كان علي البحث عن متبرع بأضراسه. ضرس واحد يكفي لهذه المهمة. لقد قالت ذلك فأومأتُ برأسي: حسناُ يا عزيزتي سأبحث لك عن متبرع بضرسه.
وهكذا ألزمت نفسي بشيء لا خبرة لي به. وكانت البداية عند صاحب كشك المعسل:
- ابنتي تخرجت من طب أسنان وتبحث عن متبرع بخلع ضرسه.
جحظت عينا الرجل وهو يحدق في عينيَّ بصمت فعرفت الإجابة، ومضيت.
لماذا لا يصنعون للطلبة تماثيل يجربون عليها؟ ربما لديهم ولكنهم انتقلوا إلى مرحلة التجريب على الكائنات الحية. ألا يمكن خلع ضرس كلب أو دجاجة؟ نعم ليس للدجاجة أضراس، ولكن هناك الكلاب والقطط، القطط شرسة ولن تصبر على إقحام البشر أياديهم في فمها الوردي الجميل. يجب أن يكون حيواناً قبيحاً مثل البشر. حماراً مثلاً، جحشاً صغيراً، ثور، بقرة، أو سلحفاة. هل للسلاحف أضراس؟.
قلت لعشيقتي ذلك فقالت وهو تدخن:
- لن يقبل أطباء الحيوان مشاركتهم في عملهم. المسألة تتعلق بمواثيق الكبرياء.
تقبلت إجابتها بصمت. كانت تنحني على جانبها دون أن تغادر رقدتها لتطفئ عقب السجارة على الأرض. الشقة قديمة وخالية من الأثاث، وهناك فقط فرشة وزجاجات بيرة فاترة. كانت زجاجات خضراء، أو هو لون شبه أخضر، لون جميل، كلما نظرت إليه قفزت بي الذاكرة إلى تاريخ قديم، أقدم من يوم ولادتي بكثير. بكثير جداً. أما جيني فقد بدت غيورة وهي تقول: إنك تتحدث عن ابنتك كثيراً. بدت الإجابة ثقيلة على لساني فآثرت الصمت.
كان نهاراً حاراً، وبما أنني لا أملك سيارة فقد فضلت المشي. غادرت جيني بسيارتها بعد أن تحممت وصففت شعرها ووضعت المساحيق، وكأنها ذاهبة لرجل آخر. وهذا ليس مستبعداً، إنني أشك في أنها تأخذ مالاً من الآخرين، ولذلك فأنا أملك ميزة تفضيلية على الأقل.
في النهارات الحارة، تتصلب المباني، وتصبح أوراق الأشجار شاحبة، أما سيقانها فرمادية، ومن تحتها وحولها تتبعثر الأتربة التي تفوح منها رائحة اللهب. ليس هذا تجنياً على الصيف الأفريقي، بل هو أقل ما يمكن أن يوصف به. هل أتحدث عن الحرارة التي تنبعث من نعل الحذاء كجهنم. لا. لا لا.. ولكن من ذا الذي يمكن أن يجازف في هذا الصيق الشديد بتسييل دمائه من تحت ضرسه. إن كل شيء يوحي بالموت هنا.
في ذلك النهار تشاجرت مع المدير، أو هو الذي تشاجر معي، هو الذي قرر أن يتخذ قراراً بفصلي فافتعل مشكلة لا أساس لها، وضربني، نعم ضربني وصفعني وركلني ثم أمر الساعي برميي خارج المبنى. كان لديَّ شعور بأنه يملك الحق في ضربي وبأنني لا أملك ذلك الحق. فأنت إن قضيت في الوظيفة عشر سنوات ربما يتملكك الهيكل الوظيفي، ويستحوذ على عواطفك، بحيث تبجل من هو أعلى منك وظيفياً. لقد نحا بي نائبه جانباً ونحن خارج المبني ودس في يدي ورقة. وحين فتحتها وجدته رقم محامٍ.
كان المحامي يتحدث بصوت أشبه بالصراخ، الصراخ الجزِل، الذي لا يمكن أن تصفه سوى بالملوث السمعي.
- ستحصل على تعويض مالي كبير، بالإضافة إلى عودتك للوظيفة.. سنحمم هذا المدير الأبله.
وحين نظرت إليه بعين واحدة قال:
- سنحممه أي سنؤدبه.
