الطاهر آدم عبد العزيز (كارسيس) - الشوتال..

كان العم "شِبك" منظم موقف المواصلات "الكوموسنجي" يصيح:
قِربه قِرب قِربه قِرب قربة طالع... كسلا قام كسلا مارق ...كسلا مارق...
"سمي بالإسم لأنه كان إن لم يجد خردة ليعيد للركاب باقي نقودهم فُرادى ، يُشرك راكبين أو ثلاثة في ورقةٍ نقديةٍ واحدة على أن يخردوها لدى دكان فيتحاسبوا فيما بينهم، أي يشبكهم معاً".
أرشدنا إلى أحد "اللواري" التي حلت محل الحافلات خلال واحدة من أزمات البنزين التي تشهدها البلاد على مر الأزمان، لم تكن أزمة وقود فحسب أو خبز أو سكَّر وإنما كانت أزمة أشياء، نعم الأشياء جميعها الأخضر منها واليابس. تسعينيات عجاف كسائر العقود التي تلت ولكنها كانت غريبة على الناس آنذاك وكانت الدنيا خلالها تعج بالصفوف عند المخابز ومحطات الوقود والناس يحملون بطاقات التموين ويرتادون سوق الجمعة، وفئة من الطفيليين سُمُّوا متعهدي الطعام سيماهم في كروشهم الكبيرة يزودون بالطعام داخليات طلاب المدارس وثكنات العسكر ومعسكرات التدريب التي تقلق الليل بالصياح والهياج تأهباً لحربٍ كونية. وضعنا حقائبنا فوق الشحنة التي لم تتجاوز نصف إرتفاع صندوق اللوري ما اتاح للسائق فرصة التكسُّب من نقلنا كمسافرين، في الوسط النساء والأطفال والأمتعة والفتاة ذات الفستان الشطرنج - وقد بدت سعيدة بتلك الرحلة على عكس بقية المسافرين لسبب يخصها - بوجهٍ برونزي يميل إلى سُمرة و حَوَر عينين وخصلة شعرٍ حالك السواد تدلت على حاجبين يكادان ينعقدان وشفتين دقيقتين وأسنان بيضاء مصفوفة وما أنا بارعٌ في وصف الجمال إلا بقدر ما يميِّز الحسناء عن غيرها. أما الرجال والشباب فمعلقون على الحواف الخشبية المدعَّمة بقضبان حديدية. بائع عصير الليمون المتجول يحوم حول اللوري بإناء كبير وآخر صغير به ماء لغسل الكوبين المعدنيين الّذين يحركهما بأصابعه ليصطدمان فيُصدران رنيناً كأجراس كنسية؛ ها ليمون ... ها يا ليمون يا...فناديته: جيب واحد ليمون يا ولدنا.." وأنا على الحافة في المكان الأنسب- حسب تقديري- لرؤية الفتاة البدوية الجميلة ومبادلتها النظرات..نظرات فقط في ذلك الزمان وحسب المرء نظرات تكفي لنسج قصة حب دونجوانيه يباهي بها زملاء الدراسة. غمس البائع كوبه المعدني في إناء العصير مع أطراف أصابعه دون شك وناولني وفي تلك اللحظة كان ولدٌ مرافق للفتاة- يبدو شقيقها الأصغر من ملامحهما المشتركة- لم يزل واقفاً على الأرض وقد طلب لها كوباً فتناولته من البائع وأومأتْ تشكرني ظانةً أنني ابتعته لها فغمزتُ مصححاً أن أخاها هو من أمر لها بذلك حفظاً لحقه في الفضل، ابتسمتْ ابتسامة منْ تعلم شغفي بها كما تعلم حاجتي للتجمل معها ولو بشق تمرة فترجمتُ ايمائتها الثانية بأنها تقول "برضو شكراً" لا أدري لماذا، ووددتُ لو أنني دفعت حساب كوبها وكوب أخيها بل وأكواب عصير الليمون التي بيعت في ذلك اليوم جميعها، ولكن شقيقها الشرقي النحيل لاحظ بعض ما دار بيني وبينها فرمقها بنظرة ورمقني بأخرى متحسساً خنجره "الشوتال” الذي يتمنطق به عند خصره. أشحتُ بوجهي عن الفتاة بعد ابتسامةٍ أخرى تنمُّ عن فخرها بحاميها الهمام وأكملت كوب الليمون وهممتُ بدفع الحساب ليخبرني البائع أن الشاب دفع حسابي أيضاً.
انطلق بنا اللوري والحرور تلفح وجوهنا تارة بعد تارة وتعبث الريحُ بحديث الركاب فوق القضبان وتغشى وجوهنا غبرةٌ كلما مرت بجوارنا عربة، نسير ببطء عند الأوحال والمنعطفات فتتثنى بنا القضبان مع أنين الحديد وصرير الخشب. اضحى حوار العيون مع فتاة الشطرنج أكثر كُلفةً وتكلفاً مع مرور الوقت والمسافة وجفاف الوجوه من التعب ووجود من يذود عنها في الجهة الأخرى وحياء و"شوتال" وكوب من الليمون.



1653296910304.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى