مصطفى الحاج حسين - مرارة..

لأجلي ، اشترى أبي تلفازاً لنا بصورةِ الأسودِ والأبيضِ ، لأتوقَّفَ عن ارتيادِ دورِ السينما ، إذ لمْ أتركْ فيلماً إلَّا وأحضرُه مراتٍ عديدةً .

فرحْنا بالتلفازِ كثيراً أنا وأخوتي ، لكنَّني لمْ أحقِّق ماكان يرغبُهُ أبي منِّي ، فلم أقلِعْ عن عادتي في التّردُّد الدائمِ على السينمات .

وكثيراً ماكنتُ أغافلُهُ برفقةِ أختي الكبيرةِ ، لمشاهدةِ الأفلامِ المِصريَّةِ .

وبعد فترةٍ قصيرةٍ ، سقط التلفازُ من أعلى الخزانةِ فتهشَّمَ ، ممَّا أبقانا لأشهرٍ حزانى لحرمانِنا منَ التلفاز ،
حتَّى تسنَّى لأختي جمعَ مبلغٍ مناسبٍ من جرَّاءِ عملِها في الخياطةِ ، حيثُ كانت تُحيكُ وتُخيطُ الفساتينَ الجميلةَ ببراعةٍ .

فشترى لنا أبي تلفازأً جديداً ، وسُعدنا به ، حيثُ أخذتِ العائلةُ تتحلَّقُ حولَه في ليالي الشتاءِ الماطرةِ ،
وتجتمعُ لتشاهدَ مسلسلَ السهرةِ ، فلاينامُ الواحدُ منَّا إلّا بعد أنْ يستمعَ إلى برنامجِ الوشَّةِ الخالدِ .

كان والدي يعملُ في مهنةِ البناءِ ، وأنا أشتغِلُ معه
لكنَّ العملَ في هذا الفصلِ الباردِ ، يتوقَّفُ تقريباً
لذلك كنت أحِبُّ الشتاء ، لأتحرَّر من مهن ٍ لا أطيقُها ، بسبب قساوتِها ومخاطرِها ، وشدَّةِ التعبِ فيها ،
وكنتُ أغتنمُ فُرصتي في الشتاءِ لأتفرَّغَ للسينما والقراءةِ ، بينما كان والدي ، يمقُتُ هذا الفصلَ من السنةِ ، حيث يكونُ بلا عملٍ ، رغمَ مسؤوليتِهِ عن أسرةٍ كببرةِ العَدَدِ ، وشديدةِ الاستهلاكِ ، فينفقُ ما ادَّخرَهُ من نقودٍ ، ثمَّ ليبدأَ بالاستدانةِ من أقربائِهِ ومعارفِهِ .

وحدَثَ أنِ استدانَ من ابنِ عمِّه أبي شفقٍ مرةً على أنْ يردَّ له هذا الدينَ ، في فصلِ الصيفِ ، لكنَّنا لا ندري لماذا استعجلَ أبو شفق على مطالبة أبي.؟!.

ما السببُ ؟!. ما الدوافعُ ؟! لا أحدَ يعلم ُ.. !! عِلماًَّ أنه لم يكنْ هنالكَ زعلٌ ، أو أيُّ خِلافٍ بين أبي وبين أبي شفقٍ ، الذي كان يوماً أجيراً عنده ، ولم يفلحْ بأنْ يصيرَ معلمَ بناءٍ ، رُغم محاولاتِ والدي الكثيرةِ لتعليمِه.

كان أبو شفقٍ في تلك الأيام ، ينادونَهُ عبدو لكنَّه بعد أن توظَّفَ في الدولة ، وصار له شأنٌ في الحزبِ الحاكمِ ، تحوَّل اسمُه ، من عبدو إلى أبي شفقٍ ، فلم يعُدْ يناديه أحدٌ باسمه ، بما فيهم والدي ، إذ صار له هيبةٌ ومكانةٌ ومكتبٌ ، وقدِ اتسعتْ رقعةُ شواربِه فوقَ فمهِ الواسعِ التكشيرةِ ، إلى أنِ أختلسَ ملايينَ الليراتِ من صندوق المحاسبةِ ، وأتى بشهودٍ زورٍ ، فدفعَ لهم بسخاءٍ ، ليحلفوا على المصحفِ الشريفِ ، ودفع للقاضي رشوةً ضخمةً ، ليصدِّق كَذِبَ الشهودِ ، بدونِ تدقيقٍ ، فحكمَ عليه بالسجنِ لمدةِ سنةٍ ، وكان داخلَ السّجنِ معزَّزاً ومكرَّماً ، إذ راح يتصرَّف وكأنَّه مأمورُ السّجنِ ، وكان يرتشي داخلَ السجنِ ويقوم بالوساطات للسجناء وأهليهم وكان بالاتفاقِ مع مديرِ السجنِ يخرجُ خِلسةً من السجنِ ، لينامَ في بيتِهِ مع زوجته ليلةً على الأقلِّ في كلِّ أسبوعٍ .

وبعد سِجنِه الترفيهي هذا ، تمَّ طردُهُ من الحزب
ِفلمْ يأسفْ على ذلك ، حيث صار بالمُقابلِ غنياً ، وله تجارتُه ، ومشاريعُه ، ومكانتُه العالية ، وراح يتعاطى الخمورَ ، ويبحث عن الفاحشةِ ليلَ نهار .

وكان أبو شفقٍ ظالماً حتَّى على أولادِه وزوجتِه
فكثيراً ما كُنا نسمعُ منْ أخوته الفقراءِ ، عن أخيهِمِ السّارقِ هذا ، والذي هو يتفاخرُ بتاريخِهِ ويعتبرُ أنَّ السّرقةَ من الدولة حلالٌ وليست حراماً ، وهي حقٌ مكتسبٌ ، لكلِّ مَنٍ استطاعَ إليها سبيلا ، ومع هذا هو لا يحلّلُ ولا يحرّمُ في كلِّ القطاعات ، الخاصَّة والعامَّة ، ولأنَّه غارقٌ في المعاصي كان يخشى أن تلِدَ له زوجتُه بنتاً ، فيأتي من يعتدي له عليها ، أو يجرُّها إلى الرذيلةِ ، ولهذا كان يرغمُ زوجتَه على الإجهاضِ ، في كلِّ حملٍ لها ، ولما كانتِ امرأتُه ترفُضُ،وتذهبُ أحيانا لعندِ أهلِها ، كان يهدِّدها بالطلاقِ فتُجبَرُ على
الخنوعِ وتحقيقِ مطلبِه ، وتخضعُ لعمليَّةِ الإجهاضِ الخطرةِ والممنوعةَِّ قانونياً ، وكانت حكمةُ اللهِ أن تُجهِضَ زوجتُه في كلِّ مرَّةٍ ذكراً ، فيندمُ أبو شفقٍ ويغضبُ ، إذ كان يرغبُ بالذكور حتَّى يرثوا أموالَه الكثيرةَ ، ومشاريعَهُ الضخمة .

إنَّ قضيَّةَ مجيئِهِ إلى دارِنا ، لمطالبةِ أبي ، كانت مفاجٍئة لنا ، وغيرَ منطقيَّةٍ أبداً ، فهو ليس بحاجةٍ إلى النقود ، ولمْ يحُنْ موعدُ سدادِها بعدُ ثم ليس هذا التوقيتُ مناسبا ؟! .. أمرٌ غريبُ أن يأتي في صباحِ عيدِ الفطر .

وهو لا يدفعُ زكاةٌ ، ولا يصومُ رمضانَ ، إذاً هل جاء لإذلالِ أبي ؟!..

أم أنَّه كان مخموراً ، وليس بكاملِ وعيه ؟! ..
أكان يريد الإنتقامَ من أبي ، لأنه كان ذاتَ يومٍ معلِّمَه في الشغل؟!.. لا ندري ما هي الدوافعُ ، لكنَّه جاءَ صباحَ العيدِ .

سمعتُ صوتَ سيارةٍ،وَقَفَتْ أمام بابِ دارِنا ، ثم أخذ زمورُها المزعجُ يصدحُ ويتعالى ، خرجتُ .. وفتحتُ الباب َ، لأنظرَ من هذا قليلُ الذوقِ ، تطلَّعتُ إليه وعرفتُهُ ، بينما هو كان جالساً خلفَ مقوَدِ سيارتِهِ البيضاءِ بعنجهيَّةٍ .

هتفتُ بفرحةٍ :

عمي أبو شفق ..!! أهلاً وسهلاً ، تفضَّل .

ظلَّ عابساً ، ونظرة التعالي بادية في عينيه ، ومن منظر شاربه الضخم ،قال :

- أينَ أبوك؟. قلتُ :

- إنَّه بالداخل ، تفضل يا عمي .

لكنَّه ظلَّ متجهِّماً ، عابساً ، وقال بصوتٍ مُتعالٍ وآمرٍ :

- نادي على أبيكَ بسرعةٍ .

دخلت إلى الدار وأنا أصرخ :

أبي ، لقد جاء إلينا عمي أبو شفقٍ ، وهو ينادي عليك .

خرج أبي من الغرفة ، وعلائمُ الدهشةِ كانت باديةً على ملامحِ وجهِه ، فأبو شفقٍ،لم يسبقْ له أنْ زارَنا ، ولا في الأعيادِ ، كما كان يفعلُ أخوتُه ، وكذلك كان أبي يبادلهم الزيارات .

استقبلَه أبي ببشاشةٍ واضحة ٍ، مرحباً به بصوتٍ عالٍ ، فيه ما يشي بالحيرةِ والارتباكِ والاستغرابِ :

- أهلاً ابنَ العمِّ ، يا مرحباً تفضَّل ، كلّ عامٍ وأنتَ بألف خير .

لم يكنْ من عادةِ أبي ، الترحيبُ بهذه الطريقةٍ،فهو ترحابٌ مصطنعٌ ليس نابعاً من القلب .

ردَّ أبو شفقٍ باقتضابٍ ، ومن دون أنْ تُطِلَّ بسمةٌ على شفتيهِ الرازحتينٍ تحت شنبِهِ غزيرِ الشَّعرِ ، الذي لاينسجمُ مع وجهِه الضيِّقِ الصغيرِ :

- أهلاً ، أين أنتَ ؟! لم نعدْ نشاهدُك ، بعد أنِ إستدنتَ منِّي؟!.. أتحسبُ أنَّك نصبتَ عليَّ واختفيت َ؟! واللهِ أنا أقومُ بفضحِكَ ، وأتسبَّبُ لك بالبهدلةِ أمام كلِّ العالمِ ، وآخذ حقِّي منكَ غصباً عنكَ .

كان كلامُه صدمةً كبيرةً لأبي ، وعلى مرأىً منَّا نحن أولادُه المتحلِّقونَ حولَ السيَّارة ، أمامَ بابِ دارِنا يومَ العيدِ ، وممَّن ؟! منِ ابنِ عمِّه الذي يصغَرُهُ بالعمرِ ، أجيرِه السابقِ !!! .

فأبو (مخطة) كما كان يلقبونه،يطالبه بمبلغٍ ضئيلٍ وتافهٍ ، وهو المكتنز بالنقود .

إزدادَ وجهُ أبي امتقاعاً ، وتضاعفَتْ سُمرتُه ، وصار يميلُ إلى السوادِ الداكن ، بينما طفحَتْ عيونُهُ
بالاحمرارِ والغضبِ .

صوتُه كادَ يختنقُ ، وبسمتُه انعدمتْ عند شفتيه .

يا الله !!! .. لم أشاهدْ أبي مِنْ قبلُ ، يتعرَّضُ لمثلِ هذا الموقفِ اللعينِ السخيفِ التافهِ الظالمِ المؤلمِ غير الإنساني ، خشيت عليهِ أنْ يحدُثَ له مكروهٌ ، كدْتُ أصرُخُ بهذا العمِّ الشنيع :

- طزْ منكَ ومن نقودِك المسروقةِ ، نحن نعرِفُ تاريخَك
القذرَ ياحرامي .

لكنَّني خشيتُ من أبي ، فهو لا يسمحُ لي بالتدخُّلِ حتَّى مع الغريب ، فكيف أتدخَّل مع ابنِ عمه ؟! إنَّه حتماً سيضربُني ، ويأمرُني بالدخولِ .

أخيراً انبعثَ صوتُ أبي ، عميقاً شجياً ، حين قال :

- لكنْ أنا وعدتُك أن أردَّ نقودَك ، في الصيفِ،ونحن لازلنا في الشتاءِ ، فلَمْ أشتغِلْ بعدُ،ولم يحُنِ الموعدُ.

ثم استطرد :

- لِمَ هذه العجلةُ ؟! هل أنتَ بحاجةٍ ، أو بضائقةٍ لا اسمحَ اللهُ .

وما كادَ أبي ينهي كلامَه ، حتَّى زعقَ :

- يا أخي ، مع هذا أنا أريدُ كاملَ نقودي ، لن أنتظرَ مجيءَ الصيف ، أريدُ نقوديَ حالاً ، وإنْ شاءَ اللهُ ،
تذهبُ لتبيعَ أولادَك ، أنتم لا تستحقُّونَ المساعدةَ ،
أوالوقوفَ بجانبِكم ، لا أنتَ ولا أخوتي الحقراء ُ، ولا غيرُكم من الأقرباءِ عديمي الذوقِ والفَهمٍ .

سألَهُ أبي باستنكارٍ :

- هلْ هكذا صارتِ العلاقةُ بيننا؟!. فلو أنِّي أعرفُ لما قصدْتُك ، واستدنْتُ منكَ .

قال أبو شفقٍ متهكِّماً :

- إذاً عجِّل ردَّ لي نقودي .

أجابه أبي باحتقارٍ :

- حاضر ، اليومَ وقبل أنْ تنامَ ، ستصِلُكَ نقودُك .

شغَّل سيارتَه ، تأهُّباً للسير ، لكنَّه تكلم :

- أنا في الانتظارِ ، وإنْ لم تأتِ ،أعرفُ كيف سأتصرَّفُ.

انطلقَ بسيارتِه ، دونَ سلامٍ أو وداع ، غيرَ عابئٍ بمَنْ في الشارعِ ، منْ أطفالٍ أو مارَّة .

دخلَ أبي الدار َ، في حالةٍ يرثى لها من شدَّةِ القهرِ والغيظِ .

سألتْه أمِّي ، وكان أخوتي قد سرَّبوا لها الخبرَ :

- خَيرٌ ؟!.. مابه أبو مخطة ، هل جاء لمعايدتِك؟! فأنت ابن عمِّه الكبير ، ومعلمُه السابقُ في الشغل .

قال أبي وهو يَدْرُجُ سيجارتَهُ :

- يبقى الساقطُ ساقطاً ، مهما علا شأنُهُ،وعظُمَ قدرُه .

صاحت أمِّي :

- وهلْ لهذا الوضيعِ قدرٌ أو شأنُ؟!..إنَّه مجرَّدُ حراميٍّ؛
أقسَمَ على كتابِ الله كَذِباً ، وسيرتُه معروفةٌ عند القاصي والدّاني ، لكنْ قلْ لي ماذا ستفعلُ؟.. وأنتَ وعدتَهُ أن تردَّ إليه نقودَه النجِسةَ هذا اليوم ؟!.

دخلَ أبي إلى الغرفةِ،دون أن يجيبَ على سؤالِ أمِّي .

هرعتْ أختي لتُحضِر لأبي ، إبريقاً منَ الشايِ التي يطلبُها ، خاصَّةً حين يكونُ منزعجاً ، أو مقهوراً .

دخلتُ أنا إلى الغرفةِ المجاورةِ ، كي أدخِّن بالسِّر عن أبي .

وبعد مِضي ما يقاربُ الساعةَ ، وبعد أنْ عدتُ إلى القراءة ِ، وفجأةً ، سمعتُ جلَبَةً ، وصراخاً،وزعيقاً ، ينبعثُ من بيتِنا ، في الغرفةِ الثانيةِ ، فأطفأتُ
سيجارتي على عجلٍ ، ورميتُ الكتابَ من يدي ،
وهرعتُ لأستطلعَ حقيقة الأمر ، وأعرف مايحدث ، فالأصوات أخذتْ تتعالى وتزدادًَُ حدّة وقوّة .

وما إن دخلتُ الغرفةَ ، حتَّى صاحت أُختي وهي تبكي،كأنَّها تستنجِدُ بي :

- تعالَ وانظرْ أبوك .. يريدُ أن يبيعَ لنا التلفازَ ، إنَّه لي ، طَلِعَت عيوني مِنَ السهرِ ، حتى اشتريتُه منْ تعبي وأنا ساهرةٌ على مكنةِ الخياطةِ .

وقبل أن أتكلَّمَ ، وأنا على أيِّ حالٍ عاجزٌ عن الكلامِ أو التدخُّلِ ، فلا أستطيعُ موافقةَ أبي على بيعِ التلفازِ ، لأنه فعلاً لأختي ، وثمنُه من تعبِها ، وهي متعلقةٌ به أكثرَ منِّي ، ولا أقدُرُ على الاحتجاجِ ، فالموقفُ الذي تعرَّضَ له أبي اليوم ، يساوي عُمُري كلُّه،ويستحقُّ -لو كان بمقدوري-أنْ أبيعَ دمي،وأساعدَ أبي ، على الخلاصِ من هذه الورطةِ اللعينة .

كان أبي يصرُخُ بحِدَّةٍ :

- قلتُ لكِ يا ابنةَ الكلبِ ، في الصيفِ سأشتري لكمُ أفضلَ منه ، سأحضِرُ لكم تلفازاً ملوَّناً .

زعقتْ أُختي و دموعُها قد بدأت تقطُرُ من خدَّيها :

- لا أريدُ تلفازاً ملوَّناً ، اترُكْ لنا هذا، ونحن بألفِ خيرٍ .

اقتربت أمِّي من أُختي شاحبةَ الوجهِ ، ترجوها :

- يا ابنتي ..الله يرضى عليك ، دعي أبوك يتخلَّص من هذا النذلِ ، والله لو كان عندنا غسَّالة أو براد ، لَقُلتُ له بِعْ ما يناسِبُكَ واترك لها تلفازَها .

اصبري يا ابنتي ، الله كريمٌ سيعوِّض علينا بالأفضلِ .

باع أبي التلفازَ ، فبكتْ أختي كثيراً ، وبكيتُ أنا في الخفاءِ قليلاً .

مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى