د. سيد شعبان - من بداياتي.. معلمي الفاضل عبدالعزيز الصباغ!

كثيرة هي الآبار التى امتاح منها الإنسان معارفه؛ تترك في الذاكرة الحنين إليها.
أنا أحد هؤلاء الذين أدركتهم يد الفنان البارع، فمايزال الحنين إلى عالم البراءة يدفعني أن أسجل صفحاته؛ رزقت القلم ومثله معه من فكرة جميلة وخاطرة تدفع بي إلى عالم الكتابة، يستبد بي الحنين إلى البئر الأولى فأتذكر وصية معلمي الفنان عبدالعزيز الصباغ رحمة الله عليه حين أمسك بي أتقمم الأوراق الملقاة إذ هي صفحات مطوية ومقالات مبعثرة أمام دكانة معلوف أو قراطيس السوداني أمام عتبة دكانة عم حمدي صالج:
احتفظ بكل ما فيها من علم فهذه كنوز المعرفة؛ ومن يومها أبحث عن الكتاب حتى عرفت به ويكاد يشي بي؛ ارتحل معلمي الأول وقد أشبعني توجيها وأرفدني معرفة باللوحة يرسمها على السبورة؛ كان بارع الرسم بالقلم كتابة يكاد ينطق الحرف تشكيلا؛ طويل القامة فتخاله من مهابته جبلا أو نسرا يجوب الأعالي؛ كم أبدع معلمو المرحلة الابتدائية وتخرج في معاهدهم نوابغ أثروا الحياة وعمروها!
لاتكاد صورته تفارقني فأحاول جاهدا تتبع خطوه وترسم سيرته، مايزال أثر أصابعه ماثلا؛ في كل زاوية من الفصول له لوحة هذه للنيل تتهادى أمواجه، وتلك للحقول تمرح حملانها، فتاة تعبث بجديلتها وأخرى تتمايل طربة تكاد تكشف عن ساقيها وماء النيل يعابثها؛ حلوة كما رمانتا صدرها؛ فالمعلم بئر الحياة الأولى؛ وما آسى على شيء قدر حزني أن خلفه معلمون لايدرون أن العلم فن ودراية ومن ثم مقدرة ومهارة!
هذه بداية السرد أن أكون شغوفا؛ بالقرية وعالمها الذي لم أكن قد برحته بعد؛ ثم القطار ذلك العملاق يجري من بعيد فأخافه حتى كانت الجامعة فرأيته بقية من عهد الأجداد، صورة لمجتمع به من التآلف الكثير؛ هذه تبيع وتلك تشتري وما الحياة غير متاجرة؛ أتفحص الوجوه فأراها عالما من الحكايات!
إذ ذاك كانت كتابات فاروق شوشة في مجلة العربي، قصص قصيرة؛ ولوحات فنية؛ مغامرات في عالم الكتابة؛ وللورق حين تتلمس اليد نداوة تغري بتشمم عبق رائحته!
كثيرون تركوا بصمتهم في عالمي السردي؛ عم أبوطيفة ذلك الرجل المنادي في الحارات والأزقة يجوبها؛ ينعطف عند دويرة الفرن فيشبع حكيا ويسد جوعته أرغفة شهية؛ ومن بعيد تسري نسائم الهوى في كفر المنسي أبو قتب!
يرسم معلمي لوحته مقتطعا جزءا من حصته؛ يداري بجسده ما يفعل ثم يتنحى جانبا فتكون صورة تكاد اليد تتقراها بلمس!
جبلت على الشدو يطربني؛ فكان بكفرنا مولد للشيخ صفوان فتتجمع الهمة نقدا لجلب أحد المبتهلين:محمد عبدالهادي أو الشيخ محمد البنا؛ فتكون ليلة إنشاد وذكر؛ تفتحت أذني على الكلام منغما فيجذبني طربه!
تلك يد الفن والتربية عملت في توجيهي ناحية السرد؛ تمثلت طه حسين في أيامه، وفتحي غانم في زينب والعرش؛ برع أدباؤنا في تصوير الحياة في ربوع المحروسة؛ فمما ابتلينا به بآخرة تحريم الفن كله وأن ندور وراء هؤلاء الذين أحسنوا صناعة الموت ولما تجمل بهم الحياة؛ لست غير كاره لهؤلاء الحمقى الذين أماتوا في الناس نداء الجمال في لوحة بديعة أو في قصيدة يترقرق منها ماء الشعر!


1654163898836.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى