أحمد عبدالله إسماعيل - مَقْعدٌ شَاغِرٌ

تجلس إلى جوار ولديها على مائدة الطعام، قبيل المغرب، ترمق المقعد الفارغ، تناولتْ غداءها الذي خلا من الطعم أو الرائحة، نظرتْ إلى صورة زفافها على جدار صالة الاستقبال، ملأ الغم قلبها، هرولت إلى غرفة نومها، على عجل، تشعر بمرارة في حلقها، على الرغم من الفرحة التي غمرت قلبها قبل ساعات، رمقت الجسد الذي يتقلّب في قلق، ينهض من فراشه، يتثاءب بصوت سمعه كل من في البيت، قام من نومه بعد غفوة القيلولة اليومية، قالت إن الغداء معد على الطاولة، ثم انطلقت كلماتها في وجهه كالرصاص المتتابع:
- يقاوم جسمي المرض حتى وهن، لم أعد أحتمل حياتي على هذا الوضع.
انتصب واقفًا محاولًا تهدئتها وقال:
- لم أعلم يومًا بأنك مريضة!
رفعت يديها في عصبية، ودفعته في صدره؛ فتراجع للوراء خطوتين، ثم قالت في غيظ:
- أعاني من داء يكاد يقتلني؛ الاهتمام لا يُطلب؛ لذلك الانفصال هو علاجي الوحيد حتى أهرب من عذابي!
قطّب جبينه ومط شفتيه في عجب، وقال بصوت فاتر:
- لم أقصِّر يومًا؛ أخرج في طلب الرزق لأحضر لكم الطعام، والشراب، والعلاج، والكسوة، ومصاريف تعليم الولدين في المدارس الخاصة، وكذا استكمال دراستك، فماذا ينقصكم؟!
هاجمته في لهجة لوم، لم يشهدها من قبل، وسألته بصوت جَهْوريّ مرتفع:
- أين أنا؟! أنظر في عيني، هل تعرفني؟! أنتظر عودتك التي تأخرت كثيرًا؛ دعوتك إلى أهم لحظة في حياتي، لكنك تثاقلت عن الحضور كالعادة؛ فكان مقعدك شاغرًا حتى في يوم مناقشة الدكتوراه!
أجابها مبررًا غيابه:
- أسمعك دومًا تقولين بصوت هامس إن نوم الظالم عبادة؛ فأرحت بدني وعقلي.
في رفض تام لتبريره، قالت بصوت حزين:
- تنام ملء جفنك في مثل هذا اليوم؟! أرى نظرات الفخر في أعين الجميع إلا أنت! هل سألت نفسك يوما كيف يكون شكل حياتك من دوني؟ مع الأسف، انتهت صلاحية زواجنا!
ضحك بملء شدقيه ثم قال محاولًا استعطافها:
- هل تأخرت يومًا عن دفع مصروفات استكمال دراستك وما تتطلبه؟! أتعجب، لماذا كان وجودي إلى جوارك، في تلك المرة، ضروريًّا؟! وما فائدة الماجيستير والدكتوراه؟! هل تتوهمين أنك ستجدين وظيفة؟!
أفلتت الدمعة من عينيها ثم تسارعت دموعها تسابق بعضها بعضًا كزخات المطر ثم زفرت في حسرة، وباحت بما تكتم بين جوانحها:
- نهض أبي، مريض السرطان، من فراشه، وُضع على كرسي متحرك، بعدما أصرَّ على تحمل المشاق لكي يشهد نجاحي، رفع قبضة يده المرتعشة بصعوبة لأعلى؛ ليشد من أزري، ألهبت ابتسامته حماستي في مواجهة أسئلة الأساتذة، حضرت جارتنا الأنيقة، كريستين برفقة ابنها كارلوس، يحملان الود والورد، وجاء جارنا، إبراهيم، الذي رفضتُ الارتباط به من أجلك، تاركًا عمله وحاله وماله، ولم يتأخر يومًا عن مساندتي !
ربَّت على كتفها ثم مسح على ظهرها وقال:
- تعلمين يا "كاملة" مدى انشغالي باللهث وراء لقمة العيش صباح مساء!
أبعدتْ يده عنها، واستدارتْ؛ فجعلته وراء ظهرها، ثم قالت بنبرة مليئة بالوجع:
أصبحتَ بالنسبة لي، في البيت، والجامعة، والنادي، وفي الحياة كلها، مجرد مقعد خالٍ، يثير بداخلي مشاعر مضطربة كأمواج البحر المتلاطمة، أما كفى ما رأيت منك يا "عربي"؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى