منذ أكثر من عشر سنوات، أيْ منذ حربٍ وبعضِ الوقت، وقبلَ أن أتجاوز السابعة عشرة، كنّا قد اعتدنا، أنا وصديقي الذي علّمني حلاقةَ الذقن، الذهابَ إلى منطقةٍ مقفرةٍ تبعد عن القرية حوالي خمسة كيلومترات، لسببيْن فقط: لكي نُدخِّن سرًّا، ولكي نصرخ.
كنّا ننهي جزءًا من واجباتنا المدرسيّة، ثمّ نلتقي بعد الظهر، نستمع إلى الموسيقى، ونشرب المتّة، ونتحدّث، ثمّ نسأل الحزنَ: لماذا يحشدُ في صدورنا جميعَ أشيائه؟ وكلّما عجزنا عن إجابةٍ تقْنعنا، انطلقنا بدرّاجته الناريّة البرتقاليّة شرقًا.
نسلكُ دربًا ترابيّةً بين الحقول. وإنْ رأينا أحدًا في طريقنا فسيكون راعيًا يركب حمارَه عائدًا برفقةِ أغنامه من المراعي، يسير نحو القرية، يريد أن يصلها قبل الغروب.
نُوقِف الدرّاجة على هضبةٍ تمتدّ تحتها سهولٌ حمراء، ينمو فيها الصمتُ وأعشابٌ قصيرة. نجلس على صخرةٍ عالية، نُشعل سيجارتين. نُدخّن. نصمت. نراقب السكينةَ وهي تجري أمامنا فوق السهوب، برشاقةِ وعْل!
وفي لحظةٍ برّاقة، غامضة، أنظرُ إليه. ينظرُ إليّ. ثمّ ننظرُ معًا نحو الأفق، ونبدأ بالصراخ.
وما إنْ نَفتح أفواهَنا حتّى تَسحبَ أصواتُنا كلَّ ضيقنا وترميه، ليتلاشى ببطءٍ في البرّيّة الخاوية. عندها نُحسّ بأنّنا امتلأنا بالفراغ، ذلك النوعِ من الفراغِ الذي لا يَصلحُ سواهُ وقودًا للاستمرارِ والتحمّل. وعندئذٍ، نهمُّ بالعودة إلى القرية، ونحن نُغنّي فوق الدرّاجة، التي تناورُ بمشقّةٍ حجارةَ الطريق.
وبعد أن فرّقتنا الأيّامُ كلًّا في اتّجاه، بدأت الحربُ، فلم يعد ثمّة مكانٌ للصراخ، إذ أصبحتْ هذه المنطقة ــــ مثلَ غيرها ــــ جبهةً للقتال، وغدت المناطقُ المأهولةُ أعشاشًا للموت والدمار، وبات من شأنِ الصراخ أن يزيدَ من منسوب الذعر فيجعلَكَ بطلًا لقصّة غريبة لن تتركَ لسانًا لن يلوكَها. ولأنّي لا أمتلك مثلَ هذا الطموح فلم أتجرّأ على الصراخ منذ ذلك الوقت.
بيدَ أنّني، حين أكون في الشارع أحيانًا، تستولي عليَّ تلك اللحظةُ الغامضة، فأفتح فمي، لكنّني أكتمُ الصوت كي لا يرتمي الناسُ من حولي أرضًا، ظنًّا منهم أنّ قذيفة ستسقط بينهم، أو أنّ شخصًا ما يرغبُ في تفجيرِ نفسه. بل إنني أرفضُ أن أصرخَ منذ أن نشبت الحرب، إذ كيف أصرخ ورفيقُ الصّراخِ يعجز عن ذلك منذ صيف العام 2011؟
صديقي لم يعد يفرح ولا يحزن. صديقي، الذي كنتُ أجتازُ معه في الصفّ العاشر ثمانية كيلومترات خلال أربعين دقيقة، لم يعد يركض. لم يعد يبكي. لم يعد يضحك. صديقي قتلته رصاصةٌ من أحد الذين مهّدوا لكلّ هذا الخراب.
لذلك لن أصرخَ من دونه. لن أصرخ وإنْ خزّنتُ في قلبي كلَّ أحزان الدنيا، أو جررتُ بحبلٍ يمتدّ إلى عنقي كلَّ الأحياء المدمّرة وكلَّ حكايات القهر وكلّ الذكريات. لقد قررت أن أصمتَ ولو بقيتُ إلى آخرِ العمر أشربُ من دموعِ الأمّهات.
اليوم، لا أحتاجُ أن أمدَّ رأسي كثيرًا كي أنظرَ داخلَ نفسي لأجدَ أطنانًا من الرّكامِ والهراء تنتظرُ أن يتمّ تفريغُها بصرخةٍ واحدة؛ ولأتذكّرَ أنّني فقدتُ صديقَ الصراخ إلى الأبد؛ وأنّني ما زلتُ أتجنّبُ لقاءَ أمّه؛ ولأدركَ أنّ هذه البلاد ــــ عندما أغمضتْ جفنيْه ــــ أغلقتْ مع عينيهِ كلّ أمكنةِ الصراخ؛ عينيه اللتين تقولان لهذا الوطن: أبناؤكَ لا يريدون منكَ شيئًا... سوى مكانٍ للصراخ.
سوريا
*عن مجلة الاداب
كنّا ننهي جزءًا من واجباتنا المدرسيّة، ثمّ نلتقي بعد الظهر، نستمع إلى الموسيقى، ونشرب المتّة، ونتحدّث، ثمّ نسأل الحزنَ: لماذا يحشدُ في صدورنا جميعَ أشيائه؟ وكلّما عجزنا عن إجابةٍ تقْنعنا، انطلقنا بدرّاجته الناريّة البرتقاليّة شرقًا.
نسلكُ دربًا ترابيّةً بين الحقول. وإنْ رأينا أحدًا في طريقنا فسيكون راعيًا يركب حمارَه عائدًا برفقةِ أغنامه من المراعي، يسير نحو القرية، يريد أن يصلها قبل الغروب.
نُوقِف الدرّاجة على هضبةٍ تمتدّ تحتها سهولٌ حمراء، ينمو فيها الصمتُ وأعشابٌ قصيرة. نجلس على صخرةٍ عالية، نُشعل سيجارتين. نُدخّن. نصمت. نراقب السكينةَ وهي تجري أمامنا فوق السهوب، برشاقةِ وعْل!
وفي لحظةٍ برّاقة، غامضة، أنظرُ إليه. ينظرُ إليّ. ثمّ ننظرُ معًا نحو الأفق، ونبدأ بالصراخ.
وما إنْ نَفتح أفواهَنا حتّى تَسحبَ أصواتُنا كلَّ ضيقنا وترميه، ليتلاشى ببطءٍ في البرّيّة الخاوية. عندها نُحسّ بأنّنا امتلأنا بالفراغ، ذلك النوعِ من الفراغِ الذي لا يَصلحُ سواهُ وقودًا للاستمرارِ والتحمّل. وعندئذٍ، نهمُّ بالعودة إلى القرية، ونحن نُغنّي فوق الدرّاجة، التي تناورُ بمشقّةٍ حجارةَ الطريق.
وبعد أن فرّقتنا الأيّامُ كلًّا في اتّجاه، بدأت الحربُ، فلم يعد ثمّة مكانٌ للصراخ، إذ أصبحتْ هذه المنطقة ــــ مثلَ غيرها ــــ جبهةً للقتال، وغدت المناطقُ المأهولةُ أعشاشًا للموت والدمار، وبات من شأنِ الصراخ أن يزيدَ من منسوب الذعر فيجعلَكَ بطلًا لقصّة غريبة لن تتركَ لسانًا لن يلوكَها. ولأنّي لا أمتلك مثلَ هذا الطموح فلم أتجرّأ على الصراخ منذ ذلك الوقت.
بيدَ أنّني، حين أكون في الشارع أحيانًا، تستولي عليَّ تلك اللحظةُ الغامضة، فأفتح فمي، لكنّني أكتمُ الصوت كي لا يرتمي الناسُ من حولي أرضًا، ظنًّا منهم أنّ قذيفة ستسقط بينهم، أو أنّ شخصًا ما يرغبُ في تفجيرِ نفسه. بل إنني أرفضُ أن أصرخَ منذ أن نشبت الحرب، إذ كيف أصرخ ورفيقُ الصّراخِ يعجز عن ذلك منذ صيف العام 2011؟
صديقي لم يعد يفرح ولا يحزن. صديقي، الذي كنتُ أجتازُ معه في الصفّ العاشر ثمانية كيلومترات خلال أربعين دقيقة، لم يعد يركض. لم يعد يبكي. لم يعد يضحك. صديقي قتلته رصاصةٌ من أحد الذين مهّدوا لكلّ هذا الخراب.
لذلك لن أصرخَ من دونه. لن أصرخ وإنْ خزّنتُ في قلبي كلَّ أحزان الدنيا، أو جررتُ بحبلٍ يمتدّ إلى عنقي كلَّ الأحياء المدمّرة وكلَّ حكايات القهر وكلّ الذكريات. لقد قررت أن أصمتَ ولو بقيتُ إلى آخرِ العمر أشربُ من دموعِ الأمّهات.
اليوم، لا أحتاجُ أن أمدَّ رأسي كثيرًا كي أنظرَ داخلَ نفسي لأجدَ أطنانًا من الرّكامِ والهراء تنتظرُ أن يتمّ تفريغُها بصرخةٍ واحدة؛ ولأتذكّرَ أنّني فقدتُ صديقَ الصراخ إلى الأبد؛ وأنّني ما زلتُ أتجنّبُ لقاءَ أمّه؛ ولأدركَ أنّ هذه البلاد ــــ عندما أغمضتْ جفنيْه ــــ أغلقتْ مع عينيهِ كلّ أمكنةِ الصراخ؛ عينيه اللتين تقولان لهذا الوطن: أبناؤكَ لا يريدون منكَ شيئًا... سوى مكانٍ للصراخ.
سوريا
*عن مجلة الاداب