قبل ان يحل الغروب، تغيب امنا في جوف بيتنا القصب الرابض عند الطرف الشرقي لنهر قريتنا، وحين تخرج، يكون الغروب قد حل، ودخان المبخرة التي أعدتها قد تعالى عند الباب، تقريباً حيث الفسحة التي نجلس فيها على البسط المتقابلة حول الموقد الذي تعد عليه طعام العشاء.. أبونا، يخيم على وجهه وجوم فيبدو منكسراً، وما ان تخرج أمنا حاملة المبخرة حتى يولي وجهه صوب المسطح المائي الذي تدفعه الاهوار التي تختنق بالماء عند الربيع، فيحيط قريتنا لتغدو شبه جزيرة، يخترقها النهر الذي يرفس ماءه الجاري بقوة في خاصرة الهور..
اصبحت واخي الذي يصغرني بنحو عامين، نكرة نقيق الضفادع الذي يتقاطع عند حافات المسطح المائي، لانه يثير في نفسينا شيئاً من الخوف، ويبعث أحساساً بالوحشة , يذكيها حال امنا وابينا اللذين صارا يمارسان ما يشبه الطقس الذي يجعل الحزن يخيم على بيتنا عند المساءات، او حين يحل الغروب، حيث يتعالى نقيق الضفادع الذي يتوقف بعد حلول الظلام، الا ضفدعة واحدة، يأتينا صوتها كالانين، فتغرق امنا بنوبة من بكاء، تحرص ان يكون صامتاً، لكن نشيجها يفضحه، فنغرق معها بالبكاء، فيما يظل أبونا حانياً رأسه ومصيغاً لانين الضفدعة الذي يتناغم مع نشيج امنا بشكل غريب!
قبل مرض اختنا ، كنا نذهب أنا واياها واخي الصغير الى اطراف المسطح المائي، نلعب عصراً عند الماء الصاعد فوق العشب الذي يغمر اقدامنا حد الكعوب، فنمسك باسماك صغيرة، ثم نضعها في المياه الاقل ضحالة، لتبقى تحت سيطرتنا، نلعب معها او بها، قبل ان نعيدها للمياه العميقة، يملؤنا فرح غامر حين نراها تسبح مسرعة نحو الاعماق، هاربة من عبثنا الذي يتكرر كل يوم، حيث نحكي لامنا وأبينا مشاهداتنا والعابنا مع السمك الصغير، فتبتسم ويبتسم أبونا، ثم يكرر علينا تحذيره.. لا تقتلوا السمك الصغير، لان الله يرميكم في النار!
في الليل، عندما تتكور اجسادنا الصغيرة تحت الازار الذي تدثرنا به امنا، يسرقنا السمك الصغير، والضفادع، من نومنا فنخرج لنلهو على المياه الضحلة، فوق العشب، واحياناً ننحدر نحو الاعماق، يلاحقنا صوت أمنا التي تسرع راكضة خلفنا فوق العشب، لكننا نسبقها ونترك صدى صوتها يتردد بين المياه التي تعبث باجسادنا السابحة كالاسماك الصغيرة، فيما تغدو اختنا ضفدعة، خضراء، تبقى عند الحافات تقفز جذلة، وحين تمسكها أمنا، وترفعها، تكون أجسادنا قد تعرت، والازار رفعته عنا، فنفرك اعيننا وننهض صباحا بتثاقل ونتجه الى الموقد في البيت، لنتناول طعام الفطور، ثم نجمع شظايا أطياف الليل، نضحك، وتضحك امنا ويهز ابونا يده متبرماً ثم يبتسم, قبل ان نعد انفسنا لجولة العصر المعتادة التي تسبق اطياف الليل!
في احد الايام، وبينما كنا نلهو مع السمك، صاحت أختنا فرحة، وهي تمسك ضفدعة صغيرة، خضراء رشيقة، حاولت الضفدعة التملص من بين اصابعها الطرية، فيما هي حرصت ان لا تضغط عليها كي نبقى نلهو معها على العشب المبلل، قبل انا نطلقها كالاسماك الصغار التي صرنا نظنها صديقاتنا.. اطلقتها أختنا أخيراً، ورحنا نسير وراءها جذلين، وهي تقفز قفزات قصيرة، لتنزل الى المياه الضحلة فوق العشب، وتسبح بعدها ثم تغيب..
في اليوم التالي، وجدنا ضفدعتنا الصغيرة نفسها، او ظننا ذلك، فأمسكها اخي ضاغطا عليها باصابعه، فاخذت تصدر صوتاً كالبكاء، جعله يرتبك، لتسقط من يده ثم راحت تقفز بصعوبة، قفزات قصيرة, قبل ان تنزل الى المياه وتغيب عنّا..
عندما عدنا ذلك اليوم، حدثنا أمنا عن اشياء كثيرة من دون ان نذكر حكاية الضفدعة، لكن اختنا ظلت صامتة، تنظر الينا بعينين حزينتين، فنمنا تلك الليلة قلقين، ولم نحلق باحلامنا معاً نحو المسطح المائي، ولم نسبح كالاسماك والضفادع الصغيرة كعادتنا!
حين أصيبت اختنا بمرض الزمها الفراش ذهبنا الى المسطح المائي انا واخي وحدنا، ووقفنا عند الاطراف نتفرج حذرين، فرأينا ضفدعة كبيرة يحيطها صغارها يتقافزون على العشب ، لم نعرف ان كانت ضفدعتنا بين الضفادع الصغيرة ام لا، كونها متشابهة، ولم نحدث اختنا المريضة بذلك حين رجعنا، لان امنا ناولتها الدواء ودثرتها لتنام، ولما احتدم الغروب بنقيق الضفادع، نظرت الينا اختنا بعينين ذابلتين، لا ندري ان كان ذلك بفعل المرض ام النعاس، لكن اخي قال لي، انها سألته بغيابي عن الضفدعة التي سقطت من يده، وتركناها عليلة في ذلك اليوم الذي ودعنا بعده اللعب مع صغار الضفادع والاسماك معاً، وصرنا نكتفي بالجلوس على العشب اليابس ننظر لتلك الكائنات الصغيرة، وهي تلهو بالمياه الصافية التي تترقرق بهدوء على العشب، ثم نعود لبيتنا، فنجد اختنا وقد ذوت اكثر وشحب وجهها، وامنا تناولها الدواء بصمت يقطعه نقيق الضفادع حين يتعالى عند الغروب.
عندما غادر الربيع الذي سبقته اختنا بايام مودعة ايانا الى الابد، انحسرت المياه منسحبة الى الاهوار فتحول المسطح المائي الى ارض خضراء، بعد ان تعرى العشب، ليغدو المكان اشبه بسفينة كبيرة تهدّل جانبيها، وفي العمق ظل قليلاً من الماء الاسن في ساقية صغيرة متقطعة، وجدنا فيها ضفادع واسماك صغيرة ميتة، فيما غلف المكان سكون وروائح كريهة، ولم نعد نسمع في الغروب نقيقاً للضفادع، ولم نر اسماكاً صغيرة.. كنا نقف انا واخي، ينظر احدنا بوجه الاخر، ثم نتحدث عن ايام الربيع وصغار السمك والضفادع، وعن اختنا قبل ان نعود ليستقبلنا نشيج امنا ووجوم وجه ابينا، وموقد بيتنا الذي لم يعد يسمع شيئاً من احاديثنا القديمة..
لما عاد الربيع، لم نذهب انا واخي الى المسطح المائي الذي عاد، وصرنا نلهو في البيت او قريبأً منه، ونرى ضفدعة صغيرة، تشبه تلك التي سقطت من يد اخي، تأتي عصراً عند الساقية المحاذية لبيتنا، تنظر بوجوهنا، بصمت، تقفز مبتعدة قليلاً، وبصعوبة، ثم تنزوي بين طيات الطين اللازب، وتغمض عينيها وتفتحها بين حين وآخر، فتبدوان ذابلتين، فنتراص انا واخي على بعضنا، ثم نعود الى البيت يغلفنا الصمت ويشايعنا الخوف الذي لم نبح به لامنا او ابينا.. وحين يأتي الغروب، نشاهد أمنا وهي تعد المبخرة. فنتهيأ لسماع نقيق الضفادع الذي تصغي اليه ، وحين يهدأ يظل صوت ضفدعة واحدة يأتينا نقيقها كالانين، يبدأ مع نوبة بكاء امنا، ويهدأ حين تصمت، حيث تذوي المبخرة، ويغط المسطح المائي مع قريتنا في ظلام الليل وصمته الكئيب.
عبد الامير المجر
اصبحت واخي الذي يصغرني بنحو عامين، نكرة نقيق الضفادع الذي يتقاطع عند حافات المسطح المائي، لانه يثير في نفسينا شيئاً من الخوف، ويبعث أحساساً بالوحشة , يذكيها حال امنا وابينا اللذين صارا يمارسان ما يشبه الطقس الذي يجعل الحزن يخيم على بيتنا عند المساءات، او حين يحل الغروب، حيث يتعالى نقيق الضفادع الذي يتوقف بعد حلول الظلام، الا ضفدعة واحدة، يأتينا صوتها كالانين، فتغرق امنا بنوبة من بكاء، تحرص ان يكون صامتاً، لكن نشيجها يفضحه، فنغرق معها بالبكاء، فيما يظل أبونا حانياً رأسه ومصيغاً لانين الضفدعة الذي يتناغم مع نشيج امنا بشكل غريب!
قبل مرض اختنا ، كنا نذهب أنا واياها واخي الصغير الى اطراف المسطح المائي، نلعب عصراً عند الماء الصاعد فوق العشب الذي يغمر اقدامنا حد الكعوب، فنمسك باسماك صغيرة، ثم نضعها في المياه الاقل ضحالة، لتبقى تحت سيطرتنا، نلعب معها او بها، قبل ان نعيدها للمياه العميقة، يملؤنا فرح غامر حين نراها تسبح مسرعة نحو الاعماق، هاربة من عبثنا الذي يتكرر كل يوم، حيث نحكي لامنا وأبينا مشاهداتنا والعابنا مع السمك الصغير، فتبتسم ويبتسم أبونا، ثم يكرر علينا تحذيره.. لا تقتلوا السمك الصغير، لان الله يرميكم في النار!
في الليل، عندما تتكور اجسادنا الصغيرة تحت الازار الذي تدثرنا به امنا، يسرقنا السمك الصغير، والضفادع، من نومنا فنخرج لنلهو على المياه الضحلة، فوق العشب، واحياناً ننحدر نحو الاعماق، يلاحقنا صوت أمنا التي تسرع راكضة خلفنا فوق العشب، لكننا نسبقها ونترك صدى صوتها يتردد بين المياه التي تعبث باجسادنا السابحة كالاسماك الصغيرة، فيما تغدو اختنا ضفدعة، خضراء، تبقى عند الحافات تقفز جذلة، وحين تمسكها أمنا، وترفعها، تكون أجسادنا قد تعرت، والازار رفعته عنا، فنفرك اعيننا وننهض صباحا بتثاقل ونتجه الى الموقد في البيت، لنتناول طعام الفطور، ثم نجمع شظايا أطياف الليل، نضحك، وتضحك امنا ويهز ابونا يده متبرماً ثم يبتسم, قبل ان نعد انفسنا لجولة العصر المعتادة التي تسبق اطياف الليل!
في احد الايام، وبينما كنا نلهو مع السمك، صاحت أختنا فرحة، وهي تمسك ضفدعة صغيرة، خضراء رشيقة، حاولت الضفدعة التملص من بين اصابعها الطرية، فيما هي حرصت ان لا تضغط عليها كي نبقى نلهو معها على العشب المبلل، قبل انا نطلقها كالاسماك الصغار التي صرنا نظنها صديقاتنا.. اطلقتها أختنا أخيراً، ورحنا نسير وراءها جذلين، وهي تقفز قفزات قصيرة، لتنزل الى المياه الضحلة فوق العشب، وتسبح بعدها ثم تغيب..
في اليوم التالي، وجدنا ضفدعتنا الصغيرة نفسها، او ظننا ذلك، فأمسكها اخي ضاغطا عليها باصابعه، فاخذت تصدر صوتاً كالبكاء، جعله يرتبك، لتسقط من يده ثم راحت تقفز بصعوبة، قفزات قصيرة, قبل ان تنزل الى المياه وتغيب عنّا..
عندما عدنا ذلك اليوم، حدثنا أمنا عن اشياء كثيرة من دون ان نذكر حكاية الضفدعة، لكن اختنا ظلت صامتة، تنظر الينا بعينين حزينتين، فنمنا تلك الليلة قلقين، ولم نحلق باحلامنا معاً نحو المسطح المائي، ولم نسبح كالاسماك والضفادع الصغيرة كعادتنا!
حين أصيبت اختنا بمرض الزمها الفراش ذهبنا الى المسطح المائي انا واخي وحدنا، ووقفنا عند الاطراف نتفرج حذرين، فرأينا ضفدعة كبيرة يحيطها صغارها يتقافزون على العشب ، لم نعرف ان كانت ضفدعتنا بين الضفادع الصغيرة ام لا، كونها متشابهة، ولم نحدث اختنا المريضة بذلك حين رجعنا، لان امنا ناولتها الدواء ودثرتها لتنام، ولما احتدم الغروب بنقيق الضفادع، نظرت الينا اختنا بعينين ذابلتين، لا ندري ان كان ذلك بفعل المرض ام النعاس، لكن اخي قال لي، انها سألته بغيابي عن الضفدعة التي سقطت من يده، وتركناها عليلة في ذلك اليوم الذي ودعنا بعده اللعب مع صغار الضفادع والاسماك معاً، وصرنا نكتفي بالجلوس على العشب اليابس ننظر لتلك الكائنات الصغيرة، وهي تلهو بالمياه الصافية التي تترقرق بهدوء على العشب، ثم نعود لبيتنا، فنجد اختنا وقد ذوت اكثر وشحب وجهها، وامنا تناولها الدواء بصمت يقطعه نقيق الضفادع حين يتعالى عند الغروب.
عندما غادر الربيع الذي سبقته اختنا بايام مودعة ايانا الى الابد، انحسرت المياه منسحبة الى الاهوار فتحول المسطح المائي الى ارض خضراء، بعد ان تعرى العشب، ليغدو المكان اشبه بسفينة كبيرة تهدّل جانبيها، وفي العمق ظل قليلاً من الماء الاسن في ساقية صغيرة متقطعة، وجدنا فيها ضفادع واسماك صغيرة ميتة، فيما غلف المكان سكون وروائح كريهة، ولم نعد نسمع في الغروب نقيقاً للضفادع، ولم نر اسماكاً صغيرة.. كنا نقف انا واخي، ينظر احدنا بوجه الاخر، ثم نتحدث عن ايام الربيع وصغار السمك والضفادع، وعن اختنا قبل ان نعود ليستقبلنا نشيج امنا ووجوم وجه ابينا، وموقد بيتنا الذي لم يعد يسمع شيئاً من احاديثنا القديمة..
لما عاد الربيع، لم نذهب انا واخي الى المسطح المائي الذي عاد، وصرنا نلهو في البيت او قريبأً منه، ونرى ضفدعة صغيرة، تشبه تلك التي سقطت من يد اخي، تأتي عصراً عند الساقية المحاذية لبيتنا، تنظر بوجوهنا، بصمت، تقفز مبتعدة قليلاً، وبصعوبة، ثم تنزوي بين طيات الطين اللازب، وتغمض عينيها وتفتحها بين حين وآخر، فتبدوان ذابلتين، فنتراص انا واخي على بعضنا، ثم نعود الى البيت يغلفنا الصمت ويشايعنا الخوف الذي لم نبح به لامنا او ابينا.. وحين يأتي الغروب، نشاهد أمنا وهي تعد المبخرة. فنتهيأ لسماع نقيق الضفادع الذي تصغي اليه ، وحين يهدأ يظل صوت ضفدعة واحدة يأتينا نقيقها كالانين، يبدأ مع نوبة بكاء امنا، ويهدأ حين تصمت، حيث تذوي المبخرة، ويغط المسطح المائي مع قريتنا في ظلام الليل وصمته الكئيب.
عبد الامير المجر