بعد سماعي لحديث امرأة كانت تجلس إلى جانبي في الطائرة شعرت أن ما كتبته من قصص قبل هذه اللحظة كان كرذاذ من قنينة عطر فاخرة .. تمنحك شعورًا لذيذًا لكن ربما على بعد خطوات منك ثمة جحيم في صمت يحترق.
قالت وكانت حريصة على أن لا تعرفني باسمها:
- بعد الحادثة .. ترممت من الخارج .. لكن داخلي ما زال كل دقيقة الحزن يتناسل فيه ويكبر ..
سألتها:
- كم مضى على الحادثة ؟
وكأن الحروف وقفت في حلقومها تأبى الخروج .. قالت:
- بضعة شهور ..
- ستنسين بالتأكيد بعد مرور وقت أطول ..
قالت بنبرة تعجب: أنسى ! ثم ا ستدارت برأسها صوب النافذة تحدق في الغيوم .. فشعرت بغباء كلماتي .. أردت أن أبين لها ندمي لكنها لم تترك لي الفرصة إذ سرعان ما قالت:
- ربما ستغيرين رأيك حينما تنتهين من سماع القصة لتعرفي أن بعض الجروح قد تندمل لكن يبقى أثرها عميقًا في القلب .. التقيت به لأول مرة في حفل تخرجي في الجامعة .. كان شقيقًا لإحدى الزميلات .. انتبهت له يراقبني وكنت سعيدة بهذه المراقبة من شاب يملك من الوسامة ما يجعله محط أنظار الفتيات .. لكن زميلتي حسمت الأمر لصالحي حينما اتصلت بيّ لتخبرني أن أنور شقيقها يريد التقدم للزواج مني .. أجبتها وأنا أقصد غير ما قلته:
- احتاج وقتًا للتفكير .
ردت بحزم :
- غدًا انتظر ردك لأن شقيقي يعمل في دولة أوروبية وعليه العودة إلى هناك بعد أسابيع ..
ما زلت أتذكر كلماته التي أسمعني إياها في الهاتف بعد إعلان الخطبة:
أينما تكونين سيدة القلب .. تسافر و ترتحل الروح إليكِ .. تطوف بعالمكِ العطر بعبير روحك الممزوج بعبير إنوثتك الأخاذ .. ابتسامتك الملائكية ترسم فرحًا على وسائد الروح .. مشتاق لأطبع أول قبلة بكل شوق العاشقين على يديكِ يا عطر المساء ونوره ..
نمت تلك الليلة وفي قلبي مشاعر ليس للكلمات قدرة على وصفها.
بعد أن دونتُ ما قالته في الكراسة التي بين يدي ..قلت لها:
- تخيفني البدايات السعيدة !!
- تزوجنا .. وسافرت معه إلى باريس .. على برج إيفل العالي ولدت سعادتي .. كانت بحجم العالم الذي بدا لي كلوحة رائعة الألوان .. في النهار نجوب الشوارع .. نرتاد المطاعم والمقاهي .. نتسكع كمجنونين لا يبغيان شيئًا سوى الاستمتاع باللحظة .. أخذني لأماكن كنت أقرأ عنها في الروايات وأشاهدها في الأفلام .. شمس الغروب تمنحني الأمل في الغد أما الليل فهو عباءتنا التي تمنحنا الدفء والأمان لنرتمي في أحضان بعضنا .. ننهل من نبع الغرام الذي لا ينضب ..
قاطعتنا المضيفة وهي تضع أمامنا القهوة التي طلبناها .. احتضنت راحتيها فنجان القهوة الساخنة و راحت تذيب السكر فيها أما أنا فكنت أتحرق شوقًا لسماع باقي القصة .. ابتسمت وكأنها عرفت ما بي لتستأنف القول:
- أنور كان لطيفًا وكريمًا وهذه الصفات جعلته محاطًا بالأصدقاء والصديقات من كل الجنسيات .. كنت سعيدة بالتعرف عليهم كتعويض عن ابتعادي عن أهلي وعالمي .. لا يمر يوم إلا ونلتقي بالبعض منهم .. أحيانًا كانت اللقاءات تتم في بيوتهم وأحيانًا أخرى في بيتنا .. سارت أيامي بهدوء كما تسير أمواج نهر السين التي كنت أراقب جريانه من شرفة حجرتي .. كنت أرى الحب متجسدًا في كل شيء من حولي ..
ثم قالت بنبرة مختلفة فيها من الأسى الشيء الكثير:
- كم من الصعب تصديق أن تجدي نفسكِ جزءًا من لعبة قذرة تدار من قبل أناس ولا ذنب لكِ سوى إن الحياة وضعتكِ قريبة ممن يدير تلك اللعبة ليحولكِ إلى وسيلة لتحقيق هدفه ثم يمضي غير عابىء بالحطام الذي خلفه.. الحلم انتهى حينما جاءني اتصال من أنور ذات مساء يطلب مني استقبال صديق له لحين عودته من مدينة نيس بعد ساعة تقريبًا .. أبديت استغرابي من طلبه لكن جرس الباب لم يترك لي فرصة الاعتراض أو الرفض .
رحبت بالصديق الذي كان يحمل بين يديه قنينة نبيذ أحمر وأجلسته في الصالة ثم ذهبت لأعد له شيئًا يشربه..
كل شيء في البيت شاركني القلق والتوتر .. فتحت النافذة المطلة على النهر لتمنحني نسماته بعضًا من الراحة ولتمنحني الطمأنينة من وجود هذا الصديق و الذي لم تكد تمضي دقائق حتى لحق بي للمطبخ .. كان يبدو مضطربًا وغير متزن ..
وقف على مقربة مني سائلًا إياي بنبرة صوت تدل على أن هناك شيئًا غير مريح يلوح في الأفق:
- ما رأيكِ في ليل باريس ؟ إنه رائع .. أليس كذلك .. سنجعله أروع هذه الليلة!
التفت إليه مندهشة من حديثه لكني استغربت أكثر وأنا أرى تلك النظرة في عينيه .. النظرة التي تفهمها كل امرأة سواء كانت استاذة جامعة أو فلاحة .. شعرت كأني عارية أمامه حتى أني شككت بنفسي فبدأت أتحسس ثوبي لأتأكد أنه يسترني .. أجبته لأبدو طبيعية بينما الخوف تمكن مني فبان في نبرة صوتي المرتعشة:
- جمال باريس لا يختلف عليه اثنان ..
قال بعد أن احتسى النبيذ من القنينة التي في يده:
- وأنتِ أجمل ما فيها .. ما رأيك في أن نقضي معا ليلة باريسية ؟
بلعت ريقي وأنا أسأله :
- ما الذي تعنيه ؟
- لا تمثلي البراءة بالرغم من أنها تليق بك ..
اقترب مني حتى تلامست أجسادنا بعد أن حاصرني في الزاوية و رائحة النبيذ الممزوجة بأنفاسه ملأت الهواء القريب مني وعيناه الحمراوان تتطاير منهما نظرات رجل جائع قد عثر على وجبة طعام دسمة.. وضع يديه على الحائط الذي ضم جسدي المرتجف هامسًا::
- ألم يخبرك أنور ؟.. لقد اتفقت معه على كل شيء !
التفتت إلي تسألني وهي تسند رأسها عند زاوية المقعد:
- هل جربت شعور تلقي صفعة على وجهكِ وقبل أن تستوعبي ما يحدث تتلقين ضربة على رأسكِ تفقدكِ توازنكِ .. سينقلب عالمكِ رأسًا على عقب ..
ستبدو لك الأشياء غير الأشياء .. ستحتاجين إلى قوة غير طبيعية لتعاودي الوقوف على قدميك من جديد وربما لن تحظي بهذه الفرصة ثانية .. سألته وأنا أحاول دفعه عني:
- عن أي أتفاق تتحدث؟ أنور مسافر إلى نيس .. وهو الآن في الطريق إلى هنا .
قلت كلماتي الأخيرة لأحاول أخافته وأبعاده عني .. لكنه ضحك بشكل هستيري زاد من خوفي ..
فقال لي بصوت يشبه الهمس:
- أنور لن يحضر هذا المساء .. لقد دفعت ثمن هذه الليلة .. غريب أنه لم يخبرك ..
وأنا أحاول جمع شتات نفسي التي تبعثرت قلت له:
- لا أفهم ما يدور .. عن أي ثمن تتحدث ؟
- لقد سلمت لأنور ثمن أن أكون معك هذه الليلة ..
ثم اقترب مني محاولًا تقبيل رقبتي ....
أغمضت عينيها وصمتت ليمتعض وجهها كأنها تستحضر تلك اللحظات .. أشفقت عليها وكنت على وشك أن أطلب منها إنهاء الحديث لكنها قالت كمن تحاول إزاحة شيء ثقيل من على صدرها:
- بعد تلك المحادثة دارت بيني وبينه معركة غير متكافئة .. تحطم على إثرها أثاث المنزل وتعالت صيحاتي وأنا أحاول الخلاص من محاولة اغتصابي بعد أن جردني من ثيابي وسدد لي من الصفعات والضربات ما أفقدني قدرتي على المقاومة لكن وصول رجال الشرطة حينما تم استدعاءهم من قبل الجيران الذين سمعوا أصوات غريبة صادرة من الشقة هو الذي انقذني .
في تلك اللحظة .. توقفت عن الكتابة التي ستخذلني أكيد في وصف مشاعر هذه السيدة .. كنت أريد منها التوقف عن الحديث لأتمكن من استرداد أنفاسي .. لكنها لم تنتبه لما حصل لي لتواصل الحديث:
- كانت ليلة من ليالي الصيف .. لكنني كنت ارتجف بردًا في مخفر الشرطة ..
إعلان المضيفة عن قرب وصولنا جعلها تصمت لتأخذ نفسًا عميقًا وتسألني كمحاولة منها لتغيير مجرى الحديث الذي غير من لون سحنتها :
- هل هناك أحد ينتظرك في المطار ؟
في اللحظة التي سألتني كنت أسأل نفسي: هل أملك من الكلمات والمعاني ما أصف به مأسأة هذه السيدة التي لم تتجاوز بعد الرابعة والعشرين من عمرها لكنها تبدو كعجوز في الثمانين بل هل أملك الشجاعة لاتقمص شخصيتها وأعرض مشاعري لما تعرضت له ؟ لا أملك إجابة .. قلت:
- نعم .. زوجي .. لكن أريد سماع نهاية قصتك ..
- كما ستهبط بنا الطائرة الآن لترتطم بالأرض فتهتز أجسادنا .. هذا هو بالضبط ما حصل لي تلك الليلة حينما اعترف الصديق أمام ضابط الشرطة إن اتفاقًا تم بينه وبين زوجي على أن أكون له تلك الليلة مقابل ثمن كبير لإنه حسبما قال كنت على قدر كبير من الجمال واستحق ذلك الثمن .. وتلك كانت مهنة أنور قبل زواجه مني ..
انخسفت بيّ الأرض لأغيب عن الوعي وحينما استيقظت وجدت نفسي في المستشفى ..
وأنا أصغي لها .. أحسست كأن انتفاضة لكلمات جاثمة فوق صدري على وشك الخروج .. فأفكار قصصي قد أجدها في حديث عابر لشخصين يجلسان في مقهى وربما يأتيني الإلهام وأنا اتبضع أو أثناء وقوفي عند الإشارة .. لكن عند سماعي لقصة هذه الفتاة حدث لي ما يشبه الكسوف الذي تتعرض له الأرض لينتشر الظلام وتسود العتمة.. لكنه ظلام من نوع آخر وعتمة لم تمر علينا من قبل ..
ونحن ننتظر دورنا في النزول سألتها: ما الذي حصل بعد ذلك ؟
- بعد خروجي من المصحة النفسية .. التجأت إلى سفارتنا في باريس لتساعدني في إجراءات الطلاق .. وها أنا أعود محملة بجرح لن تقوَ الأيام على مداواته .. ربما لا أملك كلمات لأصف المشاعر التي امتلأت بها .. لكن كياني كانت تجتاحه معاني لم أعرفها من قبل ..
بعد أن ختم لي موظف المطار تأشيرة الدخول على جواز سفري .. التفت لأبحث عن السيدة لكنها غابت بين الجموع ..
