سيبان خليل إبراهيم - البشير الجديد

يلمع في معصمِها ، أثنتْ على جمالِه ومتانتِه زميلاتُ العمل والجاراتُ، حتى أمُّها العجوز ضعيفةُ البصر، حملتِ السوارَ بيدين معرورقتين مرتجفتين، هازّة برأسِها كإشارة على الإيجابِ والرضا، وهي التي لم تقتنِ مِن الحليّ الذهبية إلّا خاتمَ الزواج (حلْقةً) الذي لم يزدْ وزنُه على غرامين، وخاتماً بشذرة زرقاءَ ، طارداً فلول الحسّاد وعيونَ الشر ما يناهز نصفُ قرن وأكثر، دون أنْ يطالبَ براتبٍ تقاعديّ أو نهايةِ خدمةٍ كما حصلتْ عليها هي ، بعد أنْ غسلتْ مِنْ الشراشفِ الآلافَ، وقامتْ بأعمال مسحِ البلاط حتى تتّضحَ صورتُها فيه، ولفّتِ الأطفالَ بقطَعِ القماشِ البيضاء وهي تصلّي وتسمّي، وتزدادُ فرحةً هي الأُخرى عندما يكونُ المولودُ صبيّاً، ليس بانتظارِ فيضِ سخاءِ الأيدي التي تمتدّ نحوها محمّلةً بالعطاء ؛ بل لأنّها تحبّ أنْ تزفَّ بصوتِها النديّ البشارةَ إلى الأهلِ المنتظرين آخرَ الرواق. ولو أنّ في السنواتِ الأخيرة ما عادَ للبشارة هذه مِنْ طَعْمٍ ، بعد أنْ جعلَ التطورُ الحياةَ أكثرَ تعقيدا..
أزعجَها أنّها قد فقدتْ مهنةَ البشيرِ الذي يرسمُ في العيون المتعَبةِ الناعسةِ شمساً مِنْ فرحٍ ، مكتفيةً بدور المواسيةِ التي تكفكفُ دموعَ بعض الأمهات المهدّداتِ بالطلاقِ أو بزوجةٍ ثانية تعرف كيف تحصدُ مَنَ الثمار الولَد.
بيدين ماهرتين سحبتْهُ كسمكةٍ لزجةٍ ، يغطّيهِ الدمُ وماءُ البطنِ ، صبيّاً صامتاً ، لم تفرحْ به كما كانتْ أمُّها تبتهجُ بالصبيّ . مسحتْهُ على عجالةٍ مِنْ أمرِها بخرقةٍ ، ولفّـتْهُ بأُخرى، لم يحظَ (بقماط) أبيضَ كالآخرين ، كأُولى العقوباتِ بحقّه!
لم تحاولْ أنْ تُخرِجَ الماءَ مِن صدره ، آملةً أنْ يختنقَ به ، لكنّها بحُكْم الفِطرة وطبيعةِ عملِها أخذتْ تطبطبُ على ظهرهِ بخفّةٍ حين إزرقَّ وجهُهُ مختنقاً. حملتْهُ بيدٍ قويّةٍ عازمةٍ إلى صدرِها، وباليد الأُخرى تلفّعتْ بالعباءةِ والظلامِ ، خارجةً به في أوّل نزهةٍ ليليّةٍ له. تتلفتُ إلى ثقوبِ الأبوابِ المغلقة ، وزجاجِ النوافذ الذي لا يكتمُ سرّاً أو يحفظُه. تتعثّرُ خطواتُها بطرفِ العباءةِ المشبّعِ بالوحلِ والطينِ ، تغطسُ إحدى قدميها في حفرةٍ ، تكادُ أنْ تسقطَ بالمولودِ على وجهها بعد أنْ بلّـلهُ المطرُ، مصباحُ الشارعِ يشحُّ بضوئه ، ململماً إيّاه تحت قبّعتهِ ، مناضلاً حباتِ المطر التي تُبذر في الأزقةِ والشوارعِ الترابيّةِ لتجني حُفَراً ومطباتٍ وبِرَكَ مياهٍ آسنةٍ ، يلعبُ حولَها الأطفالُ والبقُّ على السواء.
العجبُ .. كلُّ العجبِ في هذه البلاد ، كيف يتكاثرُ المطرُ، دلوٌ منهُ تفيضُ على إثرهِ مدينةٌ كاملةٌ ، فيخرجُ المحافظُ وكبارُ المسؤولين إلى العراءِ بحثاً عن تلك الغيمةِ ، برجاءِ أنْ لا تفضحَ المستورَ، وتجرّدَ بعضَ الكراسي من أصحابِها.
يكادُ الفجرُ يتشققُ مِنْ بين الغيماتِ ، كاشفاً عن صبحٍ كالحٍ ، وجوهٌ مكفهرّةٌ وأرجلٌ تخوضُ في الماءِ وهي ذاهبةٌ في طريقِها إلى العملِ ، عمّالُ (المَسْطَر) سيبدأُ تجمُّعهمُ الحافلُ بالجريِ خلْفَ أصحابِ العملِ في مسلسلٍ يوميّ.
تحثُّ (وصال) الخطى غير آبهةٍ للمطبّاتِ والحُفَرِ التي إستوقفتْها، وكأنّها تحاولُ فسحَ بعضٍ مِنَ اليابسةِ في عقلٍ غرِقَ مِنْ غزارةِ المأساةِ ، وإيجادَ زقاقٍ ولو ترابيّ كي يطمئنَ له عقلُها، ويرتاحَ ضميرُها الذي تنازعتْهُ خمسةُ عقودٍ بين شدٍّ وجَذبٍ حتى تماهتْ فيهِ ، وهي تبكي مولودا جديدا سيولد في بلاد البكاء والاحزان والفقر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى