. فإن أفتوا كانوا بشرا ومواطنين بالدرجة الأولي, يستخدمون عقولهم وما وهبوا فيها من علم, ليس لاخافة الناس وإرعابهم من عذاب القبر ونار جهنم, ليس بإظهار الله سبحانه وتعالي كمنتقم جبار فحسب, وإنما لتيسير الأمور وإرشاد العقول الجامحة وهدهدة النفوس الحائرة وتطمينها وزرع الأمل فيها اعتمادا علي الرحمن الرحيم القابل للتوبة غافر الذنوب متي استقام المذنب عن حق وصدق. في كل عائلة, كبرت أو صغرت, شيخ علي مستوي أو آخر من التعليم, ربما كان حاصلا علي ابتدائية أو ثانونية الأزهر, ربما عجزت أسرته عن إكمال نفقاته فعاد قبل الحصول علي العالمية, وربما أكمل العلم بعد العالمية وهو مقيم في بلدته يقرأ ويدرس ويعظ ويتقدم للإسهام في حل ما ينجم بين الناس من مشكلات قبل أن تتفاقم إلي عركة يعلم الله نهايتها. والواحد منهم متي لبس الجبة والعمامة جاهد حتي يكون جديرا بهما سواء أكمل تعليمه أو لم يكمل. ولقد شغلتني هذه الظاهرة الطيبة منذ الصغر, ظاهرة أن كل عائلة في البلدة فيها شيخ:ومن حسن الحظ أن إشعاع الإمام الشيخ محمد عبده كان في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين لايزال حاضرا بقوة. كان علمه الحداثي تطويرا عظيما للخطاب الديني, متماهيا مع سماحة الإسلام واتساع أفقه حيث العبادة تعني العمل, والصلاة تعني يقظة الضمير والتقوي, والتقوي تعني الإخلاص في تنوير العباد وإرشادهم إلي السلوك القويم. فكان طبيعيا أن يكون للإمام الأكبر أحفاد كالشيخ عبدالباري عباده وأبناء جيله العظماء الذين كان من حسن حظ جيلنا أن تربينا علي أيديهم المباركة.
خيري شلبي
فلقد أحيل الناظر الشيخ حسن الزيات إلي المعاش لبلوغه السن القانونية, وجاءنا بدلا منه ناظر جديد من بلدتنا هو الشيخ عبدالباري عبادة. وأضيف إلي معلمينا كل من محمد افندي العسلي ـ الذي قيل إنه راسب في امتحان كفاءة المعلمين ولكن الوزارة اضطرت إلي تعيينه نظرا لازدياد الحاجة إلي معلمين ـ ومحمد افندي حسن ريشة الذي كان معلما في بلدة أخري لسنوات عديدة قبل أن تنقله الوزارة إلي بلدتنا, وبعد شهر أو أكثر قليلا انضم إلي المدرسة عبدالفتاح افندي مهيا وهو أيضا من نفس البلدة وكان يعمل هو الآخر في بلدة أخري مجاورة, وهكذا أصبح جميع معلمينا من أبناء بلدتنا نعرف أهاليهم ويعرفون أهالينا: محمد افندي راضي حامد, عبدالمجيد افندي حامد, قمر افندي الشرنوبي, سيد افندي جابر, محمد افندي العسلي, محمد افندي ريشة, عبدالفتاح مهيا, إضافة إلي الناظر الشيخ عبدالباري عبادة وجميعهم من عائلات كبيرة ذات شأن في الزراعة أو تجارة المحاصيل الزراعية, كذلك أضيف إلي المدرسة فراش جديد لمساعدة محمود المهدي اسمه هو الآخر محمود ولقبه حمامو. كان الشيخ عبدالباري عبادة رجلا في غاية اللطف والدماثة وخفة الظل. في داخله طاقة مرح مقموعة بإرادته لكنها تغلبه في مواقف كثيرة فإذا بك أمام رجل فيه انسانية مبذولة, شديد الاقناع والمؤانسة بحلو الحديث وطلاوته وامتلائه بالحكمة والموعظة الحسنة, في صياغات بليغة لامعة جاذبة. كان معلما بالسليقة, خلقه الله علي هذا التصميم ليكون معلما, فزوده بموهبة الوضوح في الشرح الجلي, في القدرة علي التبسيط دونما ابتذال أو ترخص في الألفاظ. العبارات الوجيزة ذات الكلمات المعدودة التي تقرؤها في قصيدة من المحفوظات أو في موضوع في كتاب المطالعة تتحول علي لسانه إلي معان كبيرة جدا ومشرقة, نشعر ونحن نستمع إليها كأنها تتمدد في أدمغتنا فتوسعها, فتشعر لذلك بمتعة فائقة, تعلو الابتسامات ثغورنا طوال حصة الشيخ عبدالباري, ولعله أحد أهم معلمي, حيث أشعرني في سن مبكرة بجمال وجلال اللغة العربية عند نطقه لها بإيقاع طه حسين حينما يقرأ علينا نصا. ولعله كذلك أول من لفت نظري إلي المسرحيات الشعرية لأمير الشعراء أحمد شوقي بك وبخاصة مجنون ليلي ومصرع كليوباترا, وكنت أشعر بالغيرة من ابنه الأصغر, زميلنا عبدالفتاح ـ توحه ـ الذي كان يحفظ مسرحية كليوباترا عن ظهر قلب. أما الشرح عند الشيخ عبدالباري, فبالبلدي, بالعامية الأليفة رغم امتلائها بشحنات ثقافية ومعان عميقة نشعر بلذة كبيرة إذ يوصلنا هو بالايحاء وباستخدام حركة اليدين وتعبيرات وجهه إلي إدراكها. إنه يشرح في لهجة ودود تشعرنا بشيء من الندية, كأننا صرنا رجالا مثله يجالسنا علي مصطبة داره ويتحدث إلينا في حديث ذي شجون. تنتفي الرهبة من الدروس الثقيلة المعقدة, يتحول الدرس ـ مهما ثقلت مادته ـ إلي موضوع للدردشة الحميمة, وحين يندمج في الشرح يمثل بأسمائنا في بعض المواقف كأن يقول: علي سبيل المثال أنا ميلت علي جاري عطية شرف ـ الذي هو تلميذ معنا في الفصل ـ وقلت له: يا عطية يا اخويه أنا في وضع كيت وكيت, ألاقيش معاك قرشين لحد ما يخش محصول القطن؟ فعطية شرف ـ ويرد بلسان عطية شرف متقمصا شخصيته ـ رد علي وقال لي كذا كذا كذا, ويكون الرد فيه شهامة وحسن تصرف وإيثار. مما يجعل عطية شرف يرفع رأسه والزهو الجميل علي ملامحه بل علي ملامحنا جميعا إذ إننا لحظنا إن لم نكن كلنا قد صرنا عطية شرف فعلي الأقل صار عندنا استعداد للرد هكذا علي من يطلب منا طلبا كهذا. صوته كان خشنا وغير موسيقي. إلا أنه كان معبأ بالمشاعر الحية المؤثرة فيمن بسمعه تأثيرا قويا بقدرة صوته ـ رغم خشونته ـ علي تلوين العبارات تبعا لما تتضمنه من مشاعر ـ إنه وريث فن الخطابة وهو أحد أهم أبواب البلاغة العربية. وكنت كثيرا ما أحضر له خطبة في الجامع الكبير في ميدان الرحبة القريب من داره المتميزة بكونها مبنية بالطوب الأحمر وذات قراندات عريضة مطلة علي الحارة ومن خلفها زريبة للماشية إذ إنه في نفس الوقت يمارس الفلاحة بالإشراف علي زراعة أرض له يزرعها نفر من عياله وعيال عائلته. فإذا بخطبته علي المنبر غير تقليدية مثله تماما. ذلك أن مظهره نفسه غير تقليدي من الأساس, فبرغم حصوله علي عالمية الأزهر الشريف كان نادرا, بل نادرا جدا, ما يلبس الجبة والقفطان مع أن لقب الشيخ ملازم لاسمه وألصق به من لقب حضرة الناظر, الذي لم يكن يتحمس له علي كل حال.. لم يكن يتورع عن الذهاب إلي المدرسة بالجلباب والعمامة وبنفس الجلباب والعمامة يصعد إلي المنبر, يظلع في مشيته قليلا, يبدأ الخطبة بالحاشية المحفوظة ولكن باختصار شديد, بلا سجع بلا تكرار بلا إطناب, ينهيها مصليا علي النبي الكريم أشرف الخلق وخاتم المرسلين, ما يلبث حتي يقرن هذه الصلاة بعدم رضائه صلي الله عليه وسلم عن كذا وكيت من الأمور التي تكون قد حدثت خلال الأسبوع المنصرم, في بلدتنا أو في بلدة مجاورة أو حتي في مصر العاصمة أو ربما في فلسطين أو كوريا أواليابان أو في دولة لم يسمع بها عامة المصلين لكنهم سوف يعرفون منه الكثير عنها بعد قليل. يستعرض مافي الحياة من مظالم, وما في سلوك الناس من شين وعار, لا يستشهد بآية قرآنية أو حديث نبوي شريف إلا أن يكون الاستشهاد في المكان الملائم تماما حتي ليبدو وكأن الآية الكريمة أو الحديث الشريف قد قصدا إلي هذا المعني علي وجه التحديد, فكأن المصلين قد رأوا تشخيصا واقعيا حيا لمعني الآية أو الحديث لم يكن ليخطر لهم علي بال, فتمصمص الشفاه وتبتسم, تخرج من بينها همهات الاستحسان والاستغفار وطلب العفو والستر من الله. الواقع أن الشيخ عبدالباري عبادة لم يكن متفردا في هذه الظاهرة, بل لعله كان جيلا بأكمله من الأزهريين الخلص, الذين يحق لهم أن نصفهم بالمنارات دون تزيد أو مبالغة أو بقششة في الأوصاف, الكثيرون منهم حصلوا علي عالمية الأزهر الشريف وعادوا إلي قراهم علماء بغير وظيفة رسمية حكومية, اللهم إلا تفليح أرض ورثوها عن آبائهم, أو يباشر بعضهم عملا تجاريا موسميا, أو يعمل مأذونا شرعيا, أو يبقي رأسا لعائلة تفخر به وتكتسب بفضله عزة فوق عزة. إلا أن مجرد وجودهم في البلدة ـ أي بلدة ـ يكون مصدر إشعاع, ليس دينيا فحسب بل ثقافيا وعلي درجة عالية من الاستشارة والشعور بالمسئولية الانسانية أولا ثم الوطنية ثم القومية الإسلامية, يقدمهم الناس إلي منابر المساجد, والإمامة. ويلجأ إليهم الناس في طلب الفتاوي إذا استعصي عليهم أمر من الأمور. فإن أفتوا كانوا بشرا ومواطنين بالدرجة الأولي, يستخدمون عقولهم وما وهبوا فيها من علم, ليس لاخافة الناس وإرعابهم من عذاب القبر ونار جهنم, ليس بإظهار الله سبحانه وتعالي كمنتقم جبار فحسب, وإنما لتيسير الأمور وإرشاد العقول الجامحة وهدهدة النفوس الحائرة وتطمينها وزرع الأمل فيها اعتمادا علي الرحمن الرحيم القابل للتوبة غافر الذنوب متي استقام المذنب عن حق وصدق. في كل عائلة, كبرت أو صغرت, شيخ علي مستوي أو آخر من التعليم, ربما كان حاصلا علي ابتدائية أو ثانونية الأزهر, ربما عجزت أسرته عن إكمال نفقاته فعاد قبل الحصول علي العالمية, وربما أكمل العلم بعد العالمية وهو مقيم في بلدته يقرأ ويدرس ويعظ ويتقدم للإسهام في حل ما ينجم بين الناس من مشكلات قبل أن تتفاقم إلي عركة يعلم الله نهايتها. والواحد منهم متي لبس الجبة والعمامة جاهد حتي يكون جديرا بهما سواء أكمل تعليمه أو لم يكمل. ولقد شغلتني هذه الظاهرة الطيبة منذ الصغر, ظاهرة أن كل عائلة في البلدة فيها شيخ:ومن حسن الحظ أن إشعاع الإمام الشيخ محمد عبده كان في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين لايزال حاضرا بقوة. كان علمه الحداثي تطويرا عظيما للخطاب الديني, متماهيا مع سماحة الإسلام واتساع أفقه حيث العبادة تعني العمل, والصلاة تعني يقظة الضمير والتقوي, والتقوي تعني الإخلاص في تنوير العباد وإرشادهم إلي السلوك القويم. فكان طبيعيا أن يكون للإمام الأكبر أحفاد كالشيخ عبدالباري عباده وأبناء جيله العظماء الذين كان من حسن حظ جيلنا أن تربينا علي أيديهم المباركة.
خيري شلبي