أمل الكردفاني- الجاكيت الأزرق

إنني لا أعرف لماذا كتبت العنوان أعلاه، إنني لم أكتب أبداً قصة بناء على تصميم مسبق، إن الكلمات تصطاد بعضها، تبدأ بسمكة صغيرة، تبتلعها سمكة أكبر فأكبر، حتى ينتهي الأمر بنص يشبه قصة او مسرحية أو رواية أو قصيدة أو أي شيء، ليس من المهم ذلك التجنيس، ليس لأنني أنتمي للمدرسة التي ترفض التجنيس، ولكن لأنني أساساً لا أعتبر نفسي كاتباً محترفاً، بل ولا حتى هاوٍ، إنما أتحرر عبر الكتابة، وهذه كلمة تافهة، كلمة "تحرر"، إنها لا تعني مفهوماً محدداً، إنها تعبير مجازي، لحالة نفسية تعني التفريغ، تفريغ شحنات عاطفية ما. لست مؤمناً كفاية بأن أرتدي الجاكيت الأزرق. والذي سيرمز -هنا فقط- إلى الأدب الإحترافي. ولا أدري لماذا هو كذلك. إن لون السماء هو لون الخيال والأحلام، ولذلك فالأدباء هم أبناء الخيال والأحلام. إن أغلبهم يُصدم بعد سنوات من الارتحال في النرجسية بأنهم لا شيء تقريباً. يكتفي أغلبهم بدائرة صغيرة من المعجبين المجاملين كمحصلة سنوات من خداع الذات. وأنا لا أرغب في أعيش دور الضحية. فرغم أنني رجل لكنني توحمت اليوم على قطعة جاتوه. قطعت راجلاً قرابة خمسة كيلومترات ذهابا وخمسة كيلومترات إياباً لأعود بقطعتي جاتوه. أثناء عودتي كانت السماء مشبعة بالغاز المسيل للدموع، بسبب المظاهرات والاحتجاجات، فامتلأت رئتيَّ بالغاز ودمعت عينيَّ من حرارته. لكن المشكلة انني فقدت رغبتي في الجاتوه. أثناء ذهابي لاحظت شجيرات بزهرات تركوازية اللون، زهرات جميلة، وفي عودتي لاحظت متاجر كثيرة، مطاعم ومحلات ملابس وأكشاك ومحال حلويات وكوفي شوب (لا أعرف كيف أجمعها باللغة العربية، كما أن تعريب كوفي شوب ل(مقهى) توحي بالمقاهي الشعبية)، شقق فندقية، هايبر ماركت،..الخ. لاحظت متسولين وباعة متجولين، باختصار لاحظت حركة شاملة لجمع المال. إنهم جميعاً يحاولون اختلاس أموال من جيوب الآخرين ليعيشوا الحياة كما يجب. وفكرت في نفسي: ألا يمكن أن أجمع المال بدون كل تلك الترهات، بدون كل ذلك التعب، بدون كل ذلك الانحطاط لتقديم خدمة أو سلعة، إن لص الغسيل يبذل مجهوداً أيضاً ليسرق الملابس من حبال الغسيل، لماذا يفعل البشر ذلك. وهل بالضرورة أن أفعل أناْ نفس الشيء لأعيش؟ ألا يمكنني أن أمتص الأموال وأنا راقد في سريري، بحركة واحدة وبدون جهد يذكر؟ هكذا يفكر أصحاب الأحلام والخيال من الكُسالى أمثالي. إن روحهم طفولية جداً، فالطفل يحلم بأن يلف قطعة قماش حول رقبته ليتحول إلى سوبرمان، يحلم بأن يقبض كفه فتخرج خيوط الرجل العنكبوت.. لكن تلك الأحلام تتبخر رويداً رويداً كلما مضت به السنون، وفي لحظة ما ينتبه ذلك الطفل، إلى أن العالم حقيقي جداً، وأنه بلا معجزات تقريباً. إنها قد تكون اللحظة التي يقرر فيها أن يفتح مطعماً أو كوفي شوب أو يبحث عن وظيفة أو يتسول.. أي أن يبحث عن المال كباقي البشر. وهو هنا يتخلى عن السماء، يتخلى عن الجاكيت الأزرق. أما لو واصل في خياله فإنه قد يصرخ بألم.."ايلي ايلي..لما شبقتني؟"..
لا شيء حاسم في هذا الوجود، لا حقيقة حاسمة، ولا تؤدي كل الطرق إلا إلى الموت. أما تلك التقاطعات فمجرد ترهات، وأكاذيب الذات على الذات. هكذا فكرت وقد قطعت الكيلومترات الخمسة بسرعة التفكير، التفكير المشتت المتوائم مع شتات الحياة...
ظل الكون يتدافع في الفوضى، ثم بدا وكأنه استقر بعد مليارات السنين. لكنه ليس كذلك، إنه يلتقط أنفاسه فقط، ليعود فيخوض معاركه الأزلية ضد نفسه، لذلك ما معنى كل شيء آخر...فتحت باب الدولاب الوهمي وتاملت الجاكيت الأزرق..التقطته بأطراف أصابعي.. ورايت من خلفه ثلاثة صلبان لِلصَّين ورجلٍ يدعو نفسه الكلمة. إن كل شيء يتكامل في لحظة عبقرية.

_____
أمل الكردفاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى