خليل أحمد جلو * نظرات في كتاب (بعث الشعر الجاهلي) تأليف الدكتور مهدي البصير - 3 -

- 3 -

لقد عقدت النية ووطدت العزم على محاسبة الدكتور مهدي البصير حساباً عسيراً بلا ترفق ولا استبقاء. ولكن الأستاذ الزيات شفيق رفيق فأشار إليّ إشارة خفية بأن يكون حسابي يسيراً ليناً. وسأفعل إن شاء الله
ولا يحسب القارئ أني سأحيد عن الحق والحقيقة أو ستأخذني فيهما رأفة أو هوادة. ولكني سأبذل قصارى جهدي وأحرص كل الحرص على أن يكون النقد شريفاً صادقاً كما تعودت وألفت وأبتعد عن غواية الأهواء وضلالة العواطف على قدر ما تسمح نفس إنسان شريف
لقد أجمع أصحابي على أن النقد الذي حدثتكم به من قبل نزيه معقول، ولكنه عبء ثقيل على الدكتور البصير لا يحتمله كاهله فكان علي أن أتجنبه وأسمح له أن يحيا حياة هادئة مطمئنة لا يعكرها نقد ولا تنغْصها مؤاخذة، وكان علي أن أزهق الحق وأظهر الباطل في سبيل ما يحب ويشتهي، وليس ذلك علي بعزيز ولا عليه بكثير وهو أستاذ في الدار التي تخرجت فيها
لقد أخطأ هؤلاء الأصحاب وشطوا عن الصواب. ولو علموا أن نقد التلميذ لأستاذه بر واعتراف بالجميل لما جازفوا في قولهم.
والدكتور مهما بلغت به سورة الغضب وشدة الحنق سيضطر عاجلاً أو آجلاً أن يعترف بفضل هذا النقد ووجاهته
أما بعد فإن للمؤلف ذوقاً خاصَّاً في تقدير قيمة الأشعار حرم السلامة والجمال. وأحسن ما يتجلى وذلك في تذوقه البيتين الأولين من معلقة امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
فقد ملكت روعتها مشاعره واحساساته. وشهد لهما (بالضبط الذي لا يفطن إليه سوى كبار الشعراء) (ص25)
قولوا ما شئتم في قيمة هذين البيتين الأدبية، أما أنا فلا أعتقد أن لهما جمالاً يخلب اللب ولا سحراً يأخذ بالقلوب، ولا ضبطاً يجدر بصغار الشعراء أن ينتبهوا له بله كبارهم وأي روعة أدبية فيهما وهما يرسمان خارطة لمنزل حبيبة الشاعر؟ وهل من الأدب في شيء قولي: إن شارع أبي نواس يقع في نهاية (الباب الشرقي)، ويمتد على ضفة دجلة اليمنى، تكتنفه المقاهي والمتنزهات؟. كلا، إن هذا الضرب من الكلام أقرب إلى كلام العوام فلا يهم الأدب شيئاً. إنما يهمه ما في الشارع من قدود هيف، وعيون دعج، ومنظر للنهر وللفضاء ساحر أخاذ حين تجنح الشمس للغروب ويتحرك النسيم العليل
وهل فطن الدكتور للأخطاء التي ارتكبها الشاعر في تركيب هذين البيتين فأثرت على معناهما وقللت من قيمتهما؟
رحم الله الباقلاني فقد قال: إن امرأ القيس في مطلع قصيدته المعلقة كأنه دلال يبيع داراً ينادي إن الدار المرقمة كذا، والتي يحدها من الشمال كذا وكذا معروضة للبيع
وغفر الله للأستاذ إبراهيم شوكت قوله: إن امرأ القيس واضع أساس علم الجغرافية عند العرب، فهو يعرف الشمال والجنوب ويحسن التحديد
وبارك الله في الدكتور زكي مبارك فإنه يستخف هذا النوع من الكلام ويأبى حشره مع الأدب ونسبته له
وأحدثكم بعد هذا عن ادعاء للدكتور مضطرب مختلط إذ يقول (ص11): (إن شعر امرئ القيس لا ينفي شيئاً ولا يثبت شيئاً. . . وإن مؤرخي العرب لم يستدلوا بشعره يوماً ما على شيء) من حياة الشاعر أو تاريخه. وفي هذا القول من الخطأ والزلل ما يثير الدهش والاستغراب. إذ يُستخلص منه أن قصائد الشاعر لا تمثل شيئاً ولا تدل على شيء، فهي إما لغو وإسفاف لا يمكن أن يستنبط منها صورة حياة الشاعر، وإما انتحال واختلاق حملت عليه حملاً؛ وإن ما نسب له من شعر موضوع مفتعل من قبل أناس لم يحسنوا التقليد ولم يمرنوا على الإيهام، وإن (قفا نبك) التي لا يشك المؤلف (ص13): (في أنها جاهلية بحتة ولا في أنها من شعر امرئ القيس ذاته) ليست له
تلاحظ هنا ارتباك المؤلف وخبطه ومناقضته لنفسه، فبينما يقرر حقيقة وجود امرئ القيس إذا هو ينفيه من حيث لا يشعر، وبينما يعترف بأن شعره المنسوب إليه لم ينظمه سواه إذا به ينكره غافلاً
والذي ساقه إلى هذا التورط المحاولة التي يدحض بها استخلاص الدكتور طه حسين من قصائد الشاعر ما يستدل به على إنكار تاريخه
ويزعم بهذه المحاولة أن ما أُثر عن امرئ القيس في شعر لا يصح الاعتماد عليه لمعرفة حياته، وأنه يجب أن نرجع إلى المصادر التي يروي عنها مؤرخو العرب ونستقي منها ما يمكن أن يقال عن الشاعر
لقد بينت سابقاً أن الدكتور البصير يثق كل الثقة بما يرويه المؤرخون ويتناقله القدماء بلا جدال ولا مناقشة. فهنا يسوق برهاناً آخر على حسن ظنه وعظيم تمسكه بهم، حتى إنه لينكر على الناس أن يركنوا في استطلاعهم على تاريخ امرئ القيس إلى شعره ويفرض عليهم أن يلتفتوا إلى ما قاله القدماء بلا شك ولا ارتياب
أنصح لك يا دكتور مرة أخرى ألا تثق في أقوال القدماء كل الثقة، وأن تستمع للقائل الأصيل فهو أصدق وأحق أن يرجع إليه، وألا تتهم مؤرخي العرب بأنهم لم يستدلوا يوماً ما على شيء من حياة الشاعر أو تاريخه، فليس من المنتظر أن يصدر منك هذا القول الجزاف
هل تنكر أن الشعر بصورة عامة يمثل حياة صاحبه وأنه مرآة عاداته وأخلاقه وتقاليده وميوله
إن الأستاذ العقاد استطاع أن يعطي صورة صادقة عن ابن الرومي رسمها في شعره، وإن الأدباء اليوم لا يكتبون عن شاعر أو كاتب حتى يشبعوا شعره أو أدبه دراسة وتمحيصاً
الله أكبر. إن شعر امرئ القيس لا يمكن الاعتماد عليه ولا يدل على شيء من تاريخ صاحبه وهو الذي يحدثنا أن (قفا نبك) لا تمثل سوى حياة قائلها
ولا أدري كيف جوز لنفسه أن يقول إن المؤرخين لم يستدلوا من شعره على حياته! ألا والله لو سألت أقل الناس ثقافة أن يشرح لك هذين البيتين:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
لاستدل لك بهما على حياة عريضة لامرئ القيس ولأنبأك بقتل أبيه واغتصاب ملكه وفزعه إلى قيصر بيزنطة واستنجاده به على أعدائه، ولأفادك بأن الشاعر قال هذين البيتين وهو في الطريق حين هلع صاحبه وجزع
(يتبع)
خليل أحمد جلو



مجلة الرسالة - العدد 327 09 - 10 - 1939

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى