هشام ناجح - المدينة التي لا تتكلم إلا رقصا

"إن التسامي وحده القادر على جعل الإنسان يدرج التصورات المرتبطة بالحركات المحسوسة لتسعف التبني المشيّد في الذهن. إن الإنسان أبدع الرقص كلغة قد تغنيه عن النبر".
(هـ ن)


كان بإمكان ماركوس أن يمدد ذراعه ليسلط القوة على يده التي ستسحب حذاءه الرمادي، الموضوع تحت حاشية الصوان. إنها دواعٍ تمر عبر العضد والساعد، فتحتاج إلى خفة السحب على أساس أن ماركوس عادة ما يكون جالسا على حافة سريره. وسيبحث كذلك عن الجورب القابع في جوف الحذاء، مماريا بإنتاج صورة شائكة تنبع للتو حالما يلقي بيده منقبا، خاصة عندما لم يجده في فتحة الحذاء. سيطارد بكل تأكيد تسلله إلى حاشية الصوان في أتون الظل الحاجب للنور، ما يجعله مضطرا إلى تفعيل يده في حركة احتواء الجورب. ستفرض عليه الصورة النابعة في ذهنه تصورا طفوليا، كأنه سيدخل يده في حفرة، ويندرج ذلك الخوف التلقائي، معجلا بسحب يده مخافة أن تتعرض للدغة مفاجئة؛ تلك اللدغة الساكنة في تصورات كل إنسان عاش على مردود حكايات الجدات، اللواتي يبالغن في رصد المشاهد العالقة بدافع يضمن تلبية الخصاص التمثلي للأشياء. ربما كان كذلك بدافع الوصية الظاهرة التي تركتها جدته هيلينا:
"لا تفتح هذه الوصية يا ماركوس إلا في اليوم الأول من التقاعد أو المعاش، سيكتب لك العمر المديد بحق المسيح".
إن الجدة هيلينا هي من دبّجت الوصية الخفية أيضا. مع العلم أنها سعت إلى تشكيل الحيز الزمني عن وعي كامل. كانت في أوج قواها العقلية، إذ كان بإمكانها أن تستحضر كل الأحداث وتعيدها بنفس الترتيب الكرونولوجي منذ سن السادسة إلى آخر يوم في حياتها؛ لهذا حرصت على أن يكون وقت مباشرة الوصية في اليوم الأول من التقاعد أو المعاش، فقد تبنت الكلمتين معا إلى الحد الذي لا يجعل ماركوس مندرجا لمفهوم دون الآخر، بالرغم من أن كلمة "المعاش" كانت أقل حدة من كلمة التقاعد، على الأقل تضمن له ذلك القليل من القوت، حتى يتسنى له ألّا يموت جوعا. لكن، سرعان ما استطاع ماركوس أن يجد الرابط بالإحساس بالجوهر ما بين الكلمتين وإدراك الفعل الحقيقي القائم على وجودهما في الاشتراك بتعطيل الحركة والتبني في حده الأدنى من العيش. وفطن إلى أن يطلق وصف "العجز المكتفي بذاته" على هذا الربط، فداهمته مجموعة من الصور من واقع الحال والتي تفككت في مخه على نحو أسرع، فكان كمسرود له، ممعنا في الإنصات بكل حواسه، التي أملت عليه للتو نتائج بعض الحالات في المجال الخاص بها، والمرتب في ذاكرته على هذا النحو: حال السيد لانيس الذي يصارع كرسيه المتحرك ساعات قبل أن يحف على دعامته ويطفق في الصياح: "أيها الأوغاد ستبدأ رحلتي الآن نحو الجحيم"، أو السيدة روا، التي يعافها الجميع حالما تشرع في الأكل وفمها الأدرد يحدث أصواتا موحية بأن الإنسان قد يكون حيوانا أحيانا في أواخر عمره، أو السيد مولاس، مفتوح الفم الذي تفوح منه رائحة البول والذباب ينط على فوديه، يترقب بعينين لا أجفان لهما.
وكادت هذه الصورة/ الفكرة المرتبة في ذاكرته أن تتحول من صور المقاربات إلى اليقين المدعوم بتفعيل الحزن وإثارة الشفقة. ودون أن يشعر، فقد مدد يده في اختبار المسك بالحذاء، متتبعا بإحساس مسلك الحركة المسلطة.
لقد كانت وصية الجدة هيلينا محفوظة عند الجار بروليس، الذي ورثها عن والده موراليس. لو كان لنا بعض الوقت لأدرجنا سؤال ماركوس حول ترك الوصية في بيت السيد موراليس دون والده ليونيد، الأحق بذلك. فقد كان ليونيد يلعن دائما السيد موراليس دون أن يصرح بالسبب، مشيرا بيده في غموض إلى ابنه ماركوس كلما سأله عن الدافع وراء هذه اللعنات المقذعات. وظل ماركوس لا يراه إلا سببا إضافيا مدعوما بأهواء شخصية. ولنقل إن ماركوس بحكم تأثيره بالنزوع الفرويدي سينسجم مع عقدة أوديب كدافع حقيقي لهذه العداوة، من جهة، لكن الأمر الذي يمكن أن يكون ذا اعتبار دالّ هو فقدان الثقة في الابن لتحمل هذه الوصية، التي تخص الابن بالنسبة إلى والده والحفيد بالنسبة إلى الجدة هيلينا.
أمام باب السيد موراليس تذكر ماركوس أنه الحفيد الوحيد للجدة هيلينا المعني بالأمر، وأنه كان طفلا في يوم من الأيام. وتذكر نافلة أن الباب الخشبي الذي تطلب صنعه ثلاث أشجار من البتيولا قد بقي على ما هو عليه بالصيغة البنية نفسها، خاصة قارعة يد فاطمة التي تقرع الباب بنفس الإيقاع الذي يبتلعه الممر الطولي إلى داخل البيت في استرداد يختلط مع أطيط الحذاء الخشبي للخادمة أماليا، مطمئنة الطارق إلى أنها سمعته تفاديا للمزيد من القرع. وستفتح ببشاشتها المعهودة، ماسحة يديها في مريلتها المتداخلة الورود المرسومة بألوان مختلفة.
لم يكن ماركوس يدرك أن بروليس، بكسوته البنية وربطة العنق السوداء وحذائه اللامع المدبب من الأمام كخطم الكلب، يتقن فن الخطابة؛ إذ وجدها فرصة للاستفاضة في كلمة الشرف، فقد جره حبل الحنين إلى أيام العمل السياسي، حين كان الحزب المنحلّ يجتمع في هذا البيت، ملوحا بيديه في إدراج اليقين الإيديولوجي التام، وجر المستمعين إلى رنين كلمة الثورة، مفتعلا ذروة هياج فيديل كاسترو والعرق يلمع على جبهته. وبعد ذلك طفقت كلمة الشرف تتبرّم، إلى أن لبست كسوة الثقة المتوارثة من الأب للابن واستمرار قافلة الثقة في المسير. ووضع ماركوس طاس القهوة بنوع من الحزم المطلوب، فأحدث رطما عنيفا، حتى يكف بروليس عن نية التشفي المترذل، وألّا يستهين بعائلة الجدة هيلينا، التي كانت تغدق على الكل بما تملك في الأيام الحالكة، خاصة عائلة بروليس لمّا أفلست وكثرت ديونها في وقت من الأوقات.
كان حريا بنا أن نقتفي التغيير الذي طرأ على ماركوس مستجيبا لإرادة التحول من خلال عينيه اللتين تداعبان الصندوق البني الصغير المنمّق برسوم أربعة فراعنة من الجهة الأمامية، هائمين على وجوههم يبتغون شيئا ما؛ فتتجسد تلك الرؤية المبهمة حول نواياهم التي تسعفها حركاتهم. إن الحركة الثابتة أشد وقعا على ذهن ماركوس، بحيث طفق يرسم منبهات السياق القبلي للحركة الرئيسة الثابتة. وبعد ذلك استجابات الحركات التي تفي بمستقبلها. بما أن إرادة التحول كانت تعمل على تحفيزه، حتى يندرج في هذا الحس الفرعوني. غير أنه تراجع حالما سلمه بروليس علبة المفتاح، المشدودة بشريط أحمر على شاكلة فراشة عقد الهدايا، عملا بنية التوقير لدى الجدات. فمر كل شريط حياته، كأن مسافة تسليم المفتاح من يد بروليس هي من ستمده بحياة ثانية في ضوء المنتظر داخل الصندوق. ولنقل بنفس تصورات كل إنسان عاش على مردود حكايات الجدات، اللواتي يبالغن في رصد المشاهد العالقة بدافع يضمن تلبية الخصاص التمثلي للأشياء. فقد كان ماركوس يخمن أن قوة خارقة ستنبع من هذا الصندوق الصغير، لكن، كل ما في الأمر أنه لم تكن ثمة سوى ورقة أنيقة ذهبية الحواف، مكتوب عليها بخط الجدة هيلينا:
"حبيبي ماركوس.. حتى لا تنتظر أكثر، عليك أن تطلّق هذه المدينة التي لا فائدة ترجى منها، وتنتسب إلى المدينة التي لا تتكلم إلا رقصا، فهي الوحيدة القادرة على إسعادك قبل أن يمتصك غول الشيخوخة المريب. لا تأل جهدا يا صغيري في البحث عنها، إنها تسكن في ذاكرتك، في ذاكرتك يا شبلي".
جدتك هيلينا الحب الأزلي
وبما أن ماركوس من أولئك الذين يدب إليهم الاقناع السريع، خاصة إذا كان من جدته هيلينا، التي تحبه حبا فوق العادة، فقد أحس بسرعة تدفق الدم الباعث على حرارة محسوسة، يعلم توجهها دائما لما يكون مقبلا على اختيار شيء من طي الغيب، فتكسوه نوبة من العرق، دافعة إياه إلى الاستجابات العاجلة. لكنها هذه المرة دفعته إلى فقدان لسانه، ممتنعا عن النبر بصفة نهائية؛ ربما كانت رغبة في التخلي عن ماضيه، حتى يتوج بميلاد جديد.
ارتأى ماركوس أن يقدم رجله اليمنى على اليسرى في مسافة نصف خطوة متمايلا، ليكمل نصفة الخطوة الأخرى ليلج المدينة الراقصة. ويمكن أن نقول إن ماركوس تحول إلى ظاهرة غير عادية. كان في البداية لا يتبعه سوى الأطفال، مقلدين حركاته في انسجام تام مع حالة الصمت المرجوة، لكن سرعان ما عمت العدوى الكبار، فازداد عدد أتباعه.
أما ماركوس فقد كان لا يزال يرقص داخل مدينته غير آبه بأحوال العالم ومتغيّراته..

الملحق الثقافي لجريدة العلم 05-05- 22




1651761245900.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى