جارت عليه السنوات وأشعلت رأسه شيبا، وأحنت ظهره الحقائب المثقلة بالشجن والتى فشل فى إفراغها،
يسرج خيول عربات المساء، رغم كل السواد الذى يحمله، والأقدح سوادا
من هذا الليل الذى تمدد في العيون والشوارع وواجهات البيوت، يقلب فى دفاتر الغياب والوجع، كل شيء باهت تحيط به هالة من ضباب مصفر، تداهمه شتاءات لا تنتهى، كلما إقترب موعد مغادرته المنزل، الذى سكب على جدرانه عصارة الشوق، ومنحه أسرار البهجة والنعيم، وراقب من شرفاته أسراب الطيور العائدة من غربتها
ولأنه سيغادر، فقد أضحى الهواء الذى يتنفسه بمثابة المسامير التى تثقب رئتيه،
قرار الأبناء.. أن دار المسنين أقدر على رعايته والعناية به .. !
إمتقع وجهه وغامت عيناه وبردت أطرافه وإرتعشت، وهو يحاول جاهدا أن يثنيهم عن قرارهم الأشبه بقرار الموت دون فائدة،
لماذا يخذله الموت ولا يأتى سريعا
كما تمنى ؟
منذ رحيل زوجته، ومئات الحشرات الصغيرة تفترس روحه اللينة، رائحة ضفائرها موغلة بذاكرته، كلما حاولت الحوائط الصماء وصرير أبوابها الموصدة، حجب تقاسيم وجهها الأشبه بالبدر فى تمامه، أبدا لا يغيب وجهها المشبع فى الصفاء، سلالها مليئة بأطيب الثمر، لا يضيع عطرها الممزوج بالورد والياسمين، الذى يملأ الزوايا والأركان والمكان، والممتد حتى الشرفات، على المقعد الذى خلى منه، كانت تأتيه بقدح القهوة، التى لا يشربها إلا من يدها، تسبقها إبتسامتها التى لا تفارقها، بعدها لم تعد تفتح الأبواب، والنوافذ لم يعد يدخلها الصباح، لا صوت غير صوتها الأثير فى سمعه ونفسه معا، تمدد الوجع ودار الزمان وإستدار، يسرج خيوله كل ليلة إستعداداً للسفر، حيث تنتظره سخية العطاء فى بهو الراحة، بعيدا عن مدن الجهامة والوحشة، وثرثرات الهاتف وقسوة الأبناء، وجرحهم الذى يأبى أن يندمل، إستسلم لسلطان النوم الطاغى الذى لا يقف فى طريقه أحد، أيقظته الشمس وهى تتسرب من خصائص النافذة، فتتكسر خيوطها على جسده الواهن، تزحف نحوه نيران غياب الزوجة، وتفرق الرفاق ومغادرته للمنزل، ينكمش تحت الدثر، ينتفض أمام صخب وضجيج الأبناء الذين أكل الآسى قلوبهم، وإمتدت الظلمة بوجههم، حتى الكلمات وقفت عاجزة فى الحناجر،
محلقة فوق رؤسهم، كأسراب الطيور الشاردة، الإنسان يولد وحيدا ويموت وحيدا،
تعلق بصره بتلك الطيور الهائمة فى الفضاء، محدقا فيها وهى تبتعد فى السماء رويدا رويدا حتى إختفت تماما وراء الأفق البعيد،
صرخ أكبر الأبناء : أحدهم أفرغ كل أطر السيارة بالكامل،
من خلف السيارة برزت الحفيدة ذات العشرة أعوام قائلة : أنها من أفرغت أطر السيارة حتي لا يذهب جدها إلى دار المسنين، بين صرخاتها ودموعها الرافضة لهذه النهاية المروعة، وإنها وحدها قادرة على العناية به، ولن تطلب مساعدتهم، وينبغي أن لا ينسوا أن الخريف ينتظرهم، وشتاءات لا تنتهى، ونهايات مؤلمة لا يرضونها، أشبه بمصير جدها الذى راح يمطرها بالقبلات ويحتضنها،
وكأن كل هموم العالم إقتسماها سويا، لم يقدر الأبناء على كبح الدموع التى إنهمرت كالسيل، والتى غسلت غشاوة الرؤى فى أعينهم، وهم يتبادلون اللوم والعتاب،
مقررين أن والدهم هو الأقدر بالعناية قبل أى شيء آخر مهما عظم،
تسحب الشمس أشعتها الأخيرة، ونسيم هاديء رائق يتسلل إلى رئتيه، بين إبتسام الحفيدة، وإعتذار الأبناء .
يسرج خيول عربات المساء، رغم كل السواد الذى يحمله، والأقدح سوادا
من هذا الليل الذى تمدد في العيون والشوارع وواجهات البيوت، يقلب فى دفاتر الغياب والوجع، كل شيء باهت تحيط به هالة من ضباب مصفر، تداهمه شتاءات لا تنتهى، كلما إقترب موعد مغادرته المنزل، الذى سكب على جدرانه عصارة الشوق، ومنحه أسرار البهجة والنعيم، وراقب من شرفاته أسراب الطيور العائدة من غربتها
ولأنه سيغادر، فقد أضحى الهواء الذى يتنفسه بمثابة المسامير التى تثقب رئتيه،
قرار الأبناء.. أن دار المسنين أقدر على رعايته والعناية به .. !
إمتقع وجهه وغامت عيناه وبردت أطرافه وإرتعشت، وهو يحاول جاهدا أن يثنيهم عن قرارهم الأشبه بقرار الموت دون فائدة،
لماذا يخذله الموت ولا يأتى سريعا
كما تمنى ؟
منذ رحيل زوجته، ومئات الحشرات الصغيرة تفترس روحه اللينة، رائحة ضفائرها موغلة بذاكرته، كلما حاولت الحوائط الصماء وصرير أبوابها الموصدة، حجب تقاسيم وجهها الأشبه بالبدر فى تمامه، أبدا لا يغيب وجهها المشبع فى الصفاء، سلالها مليئة بأطيب الثمر، لا يضيع عطرها الممزوج بالورد والياسمين، الذى يملأ الزوايا والأركان والمكان، والممتد حتى الشرفات، على المقعد الذى خلى منه، كانت تأتيه بقدح القهوة، التى لا يشربها إلا من يدها، تسبقها إبتسامتها التى لا تفارقها، بعدها لم تعد تفتح الأبواب، والنوافذ لم يعد يدخلها الصباح، لا صوت غير صوتها الأثير فى سمعه ونفسه معا، تمدد الوجع ودار الزمان وإستدار، يسرج خيوله كل ليلة إستعداداً للسفر، حيث تنتظره سخية العطاء فى بهو الراحة، بعيدا عن مدن الجهامة والوحشة، وثرثرات الهاتف وقسوة الأبناء، وجرحهم الذى يأبى أن يندمل، إستسلم لسلطان النوم الطاغى الذى لا يقف فى طريقه أحد، أيقظته الشمس وهى تتسرب من خصائص النافذة، فتتكسر خيوطها على جسده الواهن، تزحف نحوه نيران غياب الزوجة، وتفرق الرفاق ومغادرته للمنزل، ينكمش تحت الدثر، ينتفض أمام صخب وضجيج الأبناء الذين أكل الآسى قلوبهم، وإمتدت الظلمة بوجههم، حتى الكلمات وقفت عاجزة فى الحناجر،
محلقة فوق رؤسهم، كأسراب الطيور الشاردة، الإنسان يولد وحيدا ويموت وحيدا،
تعلق بصره بتلك الطيور الهائمة فى الفضاء، محدقا فيها وهى تبتعد فى السماء رويدا رويدا حتى إختفت تماما وراء الأفق البعيد،
صرخ أكبر الأبناء : أحدهم أفرغ كل أطر السيارة بالكامل،
من خلف السيارة برزت الحفيدة ذات العشرة أعوام قائلة : أنها من أفرغت أطر السيارة حتي لا يذهب جدها إلى دار المسنين، بين صرخاتها ودموعها الرافضة لهذه النهاية المروعة، وإنها وحدها قادرة على العناية به، ولن تطلب مساعدتهم، وينبغي أن لا ينسوا أن الخريف ينتظرهم، وشتاءات لا تنتهى، ونهايات مؤلمة لا يرضونها، أشبه بمصير جدها الذى راح يمطرها بالقبلات ويحتضنها،
وكأن كل هموم العالم إقتسماها سويا، لم يقدر الأبناء على كبح الدموع التى إنهمرت كالسيل، والتى غسلت غشاوة الرؤى فى أعينهم، وهم يتبادلون اللوم والعتاب،
مقررين أن والدهم هو الأقدر بالعناية قبل أى شيء آخر مهما عظم،
تسحب الشمس أشعتها الأخيرة، ونسيم هاديء رائق يتسلل إلى رئتيه، بين إبتسام الحفيدة، وإعتذار الأبناء .