ثم استدرك:
- ولكن بالقانون..
- ألن تضربه؟
سألتني جيني فهززت راسي نفياً، ثم جذبت زجاجة بيرة وتأملت خضرتها الغريبة، تشبه حجراً كريماً، فغصت في الزمن ما قبل ولادتي بكثير. بكثير جداً.
كان المدير قد حُجز مؤقتاً في زنزانة صغيرة لحين انتهاء الجلسة ثم إطلاق سراحه. ومضى كل منا في طريق، لكن شقيقه اقترب مني وناداني عارضاً تسوية. ولم أفهم ما العرض الذي يمكن أن اقبل به. إنني في الواقع لست مهتماً بأي تعويض مالي، وهذا ما أخبرت شقيقه به، ثم قلت:
- كل ما اطلبه هو أن يقبل خلع ضرس من أضراسه.
ويبدو أن المدير قد قبل. وعاد إلى مكتبه بعد يومين وفمه متورم. أخبرت الصغيرة بأن هذا هو مديري في العمل، ففرحت كثيراً. ولكنها لم تهتم بكيفية حدوث ذلك. بل بدا لي -لوهلة- أنها زورت فرحتها لترضيني. هكذا هنَّ الفتيات: أنانيات دائماً. قالت جيني معترضة: ليس كذلك، بل هن يفكرن بطريقة مباشرة.
همهمت: في الهدف مباشرة.
ضحكت ولم أفهم سبب ضحكتها.
عدت لوظيفتي، وجلست أمام طاولتي، لأراجع أوراقاً متكدسة، وكان شقيق المدير قد تم تعيينه في وظيفتي، وبما أنني عدت بحكم قضائي، فكان على شقيقه أن يجد مكتباً آخر. أدركت سبب افتعال المدير للمشاجرة، فالشواغر الوظيفية مغلقة، ويبدو أن الوزير رفض فتح شواغر جديدة قبل نهاية السنة المالية. ولكنني حين راجعت موقفي بحسابات دقيقة، وجدت أن مغادرتي للوظيفة هو انسب ما ستجود به الحياة عليَّ، لذلك توجهت إلى المدير وقدمت استقالتي. وقد تلقاها بدهشة وابتسامة واسعة من تحت فمه المنتفخ:
- ستحصل على معاش محترم.. ما رأيك في السيارة المركونة في مستودع الصيانة. يمكنني أن اتبرع بها لك كتقدير لخدماتك الطويلة.. لكن عليك أن تصينها بنفسك.
خرجت بسيارة، سيارة هايلوكس قديمة. وقال الميكانيكي بأنها من الطراز القديم القوي R21 بسعة 2400 سي سي.
- 1988.
قلت:
- ليست قديمة جداً.
هذا جل ما أفهمه في السيارات.
نفضت بطاقة رخصة القيادة القديمة من ترابها ومضيت لتجديدها. ضحك الصول وقال بفم بلا أسنان:
- طلبوا منك استخراج واحدة جديدة.
كانت تلك إشارة منه، فنقدته بعض المال ليتجاوز العقبات القانونية. وقد كان.
- لقد قضيت ثلاثين سنة في الشرطة حتى سقطت أسناني، ولم يبقَ لي سوى ضرس واحد أحافظ عليه كما لو كان طفلي الوحيد.
- هناك من يدفعون لك مقابل خلعه.
ضحك وقال:
- اعلم ذلك.. إنهم طلبة الأسنان.
ثم قرب فمه من أذني وقال وأنا اشعر ببصاقه البارد:
- في الواقع.. خلعت أغلب أسناني عندهم.
قهقه بعدها.
قلت:
- كنت ةحتاجك بشدة قبل أسابيع.
- ما كنت لأفرط في ضرسي الوحيد أبداً.
كانت صغيرتي تبكي بألم، فهي لم تنل الدرجة الكافية، لقد فشلت في أداء مهمتها، وقد اخبرتني بأن المدير عاد إليها وقد ازداد تورم وجهه. فاضطرت الطبيبة المختصة إلى تسكين آلامه وعلاج الجذور الممزقة. ثم اضافت:
- سأحتاج لمتبرع آخر.
تذكرت الصول العجوز، فتوجهت إليه لاقدم له عرضاً سخياً:
- ما رأيك في هذه الهايلوكس.
نظر إليها بارتياب وقال:
- جميلة.. لكنها قديمة قليلاً..
- لا.. إنها لعام 1988 R21 بسعة 2400 سي سي.
نظر نحوي وقال بصوت بارد:
- ماذا تريد أن تقول؟
قلت:
- ضرسك الوحيد مقابل هذه الهايلوكس اللطيفة.
تصبب العرق من جبينه، وبدا غارقاً في الحيرة. فقلت:
- غداً الساعة التاسعة صباحاً أقابلك في المستشفى التعليمي.
وإذا لم تأتِ سيكون العرض منتهياً.
ثم غادرت.
قالت جيني بأنه سيحضر، فهذا عرض لا يمكن تجاهله. أنا أيضاً كنت أدرك بأنه سيحضر. وبالفعل رأيته قبل الموعد بدقائق وهو يتأبط ذراع شاب في العشرينات من العمر.
قال:
- هل بالضرورة أن أخلع أنا نفسي ضرسي.. أم يمكن لابني أن يكون بديلاً عني..
صاحت ابنتي:
- نعم يمكن..
فقلت:
- لا.. لا يمكن.. إما أنت أو لا..
قال باستجداء:
- ولماذا لا يمكن؟..
قلت:
- لأن عرض الهايلوكس كان مقابل ضرس مهم..أما ضرس هذا الشاب فلا يستحق سيارة كاملة..
غضب الشاب وصاح:
- لا تخلعه يا أبي..
وقالت الصبية:
- دعه يخلعه يا أبي..
قلت:
- لا.. ضرس الصول أو لا سيارة.
قاد الشاب السيارة، وأما الصول فكان يغطي فمه بيده من الألم. فحقنة المسكن لم تطعن في المكان الصحيح.
كان كل شيء في مكانه الصحيح، في هذه الحياة المضطربة، لا شيء بلا مقابل، وكان اللون الأخضر لزجاجات البيرة يخبرني بذلك. تاملته اليوم بعمق أكبر. وغصت في الزمن الذي قبل ولادتي بكثير. ورايت كل شيء.. رايت المدير الذي كان مصفف شعر الملك، وشقيقه الذي كان عازف البلاط، وابن الصول ولياً للعهد والصول هو الملك بعينه، أما أنا؛ فكنت ضرساً في فم الأميرة الصغيرة.
(تمت)
وهكذا ألزمت نفسي بشيء لا خبرة لي به. وكانت البداية عند صاحب كشك المعسل:
- ابنتي تخرجت من طب أسنان وتبحث عن متبرع بخلع ضرسه.
جحظت عينا الرجل وهو يحدق في عينيَّ بصمت فعرفت الإجابة، ومضيت.
لماذا لا يصنعون للطلبة تماثيل يجربون عليها؟ ربما لديهم ولكنهم انتقلوا إلى مرحلة التجريب على الكائنات الحية. ألا يمكن خلع ضرس كلب أو دجاجة؟ نعم ليس للدجاجة أضراس، ولكن هناك الكلاب والقطط، القطط شرسة ولن تصبر على إقحام البشر أياديهم في فمها الوردي الجميل. يجب أن يكون حيواناً قبيحاً مثل البشر. حماراً مثلاً، جحشاً صغيراً، ثور، بقرة، أو سلحفاة. هل للسلاحف أضراس؟.
قلت لعشيقتي ذلك فقالت وهو تدخن:
- لن يقبل أطباء الحيوان مشاركتهم في عملهم. المسألة تتعلق بمواثيق الكبرياء.
تقبلت إجابتها بصمت. كانت تنحني على جانبها دون أن تغادر رقدتها لتطفئ عقب السجارة على الأرض. الشقة قديمة وخالية من الأثاث، وهناك فقط فرشة وزجاجات بيرة فاترة. كانت زجاجات خضراء، أو هو لون شبه أخضر، لون جميل، كلما نظرت إليه قفزت بي الذاكرة إلى تاريخ قديم، أقدم من يوم ولادتي بكثير. بكثير جداً. أما جيني فقد بدت غيورة وهي تقول: إنك تتحدث عن ابنتك كثيراً. بدت الإجابة ثقيلة على لساني فآثرت الصمت.
كان نهاراً حاراً، وبما أنني لا أملك سيارة فقد فضلت المشي. غادرت جيني بسيارتها بعد أن تحممت وصففت شعرها ووضعت المساحيق، وكأنها ذاهبة لرجل آخر. وهذا ليس مستبعداً، إنني أشك في أنها تأخذ مالاً من الآخرين، ولذلك فأنا أملك ميزة تفضيلية على الأقل.
في النهارات الحارة، تتصلب المباني، وتصبح أوراق الأشجار شاحبة، أما سيقانها فرمادية، ومن تحتها وحولها تتبعثر الأتربة التي تفوح منها رائحة اللهب. ليس هذا تجنياً على الصيف الأفريقي، بل هو أقل ما يمكن أن يوصف به. هل أتحدث عن الحرارة التي تنبعث من نعل الحذاء كجهنم. لا. لا لا.. ولكن من ذا الذي يمكن أن يجازف في هذا الصيق الشديد بتسييل دمائه من تحت ضرسه. إن كل شيء يوحي بالموت هنا.
في ذلك النهار تشاجرت مع المدير، أو هو الذي تشاجر معي، هو الذي قرر أن يتخذ قراراً بفصلي فافتعل مشكلة لا أساس لها، وضربني، نعم ضربني وصفعني وركلني ثم أمر الساعي برميي خارج المبنى. كان لديَّ شعور بأنه يملك الحق في ضربي وبأنني لا أملك ذلك الحق. فأنت إن قضيت في الوظيفة عشر سنوات ربما يتملكك الهيكل الوظيفي، ويستحوذ على عواطفك، بحيث تبجل من هو أعلى منك وظيفياً. لقد نحا بي نائبه جانباً ونحن خارج المبني ودس في يدي ورقة. وحين فتحتها وجدته رقم محامٍ.
كان المحامي يتحدث بصوت أشبه بالصراخ، الصراخ الجزِل، الذي لا يمكن أن تصفه سوى بالملوث السمعي.
- ستحصل على تعويض مالي كبير، بالإضافة إلى عودتك للوظيفة.. سنحمم هذا المدير الأبله.
وحين نظرت إليه بعين واحدة قال:
- سنحممه أي سنؤدبه.
ثم استدرك:
- ولكن بالقانون..
- ألن تضربه؟
سألتني جيني فهززت راسي نفياً، ثم جذبت زجاجة بيرة وتأملت خضرتها الغريبة، تشبه حجراً كريماً، فغصت في الزمن ما قبل ولادتي بكثير. بكثير جداً.
كان المدير قد حُجز مؤقتاً في زنزانة صغيرة لحين انتهاء الجلسة ثم إطلاق سراحه. ومضى كل منا في طريق، لكن شقيقه اقترب مني وناداني عارضاً تسوية. ولم أفهم ما العرض الذي يمكن أن اقبل به. إنني في الواقع لست مهتماً بأي تعويض مالي، وهذا ما أخبرت شقيقه به، ثم قلت:
- كل ما اطلبه هو أن يقبل خلع ضرس من أضراسه.
ويبدو أن المدير قد قبل. وعاد إلى مكتبه بعد يومين وفمه متورم. أخبرت الصغيرة بأن هذا هو مديري في العمل، ففرحت كثيراً. ولكنها لم تهتم بكيفية حدوث ذلك. بل بدا لي -لوهلة- أنها زورت فرحتها لترضيني. هكذا هنَّ الفتيات: أنانيات دائماً. قالت جيني معترضة: ليس كذلك، بل هن يفكرن بطريقة مباشرة.
همهمت: في الهدف مباشرة.
ضحكت ولم أفهم سبب ضحكتها.
عدت لوظيفتي، وجلست أمام طاولتي، لأراجع أوراقاً متكدسة، وكان شقيق المدير قد تم تعيينه في وظيفتي، وبما أنني عدت بحكم قضائي، فكان على شقيقه أن يجد مكتباً آخر. أدركت سبب افتعال المدير للمشاجرة، فالشواغر الوظيفية مغلقة، ويبدو أن الوزير رفض فتح شواغر جديدة قبل نهاية السنة المالية. ولكنني حين راجعت موقفي بحسابات دقيقة، وجدت أن مغادرتي للوظيفة هو انسب ما ستجود به الحياة عليَّ، لذلك توجهت إلى المدير وقدمت استقالتي. وقد تلقاها بدهشة وابتسامة واسعة من تحت فمه المنتفخ:
- ستحصل على معاش محترم.. ما رأيك في السيارة المركونة في مستودع الصيانة. يمكنني أن اتبرع بها لك كتقدير لخدماتك الطويلة.. لكن عليك أن تصينها بنفسك.