بعد أيام وأنا أراقب عند المساء أمواج نهر دجلة من نافذتي .. وبينما كنت أسأل النهر عن القصص التي يخبئها .. جاءني إتصال من زوجي يطلب مني استقبال قريب له لحين عودته .
قالت وكانت حريصة على أن لا تعرفني باسمها:
- بعد الحادثة .. ترممت من الخارج .. لكن داخلي ما زال كل دقيقة الحزن يتناسل فيه ويكبر ..
سألتها:
- كم مضى على الحادثة ؟
وكأن الحروف وقفت في حلقومها تأبى الخروج .. قالت:
- بضعة شهور ..
- ستنسين بالتأكيد بعد مرور وقت أطول ..
قالت بنبرة تعجب: أنسى ! ثم ا ستدارت برأسها صوب النافذة تحدق في الغيوم .. فشعرت بغباء كلماتي .. أردت أن أبين لها ندمي لكنها لم تترك لي الفرصة إذ سرعان ما قالت:
- ربما ستغيرين رأيك حينما تنتهين من سماع القصة لتعرفي أن بعض الجروح قد تندمل لكن يبقى أثرها عميقًا في القلب .. التقيت به لأول مرة في حفل تخرجي في الجامعة .. كان شقيقًا لإحدى الزميلات .. انتبهت له يراقبني وكنت سعيدة بهذه المراقبة من شاب يملك من الوسامة ما يجعله محط أنظار الفتيات .. لكن زميلتي حسمت الأمر لصالحي حينما اتصلت بيّ لتخبرني أن أنور شقيقها يريد التقدم للزواج مني .. أجبتها وأنا أقصد غير ما قلته:
- احتاج وقتًا للتفكير .
ردت بحزم :
- غدًا انتظر ردك لأن شقيقي يعمل في دولة أوروبية وعليه العودة إلى هناك بعد أسابيع ..
ما زلت أتذكر كلماته التي أسمعني إياها في الهاتف بعد إعلان الخطبة:
أينما تكونين سيدة القلب .. تسافر و ترتحل الروح إليكِ .. تطوف بعالمكِ العطر بعبير روحك الممزوج بعبير إنوثتك الأخاذ .. ابتسامتك الملائكية ترسم فرحًا على وسائد الروح .. مشتاق لأطبع أول قبلة بكل شوق العاشقين على يديكِ يا عطر المساء ونوره ..
نمت تلك الليلة وفي قلبي مشاعر ليس للكلمات قدرة على وصفها.
بعد أن دونتُ ما قالته في الكراسة التي بين يدي ..قلت لها:
- تخيفني البدايات السعيدة !!
- تزوجنا .. وسافرت معه إلى باريس .. على برج إيفل العالي ولدت سعادتي .. كانت بحجم العالم الذي بدا لي كلوحة رائعة الألوان .. في النهار نجوب الشوارع .. نرتاد المطاعم والمقاهي .. نتسكع كمجنونين لا يبغيان شيئًا سوى الاستمتاع باللحظة .. أخذني لأماكن كنت أقرأ عنها في الروايات وأشاهدها في الأفلام .. شمس الغروب تمنحني الأمل في الغد أما الليل فهو عباءتنا التي تمنحنا الدفء والأمان لنرتمي في أحضان بعضنا .. ننهل من نبع الغرام الذي لا ينضب ..
قاطعتنا المضيفة وهي تضع أمامنا القهوة التي طلبناها .. احتضنت راحتيها فنجان القهوة الساخنة و راحت تذيب السكر فيها أما أنا فكنت أتحرق شوقًا لسماع باقي القصة .. ابتسمت وكأنها عرفت ما بي لتستأنف القول:
- أنور كان لطيفًا وكريمًا وهذه الصفات جعلته محاطًا بالأصدقاء والصديقات من كل الجنسيات .. كنت سعيدة بالتعرف عليهم كتعويض عن ابتعادي عن أهلي وعالمي .. لا يمر يوم إلا ونلتقي بالبعض منهم .. أحيانًا كانت اللقاءات تتم في بيوتهم وأحيانًا أخرى في بيتنا .. سارت أيامي بهدوء كما تسير أمواج نهر السين التي كنت أراقب جريانه من شرفة حجرتي .. كنت أرى الحب متجسدًا في كل شيء من حولي ..
ثم قالت بنبرة مختلفة فيها من الأسى الشيء الكثير:
- كم من الصعب تصديق أن تجدي نفسكِ جزءًا من لعبة قذرة تدار من قبل أناس ولا ذنب لكِ سوى إن الحياة وضعتكِ قريبة ممن يدير تلك اللعبة ليحولكِ إلى وسيلة لتحقيق هدفه ثم يمضي غير عابىء بالحطام الذي خلفه.. الحلم انتهى حينما جاءني اتصال من أنور ذات مساء يطلب مني استقبال صديق له لحين عودته من مدينة نيس بعد ساعة تقريبًا .. أبديت استغرابي من طلبه لكن جرس الباب لم يترك لي فرصة الاعتراض أو الرفض .
رحبت بالصديق الذي كان يحمل بين يديه قنينة نبيذ أحمر وأجلسته في الصالة ثم ذهبت لأعد له شيئًا يشربه..
كل شيء في البيت شاركني القلق والتوتر .. فتحت النافذة المطلة على النهر لتمنحني نسماته بعضًا من الراحة ولتمنحني الطمأنينة من وجود هذا الصديق و الذي لم تكد تمضي دقائق حتى لحق بي للمطبخ .. كان يبدو مضطربًا وغير متزن ..
وقف على مقربة مني سائلًا إياي بنبرة صوت تدل على أن هناك شيئًا غير مريح يلوح في الأفق:
- ما رأيكِ في ليل باريس ؟ إنه رائع .. أليس كذلك .. سنجعله أروع هذه الليلة!
التفت إليه مندهشة من حديثه لكني استغربت أكثر وأنا أرى تلك النظرة في عينيه .. النظرة التي تفهمها كل امرأة سواء كانت استاذة جامعة أو فلاحة .. شعرت كأني عارية أمامه حتى أني شككت بنفسي فبدأت أتحسس ثوبي لأتأكد أنه يسترني .. أجبته لأبدو طبيعية بينما الخوف تمكن مني فبان في نبرة صوتي المرتعشة:
- جمال باريس لا يختلف عليه اثنان ..
قال بعد أن احتسى النبيذ من القنينة التي في يده:
- وأنتِ أجمل ما فيها .. ما رأيك في أن نقضي معا ليلة باريسية ؟
بلعت ريقي وأنا أسأله :
- ما الذي تعنيه ؟
- لا تمثلي البراءة بالرغم من أنها تليق بك ..
اقترب مني حتى تلامست أجسادنا بعد أن حاصرني في الزاوية و رائحة النبيذ الممزوجة بأنفاسه ملأت الهواء القريب مني وعيناه الحمراوان تتطاير منهما نظرات رجل جائع قد عثر على وجبة طعام دسمة.. وضع يديه على الحائط الذي ضم جسدي المرتجف هامسًا::
- ألم يخبرك أنور ؟.. لقد اتفقت معه على كل شيء !
التفتت إلي تسألني وهي تسند رأسها عند زاوية المقعد:
- هل جربت شعور تلقي صفعة على وجهكِ وقبل أن تستوعبي ما يحدث تتلقين ضربة على رأسكِ تفقدكِ توازنكِ .. سينقلب عالمكِ رأسًا على عقب ..
ستبدو لك الأشياء غير الأشياء .. ستحتاجين إلى قوة غير طبيعية لتعاودي الوقوف على قدميك من جديد وربما لن تحظي بهذه الفرصة ثانية .. سألته وأنا أحاول دفعه عني:
- عن أي أتفاق تتحدث؟ أنور مسافر إلى نيس .. وهو الآن في الطريق إلى هنا .
قلت كلماتي الأخيرة لأحاول أخافته وأبعاده عني .. لكنه ضحك بشكل هستيري زاد من خوفي ..
فقال لي بصوت يشبه الهمس:
- أنور لن يحضر هذا المساء .. لقد دفعت ثمن هذه الليلة .. غريب أنه لم يخبرك ..
وأنا أحاول جمع شتات نفسي التي تبعثرت قلت له:
- لا أفهم ما يدور .. عن أي ثمن تتحدث ؟
- لقد سلمت لأنور ثمن أن أكون معك هذه الليلة ..
ثم اقترب مني محاولًا تقبيل رقبتي ....
أغمضت عينيها وصمتت ليمتعض وجهها كأنها تستحضر تلك اللحظات .. أشفقت عليها وكنت على وشك أن أطلب منها إنهاء الحديث لكنها قالت كمن تحاول إزاحة شيء ثقيل من على صدرها:
- بعد تلك المحادثة دارت بيني وبينه معركة غير متكافئة .. تحطم على إثرها أثاث المنزل وتعالت صيحاتي وأنا أحاول الخلاص من محاولة اغتصابي بعد أن جردني من ثيابي وسدد لي من الصفعات والضربات ما أفقدني قدرتي على المقاومة لكن وصول رجال الشرطة حينما تم استدعاءهم من قبل الجيران الذين سمعوا أصوات غريبة صادرة من الشقة هو الذي انقذني .
في تلك اللحظة .. توقفت عن الكتابة التي ستخذلني أكيد في وصف مشاعر هذه السيدة .. كنت أريد منها التوقف عن الحديث لأتمكن من استرداد أنفاسي .. لكنها لم تنتبه لما حصل لي لتواصل الحديث:
- كانت ليلة من ليالي الصيف .. لكنني كنت ارتجف بردًا في مخفر الشرطة ..
إعلان المضيفة عن قرب وصولنا جعلها تصمت لتأخذ نفسًا عميقًا وتسألني كمحاولة منها لتغيير مجرى الحديث الذي غير من لون سحنتها :
- هل هناك أحد ينتظرك في المطار ؟
في اللحظة التي سألتني كنت أسأل نفسي: هل أملك من الكلمات والمعاني ما أصف به مأسأة هذه السيدة التي لم تتجاوز بعد الرابعة والعشرين من عمرها لكنها تبدو كعجوز في الثمانين بل هل أملك الشجاعة لاتقمص شخصيتها وأعرض مشاعري لما تعرضت له ؟ لا أملك إجابة .. قلت:
- نعم .. زوجي .. لكن أريد سماع نهاية قصتك ..
- كما ستهبط بنا الطائرة الآن لترتطم بالأرض فتهتز أجسادنا .. هذا هو بالضبط ما حصل لي تلك الليلة حينما اعترف الصديق أمام ضابط الشرطة إن اتفاقًا تم بينه وبين زوجي على أن أكون له تلك الليلة مقابل ثمن كبير لإنه حسبما قال كنت على قدر كبير من الجمال واستحق ذلك الثمن .. وتلك كانت مهنة أنور قبل زواجه مني ..
انخسفت بيّ الأرض لأغيب عن الوعي وحينما استيقظت وجدت نفسي في المستشفى ..
وأنا أصغي لها .. أحسست كأن انتفاضة لكلمات جاثمة فوق صدري على وشك الخروج .. فأفكار قصصي قد أجدها في حديث عابر لشخصين يجلسان في مقهى وربما يأتيني الإلهام وأنا اتبضع أو أثناء وقوفي عند الإشارة .. لكن عند سماعي لقصة هذه الفتاة حدث لي ما يشبه الكسوف الذي تتعرض له الأرض لينتشر الظلام وتسود العتمة.. لكنه ظلام من نوع آخر وعتمة لم تمر علينا من قبل ..
ونحن ننتظر دورنا في النزول سألتها: ما الذي حصل بعد ذلك ؟
- بعد خروجي من المصحة النفسية .. التجأت إلى سفارتنا في باريس لتساعدني في إجراءات الطلاق .. وها أنا أعود محملة بجرح لن تقوَ الأيام على مداواته .. ربما لا أملك كلمات لأصف المشاعر التي امتلأت بها .. لكن كياني كانت تجتاحه معاني لم أعرفها من قبل ..
بعد أن ختم لي موظف المطار تأشيرة الدخول على جواز سفري .. التفت لأبحث عن السيدة لكنها غابت بين الجموع ..
بعد أيام وأنا أراقب عند المساء أمواج نهر دجلة من نافذتي .. وبينما كنت أسأل النهر عن القصص التي يخبئها .. جاءني إتصال من زوجي يطلب مني استقبال قريب له لحين عودته .