البنت فوق أرجوحتها يتنازعها الشوق إلى اللهو تارة، و الخوف من استيقاظ كواكب بشكل مفاجئ تارة أخرى. لقد ودت لو يسدي لها النوم جميلا، بأن يرخي شباكه- و لو قليلا- على زوجة أبيها، ريثما تشبع رغبتها في التأرجح. تثبت عينيها على باب من أبواب الدار، و تدفع الحبال بحذر؛ فتعلو الأرجوحة، و تلامس السقف الخشبي؛ فتهتز كغصن أخضر، و تكتم ضحكاتها، و تعاود الأمر مرة بعد مرة؛ فيرتبك شعرها، و تتبعثر خصلاته على جبينها الرائق، و ووجها المتوجس، بينما يرتج نهداها الصغيران على استحياء تحت فستانها الوردي الباهت. و لما كان للبهجة خمر معتق يسكر اللاهين، غفلت هنيهة عن مراقبة الباب؛ فحدث ما كانت تخشاه؛ إذ ظهرت كواكب، فجأة، و ما إن أبصرت البنت فوق أرجوحتها، حتى أطلقت وابلا من الألفاظ النابية، التي كانت كفيلة بأن تدفع البنت إلى القفز، و الاندفاع كالسهم المارق صوب مستودع التمور، حيث كانت تعمل منذ أن أقعد المرض أباها.
( ٢)
حمل أبوها جوالات التمر أعواما عديدة، حتى استوطنت الغضاريف كتفيه و عموده الفقري و فقرات عنقه؛ فلازم الفراش، بعد أن أمسى عاجزا، فاقدا الحول و الطول، لا يقوى على دفع الذباب عن وجهه. في حين شرعت الأحمال الثقيلة تأكل ظهور و أعناق بنات أبكار و نساء ثيبات، أخرجتهن الحاجة و مرارة العيش. كانت ابنة الحمال واحدة من هؤلاء الكادحات، اللائي يخرجن مع شروق الشمس، و لا يرجعن إلى بيوتهن إلا بعد الغروب. و ما بين ميقاتي الشمس صارت البنت قلما خشبيا أكلته مبراة الشقاء. تعود؛ فتناولها كواكب أرغفة من (جردوق) يابس، و مزقة لبن رائب؛ فتمضي إلى غرفتها تجرجر قدميها من فرط التعب، و ما إن تتناول لقيمات من طعامها، حتى تستسلم إلى نوم عميق، مثل لها رئة و متنفسا؛ فقد كان وجه الدنيا يهش لها، و يبتسم بمجرد أن تغمض عينيها، و كانت العصافير الخضراء تتسلل إلى مخدعها، معلنة عن قدوم وفد من الملائكة، ما إن يدخل الغرفة، حتى تغمر الأضواء الهادئة أركانها، و حتى تنداح أصوات شجية؛ فتسمع زقزقة، و تغريدا، و خريرا. كان كل شيء مهيأ لزيارة أم، فارقت الحياة منذ سنين، تدخل في أوج زينتها؛ فتعانق ابنتها الناعسة بشوق عارم، و تضع رأسها على فخذها الأيمن، و تبدأ في مداعبة خصلات شعرها برفق و حنان. تستمر الأم على تلك الحال، حتى ترى ابتسامة الرضا قد ارتسمت على ثغر ابنتها؛ فتطبع عندئذ قبلة حانية على خدها الوردي، و تغادر الغرفة في هدوء، و تعود إلى عالمها الآخر؛ كيما تستريح ابنتها من عناء يوم ثقيل لا تقوى عليه من لم تتجاوز الثالثة عشرة بعد.
(٣)
أخرجت (كواكب) من بين نهديها لفافة من أوراق العملة، و دستها في صندوق خشبي صغير، أغلقته بقفل صدئ. كانت المرأة في الأربعين من عمرها، و كانت تخرج مع طراوة العصر؛ فتدور على ديار النجع ببضائعها؛ إذ تاجرت في كل ما يخص زينة النساء من ملابس و عطور. عادة ما كانت تتخلى ( كواكب) عن وجهها الغليظ بمجرد أن تخرج من باب الدار، و عادة ما كانت تطلق العنان لأنوثتها الطاغية، التي تفجرت من جسدها الممشوق؛ فكان يرى لمشيتها دلال، أرسل رسائل ملغومة، أشعلت النار في أبدان فتيان النجع، بينما أضفت العلكة، التي لم تفارق فمها على وجهها الخمري فتنة فوق فتنتها. تطوف على الدور، تبيع بضائعها الرائجة، و تتلذذ في الطريق بعبارات غزل يطلقها شبان، صوبوا نظراتهم الملتهبة نحوها، على هيئة سهام، اخترقت ثيابها، و التهمت لحمها التهاما. و ما إن تقترب من دار الحمال، حتى تعود إلى سيرتها الأولى؛ فتتحول في غمضة عين إلى تلك المرأة العابسة الغليظة، التي كرهت الحمال، و ملت مرضه، الذي حوله إلى مجرد تمثال، تكلله الخيبة و العجز، تمثال أخفق في إطفاء نارها المتوهجة؛ فحاولت التنفيس عن سخطها و غضبها المكبوت، و تفننت في تكدير حياته و حياة ابنته بشتى الطرق، و بالغت في مقتهما إلى أقصى درجة.
(٤)
الملائكة تغادر الدار، و العصافير الخضراء تترك ساحتها، و يحل محلها البوم و الغربان. الحمال ينادي زوجته، معلنا عن رغبته في شرب الماء، و الزوجة لا تجيب رغم نداءاته المتكررة، و البنت تستيقظ مذعورة، و تخرج من غرفتها، و تسير مترنحة، لا هي المستيقظة، و لا هي النائمة، و تتوجه إلى غرفة أبيها؛ فتسقيه، و تشد عليه الغطاء. و عندما تلاحظ غياب ( كواكب) في هذه الساعة المتأخرة من الليل، تدور بقلب مرتاب، و تنهمك في التفتيش عنها بين أرجاء الدار. و ما إن تقترب من الباب الخلفي المشرف على الفناء، حتى تسمع همسات و همهمات؛ فتحاول جمع شتات نفسها، و تفتح الباب بحذر مشوب بالخوف، و تتقدم إلى الأمام، حتى تصل إلى وسط الفناء؛ فتصفعها الدهشة، و ينتابها الذهول؛ فتدقق النظر. أبدا لم تخطئ عيناها ما رأت؛ ها هي كواكب شبه عارية أسفل فتى من فتيان النجع. البنت تهم بالصراخ، لكنها تجبن عن فعل ذلك؛ فقد كانت في حقيقة الأمر، تخشى (كواكب) الصارمة، و الآن، تخشى ردة فعل لبؤة، افتضح أمرها للتو. تحدثها نفسها بالانسحاب؛ فتهم بالارتداد إلى الوراء، قاصدة الرجوع إلى صحن الدار، و ما إن تتحرك من مكانها، حتى تتعثر قدماها المرتبكتان، و تسقط على وجهها؛ فتنتبه كواكب، مذعورة، و تدفع فتاها عنها بكلتا يديها، و تأمره بأن يقتلع الفضيحة من جذورها؛ فيقفز من مكانه ككلب عقور، و سرعان ما يجثم فوق جسد البنت الممددة على الأرض، و يعتصر رقبتها بقبضته، كما تعصر حبات الكروم، حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة بين يديه؛ فتتحول في لحظات معدودة إلى جثة هامدة.
(كواكب) ترتدي ملابسها سريعا، و تسير بخطوات حذرة، و من خلفها يسير الفتى، حاملا جثمان البنت إلى مخدعها، و ما إن يتم مهمته، حتى يقفز من الشباك، و يغادر الدار و الرعب يملأ قلبه؛ بينما تجلس (كواكب) بجوار الجثة الهامدة، و تمضي تفكر في الطريقة المثلى التي ستعلن بها خبر الوفاة المفاجئة.
(٥)
في الصباح جلست ( كواكب) وسط نسوة اتشحن بالسواد، و بعينين زائغتين راقبت وجوههن، و أصغت إلى همساتهن؛ فشعرت بأن أعينهن ترسل إليها رسالة لا تقبل التأويل، رسالة علمت صاحباتها ما حرصت هي على إخفائه. فما كان منها إلا أن حاولت الهروب من جحيم النظرات المسددة إليها، و ذلك بإرخاء طرحتها السوداء على وجهها، و التظاهر بالبكاء. و في ذات الوقت خرج الحمال البائس من الدار، يتوكأ على رجلين. ثمة غطاء أخضر من القماش، شد على نعش يحمله أربعة من الرجال، خلفهم جرجر الحمال قدميه في أسمال رثة، و قد أغرقت الدموع وجهه المربد. في حين اندس شريك ( كواكب) وسط جموع الناس؛ كي يدفع عن نفسه الشبهات؛ فسار بخطوات طائشة مرتجفة. مضت الجنازة يغلفها الصمت، و عند القبر أزاح أحدهم الغطاء، و مد الرجال أيديهم؛ كي يحملوا جثمان البنت إلى اللحد، و لكن الصدمة صفعت الجميع؛ إذ قبضت أيدي الرجال على الهواء؛ فراحوا يحملقون إلى النعش الفارغ؛ لقد راعهم- حقا- خلوه من أي جثمان. عندئذ جلس الواقف، و وقف الجالس، و ساد الهرج و المرج، و جن جنون أهالي النجع، و صرخ الحمال يلتمس الجواب. و فجأة، سمع الأهالي أصوات الدفوف تطرق فوق رءوسهم، و لما رنوا إلى أعلى؛ شاهدوا بنت الحمال تسابق غزالا أبيض، جاوز السحاب، و خلفهما عرج حشد من الملائكة إلى السماء بصحبة عصافير خضراء، و أم بدت في أوج زينتها.
( ٢)
حمل أبوها جوالات التمر أعواما عديدة، حتى استوطنت الغضاريف كتفيه و عموده الفقري و فقرات عنقه؛ فلازم الفراش، بعد أن أمسى عاجزا، فاقدا الحول و الطول، لا يقوى على دفع الذباب عن وجهه. في حين شرعت الأحمال الثقيلة تأكل ظهور و أعناق بنات أبكار و نساء ثيبات، أخرجتهن الحاجة و مرارة العيش. كانت ابنة الحمال واحدة من هؤلاء الكادحات، اللائي يخرجن مع شروق الشمس، و لا يرجعن إلى بيوتهن إلا بعد الغروب. و ما بين ميقاتي الشمس صارت البنت قلما خشبيا أكلته مبراة الشقاء. تعود؛ فتناولها كواكب أرغفة من (جردوق) يابس، و مزقة لبن رائب؛ فتمضي إلى غرفتها تجرجر قدميها من فرط التعب، و ما إن تتناول لقيمات من طعامها، حتى تستسلم إلى نوم عميق، مثل لها رئة و متنفسا؛ فقد كان وجه الدنيا يهش لها، و يبتسم بمجرد أن تغمض عينيها، و كانت العصافير الخضراء تتسلل إلى مخدعها، معلنة عن قدوم وفد من الملائكة، ما إن يدخل الغرفة، حتى تغمر الأضواء الهادئة أركانها، و حتى تنداح أصوات شجية؛ فتسمع زقزقة، و تغريدا، و خريرا. كان كل شيء مهيأ لزيارة أم، فارقت الحياة منذ سنين، تدخل في أوج زينتها؛ فتعانق ابنتها الناعسة بشوق عارم، و تضع رأسها على فخذها الأيمن، و تبدأ في مداعبة خصلات شعرها برفق و حنان. تستمر الأم على تلك الحال، حتى ترى ابتسامة الرضا قد ارتسمت على ثغر ابنتها؛ فتطبع عندئذ قبلة حانية على خدها الوردي، و تغادر الغرفة في هدوء، و تعود إلى عالمها الآخر؛ كيما تستريح ابنتها من عناء يوم ثقيل لا تقوى عليه من لم تتجاوز الثالثة عشرة بعد.
(٣)
أخرجت (كواكب) من بين نهديها لفافة من أوراق العملة، و دستها في صندوق خشبي صغير، أغلقته بقفل صدئ. كانت المرأة في الأربعين من عمرها، و كانت تخرج مع طراوة العصر؛ فتدور على ديار النجع ببضائعها؛ إذ تاجرت في كل ما يخص زينة النساء من ملابس و عطور. عادة ما كانت تتخلى ( كواكب) عن وجهها الغليظ بمجرد أن تخرج من باب الدار، و عادة ما كانت تطلق العنان لأنوثتها الطاغية، التي تفجرت من جسدها الممشوق؛ فكان يرى لمشيتها دلال، أرسل رسائل ملغومة، أشعلت النار في أبدان فتيان النجع، بينما أضفت العلكة، التي لم تفارق فمها على وجهها الخمري فتنة فوق فتنتها. تطوف على الدور، تبيع بضائعها الرائجة، و تتلذذ في الطريق بعبارات غزل يطلقها شبان، صوبوا نظراتهم الملتهبة نحوها، على هيئة سهام، اخترقت ثيابها، و التهمت لحمها التهاما. و ما إن تقترب من دار الحمال، حتى تعود إلى سيرتها الأولى؛ فتتحول في غمضة عين إلى تلك المرأة العابسة الغليظة، التي كرهت الحمال، و ملت مرضه، الذي حوله إلى مجرد تمثال، تكلله الخيبة و العجز، تمثال أخفق في إطفاء نارها المتوهجة؛ فحاولت التنفيس عن سخطها و غضبها المكبوت، و تفننت في تكدير حياته و حياة ابنته بشتى الطرق، و بالغت في مقتهما إلى أقصى درجة.
(٤)
الملائكة تغادر الدار، و العصافير الخضراء تترك ساحتها، و يحل محلها البوم و الغربان. الحمال ينادي زوجته، معلنا عن رغبته في شرب الماء، و الزوجة لا تجيب رغم نداءاته المتكررة، و البنت تستيقظ مذعورة، و تخرج من غرفتها، و تسير مترنحة، لا هي المستيقظة، و لا هي النائمة، و تتوجه إلى غرفة أبيها؛ فتسقيه، و تشد عليه الغطاء. و عندما تلاحظ غياب ( كواكب) في هذه الساعة المتأخرة من الليل، تدور بقلب مرتاب، و تنهمك في التفتيش عنها بين أرجاء الدار. و ما إن تقترب من الباب الخلفي المشرف على الفناء، حتى تسمع همسات و همهمات؛ فتحاول جمع شتات نفسها، و تفتح الباب بحذر مشوب بالخوف، و تتقدم إلى الأمام، حتى تصل إلى وسط الفناء؛ فتصفعها الدهشة، و ينتابها الذهول؛ فتدقق النظر. أبدا لم تخطئ عيناها ما رأت؛ ها هي كواكب شبه عارية أسفل فتى من فتيان النجع. البنت تهم بالصراخ، لكنها تجبن عن فعل ذلك؛ فقد كانت في حقيقة الأمر، تخشى (كواكب) الصارمة، و الآن، تخشى ردة فعل لبؤة، افتضح أمرها للتو. تحدثها نفسها بالانسحاب؛ فتهم بالارتداد إلى الوراء، قاصدة الرجوع إلى صحن الدار، و ما إن تتحرك من مكانها، حتى تتعثر قدماها المرتبكتان، و تسقط على وجهها؛ فتنتبه كواكب، مذعورة، و تدفع فتاها عنها بكلتا يديها، و تأمره بأن يقتلع الفضيحة من جذورها؛ فيقفز من مكانه ككلب عقور، و سرعان ما يجثم فوق جسد البنت الممددة على الأرض، و يعتصر رقبتها بقبضته، كما تعصر حبات الكروم، حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة بين يديه؛ فتتحول في لحظات معدودة إلى جثة هامدة.
(كواكب) ترتدي ملابسها سريعا، و تسير بخطوات حذرة، و من خلفها يسير الفتى، حاملا جثمان البنت إلى مخدعها، و ما إن يتم مهمته، حتى يقفز من الشباك، و يغادر الدار و الرعب يملأ قلبه؛ بينما تجلس (كواكب) بجوار الجثة الهامدة، و تمضي تفكر في الطريقة المثلى التي ستعلن بها خبر الوفاة المفاجئة.
(٥)
في الصباح جلست ( كواكب) وسط نسوة اتشحن بالسواد، و بعينين زائغتين راقبت وجوههن، و أصغت إلى همساتهن؛ فشعرت بأن أعينهن ترسل إليها رسالة لا تقبل التأويل، رسالة علمت صاحباتها ما حرصت هي على إخفائه. فما كان منها إلا أن حاولت الهروب من جحيم النظرات المسددة إليها، و ذلك بإرخاء طرحتها السوداء على وجهها، و التظاهر بالبكاء. و في ذات الوقت خرج الحمال البائس من الدار، يتوكأ على رجلين. ثمة غطاء أخضر من القماش، شد على نعش يحمله أربعة من الرجال، خلفهم جرجر الحمال قدميه في أسمال رثة، و قد أغرقت الدموع وجهه المربد. في حين اندس شريك ( كواكب) وسط جموع الناس؛ كي يدفع عن نفسه الشبهات؛ فسار بخطوات طائشة مرتجفة. مضت الجنازة يغلفها الصمت، و عند القبر أزاح أحدهم الغطاء، و مد الرجال أيديهم؛ كي يحملوا جثمان البنت إلى اللحد، و لكن الصدمة صفعت الجميع؛ إذ قبضت أيدي الرجال على الهواء؛ فراحوا يحملقون إلى النعش الفارغ؛ لقد راعهم- حقا- خلوه من أي جثمان. عندئذ جلس الواقف، و وقف الجالس، و ساد الهرج و المرج، و جن جنون أهالي النجع، و صرخ الحمال يلتمس الجواب. و فجأة، سمع الأهالي أصوات الدفوف تطرق فوق رءوسهم، و لما رنوا إلى أعلى؛ شاهدوا بنت الحمال تسابق غزالا أبيض، جاوز السحاب، و خلفهما عرج حشد من الملائكة إلى السماء بصحبة عصافير خضراء، و أم بدت في أوج زينتها.