.. في إجازة صيفية تالية كنت قد هجرت قول الشعر والزجل إلا في بعض مناسبات تقتضي المجاملة أو الانتقاد والسخرية.وبدأت أكتب ما تصورت أنه قصة رومانسية; بأسلوب مستعار حاكيت فيه أصحاب الأساليب الرصينة كالمنفلوطي وطه حسين, مع أساليب مستحدثة ذات رشاقة. وأناقة كيوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وإبراهيم الورداني وقد ندمت أشد الندم علي تهوري مرتين, الأولي حينما جرؤت وقدمتها لمطبعة التوفيق بدمنهور وطبعت إيصالات بثمنها وقمت بتوزيع أغلبها علي زملائي وأساتذتي في المعهد, كل من يعطيني خمسة قروش أعطيه إيصالا مطبوعا يتسلم بموجبه نسخة حينما تنتهي طباعتها, وقد شجعني الأساتذة بحفاوة فاقتدي بهم الزملاء فاستطعت جمع مبلغ يغطي تكاليف الطباعة سلمته للمطبعة ولم يبق إلا القليل جدا من التكاليف سأدفعها عند الاستلام الذي سيتم بعد أسابيع قليلة, المرة الثانية حينما جرؤت وأعطيت المخطوطة الأصلية لإسحاق طالبا منه أن يقرأها ويفيدني برأيه فيها. ولقد رحب هو بذلك كل الترحيب وأخذ الكراسة بحفاوة ثم طواها في جيبه واعدا بالسهر عليها والتلاقي غدا في مثل هذا الوقت ليبلغني رأيه فيها بالتفصيل. وقد كان. خرمنا من عزبة المعلمين المواجهة لدارهم, إلي نخيل المعلم عبده. تمشينا علي إحدي القنوات خارج النخيل. الأرض من حوالينا مترامية الأطراف قد فرشت ببساط من البرسيم الأخضر أو لعله الأرز; والشمس من فوقنا رمانة تتأرجح فوق ملاءة من البنفسج الفاتح الحزين المبهج معا. وقد لاذ إسحاق بالصمت المريب, كأنه ينصت في إمعان إلي سيمفونية رعوية أليفة يقودها صوت نقيق الضفادع وتشارك فيها أصوات خرير المياه كنت أشعر أني في حالة من الشفافية بدرجة جعلتني أدرك عن يقين أن إسحاق ليس معجبا بما كتبته. دوران الساقية طردنا إلي جميزة بعيدة. جلسنا ـ نصف جلوس ـ علي نتوءات عريضة متفرعة عن جذرها المتشعب علي مساحة كبيرة. عندئذ سحب إسحاق الكراسة من جيبه في وقار وجدية, أبقاها بين يديه لبرهة وجيزة وهو يحدق فيها, ثم قال: لي رجاء عندك! قلت: بكل سرور تفضل, قال: احك لي هذه القصة التي كتبتها في هذه الكراسة اعتراني ارتباك عظيم, قلت لائذا بمحاولة للسخرية: هل غمضت عليك إلي هذا الحد؟! قال بكل بساطة: نعم! ثم استدرك: مع أنها تبدو حدوتة صالحة للكتابة لكنني لم أستوعبها مع الأسف وأحب أن تحكيها لي شفاهة من غير كتابة! حاول أرجوك!.. شرعت أحكي له زبدة الحدوتة في شكلها البدائي. ويبدو أن حالة من الدفاع عن النفس قد بثت في مخيلتي شيئا من الوهج, حتي لقد كنت أثناء الحكي أتكشف الجوهر الحقيقي للحدوتة التي كانت حشدا من المثاليات والتضحيات والعذابات المغذاة بأسانيد من الشعر القديم والمأثورات اللماعة وما إلي ذلك من حشو رومانسي ساذج. كنت كأنني أحكي شيئا لا علاقة له بما كتبته في الكراسة وإن كانت الحدوتة هي نفسها إلا أنها في اللهجة الدارجة المحملة بزخم الواقع المادي قد سلست وصارت منطقية قابلة للتصديق وللحدوث في الواقع. حقيقة الأمر أن رد فعل الحكي علي وجه إسحاق وما كان يرتسم علي ملامحه من إعجاب وانبهار, كان هو الباعث علي استرسالي وتوهجي.. فآمنت من تلك اللحظة أن المصداقية هي الجسر السالك الآمن بين الكاتب والقارئ, وأن رد فعل المصداقية هو الباعث الأكبر علي نمو الكاتب وتطوره واستمراره. ما أن انتهيت من الحكي المباشر حتي قرب اسحاق عينيه من عيني كأنه يريد أن يقرص بهما أذني عبر عيني; ثم قال: ولماذا لم تكتبها هكذا؟! بنفس الطريقة التي حكيتها بها الآن. أأنت فعلت هكذا بالقصة! أثقلت كاهلها بحمولة مخيفة من الأدب العتيق تحتاج مفرداته الي البحث عن معانيها في مختار الصحاح او لسان العرب! لقد فطست القصة بل سحقتها فماتت! خنقتها العبارات المجعلصة فطلعت روحها من اول صفحة بل من اول سطر! واستمررت حضرتك في الكتابة عن جسد ميت!.. لحظة ذاك كنت علي قناعة تامة بكل حرف نطق به بل لقد ادركت هذا من تلقاء نفسي قبل أن يقوله وشعرت بحب شديد له وحينما تأهبنا للمشي عائدين الي البلدة سحب من سيالته نوتة جيب سميكة بغلاف سميك كالأجندة; قال: هذه رواية قصيرة أو قصة طويلة من تأليفي! اقرأها الليلة وأعدها لي غدا لأسمع رأيك فيها. كدت اختطفها من فرط الشغف رفعت الغلاف بعنوان:( عودة سجين) تأليف اسحاق ابراهيم قلادة. رفعت صفحة العنوان: الصفحتان المتقابلتان مرسوم عليهما بالحبر الشيني مجموعة وجوه متنوعة تكاد تنطق من فرط الدقة والتشخيص, لرجال ونساء, كل وجه مكتوب تحت اسمه انهم ابطال القصة. أذهلني جمال الرسم, هل هو بريشتك يا اسحاق؟ تبسم قائلا: إني أجيد الرسم أي نعم ولكن هذه الرسوم لصديقي احمد ابراهيم حجازي وهو زميلي في مدرسة طنطا الثانوية. عكفت علي القصة فقرأتها مرتين لحست دماغي. ليس فيها ثمة من اسلوب ادبي مع انها باللغة العربية الفصحي انما فيها بلاغة الصورة الفنية التي رسمها لحياة ذاك السجين العائد فيها ايضا سلاسة, كما ان شخصياتها واضحة المعالم ولها اشباه ملموسة في الواقع أيقنت ان اسحاق سيكون من ابلغ كتاب القصة والرواية في السنين القليلة القادمة ولسوف يحبه القراء مثلما أحببته. وقد حدث بالفعل ما يبشر بأنه قد صار علي عتبات الشهرة والمجد. ففي اجازة نهاية العام الدراسي التالي وكان اسحاق في السنة الرابعة الثانوية! صحونا ذات يوم علي خبر يتداوله اصدقاؤنا المسيحيون بنبرة فيها قدر من الاسي والخوف علي مستقبل اسحاق. فما ان رأيت ابراهيم افندي قلادة علي مصطبة المعلم رزق الله الترزي ومعه المعلم عزيز عبده ابن المعلم عبده صاحب الأطيان حتي اندفعت اليه استطلع جلية الخبر فأخرج من سيالته خطابا جاءه لتوه من اسحاق راح يقرؤه علينا بصوت ظاهره الأسف وعدم الرضا لكن باطنه يشي بالزهو والرضي سرعان ما وهمت الموقف: ذلك انه بعد نجاحهما في امتحان شهادة الثقافة قرر كل من اسحاق وزميله الرسام احمد ابراهيم حجازي ان يعيشا بمدينة القاهرة ويتقدما الي مجلة التحرير الوليدة التي انشأتها حكومة الثورة وفهمت من الخطاب انهما قد التحقا بالفعل بالمجلة كمحررين تحت التمرين. من فرحتي بالخبر صرت من قراء مجلة التحرير أترقبها وأتفحصها. وبالفعل بدأت رسوم حجازي تظهر علي صفحاتها لكن ما لبث ان اختطفته مجلة وليدة هي الاخري اسمها صباح الخير تصدر عن مؤسسة روز اليوسف, وأما اسحاق فقد فوجئت به بعد اشهر قليلة قد عاد الي البلدة, فهرعت اليه قال لي انه انتقل مع حجازي الي صباح الخير يكتب لباب( اعترفوا لي) الذي يقدمه مصطفي محمود, وبعض الابواب الاخري لكنها بالمجان باعتباره تحت التمرين. وهو لابد أن يعيش, لهذا قرر أن يبحث عن وظيفة وأن يراسل المجلة ليشبع هوايته. وعندما عدت الي البلدة في اجازة نصف السنة قيل لي ان اسحاق ـ عقبال أملتك ـ حصل علي وظيفة مرموقة في شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبري وبقيت أنتظر ظهور اسم اسحاق في الصحف علي قصة أو مقال. ولكن الايام طالت خلالها توسعت قراءتي ونضجت آرائي واصبحت علي صلة وثيقة بالادب الحديث وكتابه المحدثين. وكان اطرف ما في الامر انني حينما قرأت ليوسف ادريس ويوسف الشاروني ومصطفي محمود وصلاح حافظ وفتحي غانم خيل الي انهم جميعا يقلدون اسحاق في قصته( عودة سجين), نفس البساطة مع عمق الرؤية وقوة الدلالة وكانت السنون تمضي واسحاق يطل برأسه في مخيلتي من حين الي حين بإلحاح واشتياق لمعرفة أخباره. اذكر أنني في ستينيات القرن العشرين ارسلت له بالبريد خطابا.. فتلقيت منه ردا صادما; قال فيه انه تذكرني بصعوبة شديدة ولكن بصورة غير كاملة كانت كلماته تفيض بالأسي; كما كان من الواضح أنه نسي أمر الكتابة تماما!. ومنذ ذلك التاريخ إلي اليوم لا أعرف عنه أي شيء علي الإطلاق.
خيري شلبي
خيري شلبي