خرجت بسيارة، سيارة هايلوكس قديمة. وقال الميكانيكي بأنها من الطراز القديم القوي R21 بسعة 2400 سي سي.
- 1988.
قلت:
- ليست قديمة جداً.
هذا جل ما أفهمه في السيارات.
نفضت بطاقة رخصة القيادة القديمة من ترابها ومضيت لتجديدها. ضحك الصول وقال بفم بلا أسنان:
- طلبوا منك استخراج واحدة جديدة.
كانت تلك إشارة منه، فنقدته بعض المال ليتجاوز العقبات القانونية. وقد كان.
- لقد قضيت ثلاثين سنة في الشرطة حتى سقطت أسناني، ولم يبقَ لي سوى ضرس واحد أحافظ عليه كما لو كان طفلي الوحيد.
- هناك من يدفعون لك مقابل خلعه.
ضحك وقال:
- اعلم ذلك.. إنهم طلبة الأسنان.
ثم قرب فمه من أذني وقال وأنا اشعر ببصاقه البارد:
- في الواقع.. خلعت أغلب أسناني عندهم.
قهقه بعدها.
قلت:
- كنت ةحتاجك بشدة قبل أسابيع.
- ما كنت لأفرط في ضرسي الوحيد أبداً.
كانت صغيرتي تبكي بألم، فهي لم تنل الدرجة الكافية، لقد فشلت في أداء مهمتها، وقد اخبرتني بأن المدير عاد إليها وقد ازداد تورم وجهه. فاضطرت الطبيبة المختصة إلى تسكين آلامه وعلاج الجذور الممزقة. ثم اضافت:
- سأحتاج لمتبرع آخر.
تذكرت الصول العجوز، فتوجهت إليه لاقدم له عرضاً سخياً:
- ما رأيك في هذه الهايلوكس.
نظر إليها بارتياب وقال:
- جميلة.. لكنها قديمة قليلاً..
- لا.. إنها لعام 1988 R21 بسعة 2400 سي سي.
نظر نحوي وقال بصوت بارد:
- ماذا تريد أن تقول؟
قلت:
- ضرسك الوحيد مقابل هذه الهايلوكس اللطيفة.
تصبب العرق من جبينه، وبدا غارقاً في الحيرة. فقلت:
- غداً الساعة التاسعة صباحاً أقابلك في المستشفى التعليمي.
وإذا لم تأتِ سيكون العرض منتهياً.
ثم غادرت.
قالت جيني بأنه سيحضر، فهذا عرض لا يمكن تجاهله. أنا أيضاً كنت أدرك بأنه سيحضر. وبالفعل رأيته قبل الموعد بدقائق وهو يتأبط ذراع شاب في العشرينات من العمر.
قال:
- هل بالضرورة أن أخلع أنا نفسي ضرسي.. أم يمكن لابني أن يكون بديلاً عني..
صاحت ابنتي:
- نعم يمكن..
فقلت:
- لا.. لا يمكن.. إما أنت أو لا..
قال باستجداء:
- ولماذا لا يمكن؟..
قلت:
- لأن عرض الهايلوكس كان مقابل ضرس مهم..أما ضرس هذا الشاب فلا يستحق سيارة كاملة..
غضب الشاب وصاح:
- لا تخلعه يا أبي..
وقالت الصبية:
- دعه يخلعه يا أبي..
قلت:
- لا.. ضرس الصول أو لا سيارة.
قاد الشاب السيارة، وأما الصول فكان يغطي فمه بيده من الألم. فحقنة المسكن لم تطعن في المكان الصحيح.
كان كل شيء في مكانه الصحيح، في هذه الحياة المضطربة، لا شيء بلا مقابل، وكان اللون الأخضر لزجاجات البيرة يخبرني بذلك. تاملته اليوم بعمق أكبر. وغصت في الزمن الذي قبل ولادتي بكثير. ورايت كل شيء.. رايت المدير الذي كان مصفف شعر الملك، وشقيقه الذي كان عازف البلاط، وابن الصول ولياً للعهد والصول هو الملك بعينه، أما أنا؛ فكنت ضرساً في فم الأميرة الصغيرة.
(تمت)