قال لي ذات يوم: لم تفلح في شيء إلا في هذه الحكايات؛ تخيط منها ثيابا للدراويش ، ترسم لوحة لعالم يقبع في خيالك؛ حذار ياولدي أن تمس عتبة مولانا السلطان؛ سيفه باتر وسجنه مغارة في جوف الجبل؛ حذار أن تخرج من الباب الذي يتحدث عنه الخرس؛ يومها لم أع ذلك؛ ومتى يأتي ذلك الطائر الذي يخوفني منه؟
وهل سيتكلم الخرس يوما؟
أكمل: بعدى يتم ولا أب!
وعيت نصيحته زمنا؛ لكن نفسي الأمارة بالسوء دفعتني ناحية الخطر.
قرأت في كتاب الشيخ مرزوق الذي عاش في كفرنا سنين لا نشعر بجوعه وحرمانه؛ يختفي بالنهار ثم يظهر بالليل؛ ما عليكم من وصف حالته والكتابة عن محنته؛ ربما يأتي ذلك في حديث لاحق؛ فالحكي سمة كقرنا المجهول في المكان والمخفي في أوراق الزمان المكدسة في دكان الحلاق الذي يمسك بالموسي تحت الشجرة العجوزة والتي عرفت بجميزة فاروق؛ نما إلى كتبة الوشايات أن كفر الخرس تمرد على الحاكم الجديد؛ يصر أن يكون للملك المخلوع ذكرى؛ رن تليفون العمدة وجاءت الأوامر أن تحرق الشجرة سبعة أيام ويتصاعد دخانها حتى يراه سكان القرى المجاورة؛ الصافية ومحلة بشر وأم حكيم التي فقدت ولدها الذي ربطوا في ذيله طوبة وجعلوه مسخرة؛ لأنه هذى بكلام غريب؛ دارت بي الأيام ورمتني في نواحي البلاد؛ مرة معلم صبيان يمسك بالدفاتر والأقلام الخشبية؛ يتلو عليهم ورد السمع والطاعة؛ يمشي محني الظهر وتلك طبيعة أجداده؛ فلايسمح لمن لا يملك ألقاب السادة الأشراف أن ينظر للقمر؛ عيونهم تلوثه؛ تلك أوامر ونصائح مولانا الذي ورثنا؛ على أية حال تعلمت الحكمة من تحت الأقدام؛ في الأرض يسكن العبيد والفقراء؛ يتقاسمون الطين وحبات القمح ثم يشربون بقايا الأغنياء ممن لديهم ألقاب وخيل وجمال قبل أن تطير فوقهم أزواج الحمام.
تدور الأيام مثل طاحونة الكيال التي طحنت عظم ابن الشيخ مرزوق القشلان الذي كتب حكايات كفر الأخرس، ومنه ما سردته علي جدتي يوم كنت آوي إلى حجرها، أتناوم وهي تكثر من رغيها، هكذا كانت أمي وخالاتي الصغار يتندرن عليها، لا تكف عن الحكي، هل كانت جدتي مصابة بداء الخرف؟
ربما ولكن هذا الخرف يأتي دائما متآلفا، إنها تجيد فتل الحروف في جديلة يصعب على أحد غيرها أن يسرد.
لا أدري لم اختارتني دون العيال وأفرغت كل حكاياتها في أذني؟ يبدو أنها كانت تبحث عن وصي على عالمها الذي يوشك على الذبول، فالأجداد يحاربون الموت بالكلام، استدعت كل مفرداتها المأزومة بفعل العجز الضارب في جسدها، بدت عيناها هذه الليلة مثل امرأة لاجئة، كل الأبواب موصدة، الحيرة هي عنوان الرحلة التي تقترب من نهايتها، أخذت تهذي من أثر الحمى، معروقة بيضاء يخلو وجهها من الدم، في بطء يتقطع الكلام.
أمسكت بي، سكبت في أذني بعض حكمتها: النهر موطن الجنية الكبيرة، إنها تخرج ساعة القيلولة، تسرق الأطفال الصغار، في الصيف تسبح عارية عند موردة البر الثاني، ترمي شباكها فتصطاد أجمل الأولاد؛ سمعت أمي هذه الحكاية كثيرا كانت تطمئن أنني لست هذا ، الدود يسكن بطني، أبدو مثل عود الذرة المصاب بالموات، بل أنا بالفعل خيال المآته، ولولا ذلك ما تكومت في حجر جدتي!
على أية حال اختزنت حكيها، صرت أعرف أشياء لا يلم بها سواي، بل إنني بدأت أساوم النساء حين يجتمعن عند الفرن للخبيز، من منهن تتسلل في عتمة العشاء ولها مآرب أخرى، جدتي- الماكرة- أوصتني ألا أبوح بالأسرار الخطيرة، أولاد بيض لأمهات سود، بنات ذوات خدود حمراء لآباء ضامري الخصية، كل هذا يحدث في كفر الأخرس؛ البوح بمثل هذه البلايا يشعل نارا لا تخمد، حقا أمتلك خزينا يفوق ما في جرن الوسية من الغلال، زحفت ديدان الأرض ناحية الزرع مثل عدو غادر ماتت في قلبه الرحمة، في الحقيقة لا طعم للكلمات ألوكها مالحة، لقد فقدت ظلالها نخرها التشوه كل شيء في الكفر يوحي بالبؤس والشقاء، لقد عرفت الغجرية كيف تلهب خياله، أحالته إلى قط مستأنس يرتمي تحت قدميها، فعلا للنساء كيد عظيم، كثيرا ما سردت علي جدتي حكايات من هذا النوع، لكنني لا أكاد أصدق أن هذا الثور البري يتخلى عن سطوته لتلك الأنثى!
ماذا لديها؟
أية مقدرة تحتكم عليها لتفعل به كل هذا؟
دبت في الكفر كائنات غريبة، وجوه وأشكال لا معرفة لنا بها من قبل، لقد فرخ الشيطان فتوزعت عياله في كل ناحية من عرقوب العرجا!
صوت المذياع يتخنث بأصوات ناعمة في خدر الليل الشهي، تداخلت ألون الطيف فغدت عرسا تحفه الغواية عند المعدية القبلية جهة الصافية تلك البلدة التى تغفو تحت سوط الحاجة كما يفعل بكل عزب وكفور المحروسة.
كل هذا وتحذير أبي من الاقتراب من ذلك الباب الخطير يقف عقبة أمامي .
أتحرك مستندا على العصا؛ فالصغار يحتلون مقاعد الكبار سريعا، تعمدت المبالغة في الكبر، ارتديت ثوب جدى الذي ترك في ذاكرة القرية مشاغبات مثيرة، نحن عائلة تنثال الحكمة من بين شفتيها، لكننا نعتاش على الرغي، هذه حياتنا، يقال إننا نخلق الكلام، لا حيلة لنا غيره، طعامنا أنواع شتى؛ فالناس تكتفي بأرغفة وحبات البطاطا وبقطع الجبن، يحلبون لنا أبقارهم؛ لئلا أبوح بما اختزنته من الجدة التى ما كانت يوما غير ثرثارة كبيرة.
بدأت رأسي تتململ مثل جرار المش الممتلئة بالديدان، باطن قدمي به أخاديد تسكنها الصراصير، شعر رأسي به كائنات زاحفة في خيوط متتابعة، كل هذا أعطاني منظرا مثيرا، لقد صرت مثلة كومة من سباخ ملقاة بجوار ماكينة الطحين.
بدأت أتخلص من وصيتها، حين جاءت بهية؛ تعرفون أنها ثير فتنة، لكنني مصاب بضمور الخصية، لا جدوى من معابثتها، قلت لها احمليني إلى النهر، سخرت مني، استدارت بعدما ملأت وجهى بتفافة مرة، ساعتها بدأت في إخراج بعض ما احتوته خزانة جدتي: بهية امرأة تغتسل في النهر كل ليلة، طبعا هذه كفيلة بأن تحرك حولها الشائعات، فالنساء في كفرنا مصابات بالجرب حدادا على الراحلين في الوباء الأصفر.
قالت جدتي: انتفخت بطنها، أبو مرزوق القشلان مات ظهره يوم أن جلدوه حين سرق من دوار الوسية نصف جوال قمح، أمسكوا به في ماكينة الطحين؛ حتى حبات الغلة وشت به، ومن يومها رجع والقهر في عينيه والذل سياط على ظهره، لم يكتفوا بهذا؛ جاءوا بحلاق الصحة وأفرغ بيضة من خصيتيه.
قرأت إن الخرس اجتمعوا في زاوية الكفر؛ يتناقشون أي باب يفتح لهم لينالوا حفنات من دقيق؛ وكيف لهم أن يروا النهر الذي لم يشاهدوه؟! بعضكم يتعجب كيف يتفاهمون؛ وقد ماتت ألسنتهم يوم ولدتهم أمهاتهم؟
في كتاب الشيخ مرزوق؛ إن تلك لعنة أصابت المواليد الذي جاءوا بعد رحيل الملك؛ فقد انتشر وباء غريب: يصيب الألسن لكنه يترك البشر يتفاهمون بأقدامهم وحركات أعينهم؛ لم يفكر واحد من الأطباء في علاج الخرس؛ ابتنت الحكومة حول ذلك المكان المصاب سورا له سبعة أبواب؛ باب العصا؛ وباب الكلب؛ وباب الوطواط وأبواب أربعة: درويش وفهيم وباب القط وباب الفأر ابن الرومية، وبابين مجهولين لم يهتم كتاب مرزوق بذكرهما؛ وتلك هي آفته؛ احتار سكان الكفر من الخرس ما اسم هذين البابين؟
بطبيعة الحال المثير للدهشة من أخبرهم بالأسماء الخمسة؟
كيف عرفوا الوطواط من الكلب من العصا؟
قال لنا مرزوق في صفحة ممزقة من كتابه الأصفر والذي يسكنه البق وتتراقص فوق سطوره الحشرة الذهبية: تخاصم الخرس وتعاركوا؛ فجاء أحد السود الذين يحرسون البوابات السبع بالعصا وساقهم ناحية قن الدجاج الذي مات.
سكن فوق مأذنة الجامع القبلي طائر غريب؛ لديه جناحان واحد أبيض يشبه الحليب وآخر أسود من قرن الخروب؛ تتعجبون ومن أين سمعت به؟
ألم أخبركم من قبل بأن نفسي الأمارة بالسوء هي التي دفعتني لأمسك بذلك الكتاب العتيق؛ كان الخرس يقدسونه ويلفون حوله كل عيد قطعة قماش بيضاء؛ تضخمت حوله الأربطة واختنقت كلماته؛ حتى جاء اليوم الذي خوفني منه الطيب- ارتحل منذ ما يقارب العام؛ تخيلوا لايفارقني صوته ولا حكيه- يمتلك ذلك الطائر حاسة غريبة؛ يدرك بها موعد سقوط المطر وحين تهتز الريشة العاشرة من جناحه الأسود تهب رياح الخماسين؛ ساعتها يفر الخرس إلى جحورهم؛ بطبيعة الحال هذه الريشة تتحرك كثيرا ساعة يشتد الجوع بهم؛ اعتادوا عليها؛ تخيلوا لم يحلموا بأن تتحرك الربشة العاشرة من جناحه الأبيض؛ فكثرة السواد جعلتهم يألفون الجوع والبق والنمل الذي تكلمت واحدة منه ذات يوم في زمن مضى؛ أخذ الشيخ يحدثهم بأصابعه كيف كانت النملة حكيمة حين نجت قومها من سيدنا سليمان؟
مؤكد أن هذا الشيخ لا يتلو آية الهدهد!
أخذت أحرك أصابعي؛ أقلد ذلك الذي جاء من بعيد يحمل نبأ قوم بلقيس؛ صوب إلي الوطواط حجرة؛ أمسك بي الخرس؛ ربطوا حول ظهري حبلا؛ وضعوا فيه قطعة زرقاء؛ تراقصوا حولي؛ جاءت بومة عجوز؛ وقفت فوق رأسي، مدت منقارها إلى فمي؛ أخرجت تلك الزائدة الدودية التي تحركت في أيام الربيع؛ ثم رفعت رأسي فوق باب الوطواط.
وهل سيتكلم الخرس يوما؟
أكمل: بعدى يتم ولا أب!
وعيت نصيحته زمنا؛ لكن نفسي الأمارة بالسوء دفعتني ناحية الخطر.
قرأت في كتاب الشيخ مرزوق الذي عاش في كفرنا سنين لا نشعر بجوعه وحرمانه؛ يختفي بالنهار ثم يظهر بالليل؛ ما عليكم من وصف حالته والكتابة عن محنته؛ ربما يأتي ذلك في حديث لاحق؛ فالحكي سمة كقرنا المجهول في المكان والمخفي في أوراق الزمان المكدسة في دكان الحلاق الذي يمسك بالموسي تحت الشجرة العجوزة والتي عرفت بجميزة فاروق؛ نما إلى كتبة الوشايات أن كفر الخرس تمرد على الحاكم الجديد؛ يصر أن يكون للملك المخلوع ذكرى؛ رن تليفون العمدة وجاءت الأوامر أن تحرق الشجرة سبعة أيام ويتصاعد دخانها حتى يراه سكان القرى المجاورة؛ الصافية ومحلة بشر وأم حكيم التي فقدت ولدها الذي ربطوا في ذيله طوبة وجعلوه مسخرة؛ لأنه هذى بكلام غريب؛ دارت بي الأيام ورمتني في نواحي البلاد؛ مرة معلم صبيان يمسك بالدفاتر والأقلام الخشبية؛ يتلو عليهم ورد السمع والطاعة؛ يمشي محني الظهر وتلك طبيعة أجداده؛ فلايسمح لمن لا يملك ألقاب السادة الأشراف أن ينظر للقمر؛ عيونهم تلوثه؛ تلك أوامر ونصائح مولانا الذي ورثنا؛ على أية حال تعلمت الحكمة من تحت الأقدام؛ في الأرض يسكن العبيد والفقراء؛ يتقاسمون الطين وحبات القمح ثم يشربون بقايا الأغنياء ممن لديهم ألقاب وخيل وجمال قبل أن تطير فوقهم أزواج الحمام.
تدور الأيام مثل طاحونة الكيال التي طحنت عظم ابن الشيخ مرزوق القشلان الذي كتب حكايات كفر الأخرس، ومنه ما سردته علي جدتي يوم كنت آوي إلى حجرها، أتناوم وهي تكثر من رغيها، هكذا كانت أمي وخالاتي الصغار يتندرن عليها، لا تكف عن الحكي، هل كانت جدتي مصابة بداء الخرف؟
ربما ولكن هذا الخرف يأتي دائما متآلفا، إنها تجيد فتل الحروف في جديلة يصعب على أحد غيرها أن يسرد.
لا أدري لم اختارتني دون العيال وأفرغت كل حكاياتها في أذني؟ يبدو أنها كانت تبحث عن وصي على عالمها الذي يوشك على الذبول، فالأجداد يحاربون الموت بالكلام، استدعت كل مفرداتها المأزومة بفعل العجز الضارب في جسدها، بدت عيناها هذه الليلة مثل امرأة لاجئة، كل الأبواب موصدة، الحيرة هي عنوان الرحلة التي تقترب من نهايتها، أخذت تهذي من أثر الحمى، معروقة بيضاء يخلو وجهها من الدم، في بطء يتقطع الكلام.
أمسكت بي، سكبت في أذني بعض حكمتها: النهر موطن الجنية الكبيرة، إنها تخرج ساعة القيلولة، تسرق الأطفال الصغار، في الصيف تسبح عارية عند موردة البر الثاني، ترمي شباكها فتصطاد أجمل الأولاد؛ سمعت أمي هذه الحكاية كثيرا كانت تطمئن أنني لست هذا ، الدود يسكن بطني، أبدو مثل عود الذرة المصاب بالموات، بل أنا بالفعل خيال المآته، ولولا ذلك ما تكومت في حجر جدتي!
على أية حال اختزنت حكيها، صرت أعرف أشياء لا يلم بها سواي، بل إنني بدأت أساوم النساء حين يجتمعن عند الفرن للخبيز، من منهن تتسلل في عتمة العشاء ولها مآرب أخرى، جدتي- الماكرة- أوصتني ألا أبوح بالأسرار الخطيرة، أولاد بيض لأمهات سود، بنات ذوات خدود حمراء لآباء ضامري الخصية، كل هذا يحدث في كفر الأخرس؛ البوح بمثل هذه البلايا يشعل نارا لا تخمد، حقا أمتلك خزينا يفوق ما في جرن الوسية من الغلال، زحفت ديدان الأرض ناحية الزرع مثل عدو غادر ماتت في قلبه الرحمة، في الحقيقة لا طعم للكلمات ألوكها مالحة، لقد فقدت ظلالها نخرها التشوه كل شيء في الكفر يوحي بالبؤس والشقاء، لقد عرفت الغجرية كيف تلهب خياله، أحالته إلى قط مستأنس يرتمي تحت قدميها، فعلا للنساء كيد عظيم، كثيرا ما سردت علي جدتي حكايات من هذا النوع، لكنني لا أكاد أصدق أن هذا الثور البري يتخلى عن سطوته لتلك الأنثى!
ماذا لديها؟
أية مقدرة تحتكم عليها لتفعل به كل هذا؟
دبت في الكفر كائنات غريبة، وجوه وأشكال لا معرفة لنا بها من قبل، لقد فرخ الشيطان فتوزعت عياله في كل ناحية من عرقوب العرجا!
صوت المذياع يتخنث بأصوات ناعمة في خدر الليل الشهي، تداخلت ألون الطيف فغدت عرسا تحفه الغواية عند المعدية القبلية جهة الصافية تلك البلدة التى تغفو تحت سوط الحاجة كما يفعل بكل عزب وكفور المحروسة.
كل هذا وتحذير أبي من الاقتراب من ذلك الباب الخطير يقف عقبة أمامي .
أتحرك مستندا على العصا؛ فالصغار يحتلون مقاعد الكبار سريعا، تعمدت المبالغة في الكبر، ارتديت ثوب جدى الذي ترك في ذاكرة القرية مشاغبات مثيرة، نحن عائلة تنثال الحكمة من بين شفتيها، لكننا نعتاش على الرغي، هذه حياتنا، يقال إننا نخلق الكلام، لا حيلة لنا غيره، طعامنا أنواع شتى؛ فالناس تكتفي بأرغفة وحبات البطاطا وبقطع الجبن، يحلبون لنا أبقارهم؛ لئلا أبوح بما اختزنته من الجدة التى ما كانت يوما غير ثرثارة كبيرة.
بدأت رأسي تتململ مثل جرار المش الممتلئة بالديدان، باطن قدمي به أخاديد تسكنها الصراصير، شعر رأسي به كائنات زاحفة في خيوط متتابعة، كل هذا أعطاني منظرا مثيرا، لقد صرت مثلة كومة من سباخ ملقاة بجوار ماكينة الطحين.
بدأت أتخلص من وصيتها، حين جاءت بهية؛ تعرفون أنها ثير فتنة، لكنني مصاب بضمور الخصية، لا جدوى من معابثتها، قلت لها احمليني إلى النهر، سخرت مني، استدارت بعدما ملأت وجهى بتفافة مرة، ساعتها بدأت في إخراج بعض ما احتوته خزانة جدتي: بهية امرأة تغتسل في النهر كل ليلة، طبعا هذه كفيلة بأن تحرك حولها الشائعات، فالنساء في كفرنا مصابات بالجرب حدادا على الراحلين في الوباء الأصفر.
قالت جدتي: انتفخت بطنها، أبو مرزوق القشلان مات ظهره يوم أن جلدوه حين سرق من دوار الوسية نصف جوال قمح، أمسكوا به في ماكينة الطحين؛ حتى حبات الغلة وشت به، ومن يومها رجع والقهر في عينيه والذل سياط على ظهره، لم يكتفوا بهذا؛ جاءوا بحلاق الصحة وأفرغ بيضة من خصيتيه.
قرأت إن الخرس اجتمعوا في زاوية الكفر؛ يتناقشون أي باب يفتح لهم لينالوا حفنات من دقيق؛ وكيف لهم أن يروا النهر الذي لم يشاهدوه؟! بعضكم يتعجب كيف يتفاهمون؛ وقد ماتت ألسنتهم يوم ولدتهم أمهاتهم؟
في كتاب الشيخ مرزوق؛ إن تلك لعنة أصابت المواليد الذي جاءوا بعد رحيل الملك؛ فقد انتشر وباء غريب: يصيب الألسن لكنه يترك البشر يتفاهمون بأقدامهم وحركات أعينهم؛ لم يفكر واحد من الأطباء في علاج الخرس؛ ابتنت الحكومة حول ذلك المكان المصاب سورا له سبعة أبواب؛ باب العصا؛ وباب الكلب؛ وباب الوطواط وأبواب أربعة: درويش وفهيم وباب القط وباب الفأر ابن الرومية، وبابين مجهولين لم يهتم كتاب مرزوق بذكرهما؛ وتلك هي آفته؛ احتار سكان الكفر من الخرس ما اسم هذين البابين؟
بطبيعة الحال المثير للدهشة من أخبرهم بالأسماء الخمسة؟
كيف عرفوا الوطواط من الكلب من العصا؟
قال لنا مرزوق في صفحة ممزقة من كتابه الأصفر والذي يسكنه البق وتتراقص فوق سطوره الحشرة الذهبية: تخاصم الخرس وتعاركوا؛ فجاء أحد السود الذين يحرسون البوابات السبع بالعصا وساقهم ناحية قن الدجاج الذي مات.
سكن فوق مأذنة الجامع القبلي طائر غريب؛ لديه جناحان واحد أبيض يشبه الحليب وآخر أسود من قرن الخروب؛ تتعجبون ومن أين سمعت به؟
ألم أخبركم من قبل بأن نفسي الأمارة بالسوء هي التي دفعتني لأمسك بذلك الكتاب العتيق؛ كان الخرس يقدسونه ويلفون حوله كل عيد قطعة قماش بيضاء؛ تضخمت حوله الأربطة واختنقت كلماته؛ حتى جاء اليوم الذي خوفني منه الطيب- ارتحل منذ ما يقارب العام؛ تخيلوا لايفارقني صوته ولا حكيه- يمتلك ذلك الطائر حاسة غريبة؛ يدرك بها موعد سقوط المطر وحين تهتز الريشة العاشرة من جناحه الأسود تهب رياح الخماسين؛ ساعتها يفر الخرس إلى جحورهم؛ بطبيعة الحال هذه الريشة تتحرك كثيرا ساعة يشتد الجوع بهم؛ اعتادوا عليها؛ تخيلوا لم يحلموا بأن تتحرك الربشة العاشرة من جناحه الأبيض؛ فكثرة السواد جعلتهم يألفون الجوع والبق والنمل الذي تكلمت واحدة منه ذات يوم في زمن مضى؛ أخذ الشيخ يحدثهم بأصابعه كيف كانت النملة حكيمة حين نجت قومها من سيدنا سليمان؟
مؤكد أن هذا الشيخ لا يتلو آية الهدهد!
أخذت أحرك أصابعي؛ أقلد ذلك الذي جاء من بعيد يحمل نبأ قوم بلقيس؛ صوب إلي الوطواط حجرة؛ أمسك بي الخرس؛ ربطوا حول ظهري حبلا؛ وضعوا فيه قطعة زرقاء؛ تراقصوا حولي؛ جاءت بومة عجوز؛ وقفت فوق رأسي، مدت منقارها إلى فمي؛ أخرجت تلك الزائدة الدودية التي تحركت في أيام الربيع؛ ثم رفعت رأسي فوق باب الوطواط.