أربعةُ (راجديات) في الثانيةِ ظهراً، بعد لفّةِ الفلافلِ في ذلك اليوم، تسعون جريدةٍ أو أكثر بقليل قد نفدتْ منهُ في الحاديةِ عشر صباحاً ،ولم يكن قد أكلَ شيئاً بعدْ، وقدْ كان فَرِحاً.. فرحاً جداً..، لكن صفعات مدرسِ العربي أفقدتهُ ذاكرةَ فرحةِ البيع ،نزلَ الراجدي الأولُ كصاعقة تجدحُ على خدهِ ذات العلامة لخرمَوش قديم، المعضلة في الكوليرا، والمعضلة الأعظم في مدرسٍ لا يعترفُ أنه قد أخطأ ،أو نسى..ولن يعلل ذلك ولو بالسهو.
التلامذة منشدّون، لا مقطةَ تبري قلماً، ولاخربشةَ قلمٍ على ورقة.. سكوت.. بسكوت.. والأستاذ يتحدث:
_أن السيابَ..أ..أه.. هو من كتبَ قصيدةَ الكوليرا.
سكت الجميع ولم ينبسْ أحدٌ ببنتِ شفه. وما أدراهم من كتب الكوليرا أو الجدري والدرسُ أدبٌ وليس أحياءً، لكن الجميع ألتفتَ صوبَ صَوتٍ يأتي من الخلف.. بائع الجرائد..خجولاً لكنهُ واثقاً.. "أستاد.. أستاد.. هذا غلط أستاد، الكوليرا لنازك الملائكة مو للسياب".. كانت الصفعةُ الثانية بيمينهِ ،والثالثة بيسارهِ ، خابطةً الأنف مع العينين، جاءتْ الرابعةُ لتصدم جليس الصبي برأسهِ سهواً ،البؤسُ يشعلُ القلبَ، القلبُ يفيضُ، يبحثُ عن كلمةٍ تحملُ الفيضَ.
بؤسٌ ،و قلبٌ ،و كلمة، يقرأُ هذا في صُحُفهِ، صفحةُ الأدبِ والثقافة، يجدُ كلَّ ذلكَ في كل ذلكَ، أدمنَ قراءةَ الشِّعر في تلك الصفحات،قادهُ ذلك إلى معرفةِ فنونِ اللغة، أغوار اللغة، يتفوقُ في أولّهِ المتوسط على أقرانهِ، كان قد أنسابَ خيطُ دمٍ من أحدٍ منخريهِ، فيما انحدرت دمعةٌ من عينهِ التي أحْمَرّت؛ وهذا دفع كُتلةَ مخاطٍ صغيرةٍ بأنْ تغادرَ من التجويفِ الثاني ؛ لتخرج بجوارِ خيطِ الدم.. دمعةٌ.. قطرتا دم.. ومادةٌ دبقةٌ، كرفهما بكُمِّ قميصهِ بمسحةٍ واحدة. "أخرجْ يا ولد وأغسلْ وجهك" قال الأستاذ.
هرولَ بائعُ الصحف، من الصفِّ إلى المغاسل البائسة، ومن هناك قافزاً جدار المدرسة ليصبح فوقَ الرصيف،الملاذ الأخير،تاركاً خلفه كتبهُ تحضنهما ثلاثة جرائدٍ لم تُشْترَ بعدْ، اليومُ التالي صحفٌ دون مدرسة، اليوم الآخر صحف ودرسان فقط ،حيث قفزَ صبينا من الجدار إلى الملاذ الآمن.
اليوم الثالث:
_أبي لا أستطيع الذهاب.
دون أن يلتفت إليه أبوه وهو يداعبُ زجاجةَ الموبايل.
_لماذا.. لماذا.. حسناً.. أعملْ معي بعد الظهر.
صمت الصبي، تحسّرَ في وجهِ أبيهِ.
_كلا.. كلا.. سأعود إلى المدرسه.
يومان بسلامٍ وهدنة يشوبها القلقُ بين أستاذ اللغة وبائع الجرائد، ليس طيباً أستاذهم فيعالج الحال العليل هذا، أو العلة في هذا العليل، وها هو درس آخر، سهو آخر،فما عسانا أنْ نقول سوى ذلك. يدخل مشرفٌ أختصاص...(وثمة واوٍ ) لم تُحذفْ، قدكتبها الأستاذ الدايخ، رغم القوة الحاذفة المرابطة قبلها مباشرة، ولم يكن المُشرفُ يدري أن الدايخ هذا، هو الفاعل، ربما أحد الأثنينِ والخمسين تلميذاً قد تساهل مع هذا الواو اللعين. وننتظر المصادفة الطيبة.
_أنتَ أبني.. أبو القميص المقلّم.. أين الخطأ في.....؟
أبو القميص المقلّم ، لم يكن بالطبع إلاّ (بطل قصتي).. بائعُ الصُحف،وذلك من وحي الصُدفةِ التي تصنع أحياناً ثروةً للبعض،أونجوميةً لبعضٍ آخر ، أو حتى تُهزمُ أو تنصرُ جيوشاً بأكملها، وها هي تُوقفُ هذا الصبي المسكين الذي لايبحث الأّ عمن يشتري بضعةَ جرائدٍ منهُ، تُوقفهُ أمام أحد طغاة عمرهِ الصغير، أستاذهُ العتيد، فماذا يفعل والمشكلة ليست في الواو وأنما ما بعد القضاء على الواو. أحتار الصبي.. التلاميذ ينظرون ماذا سيفعل (مثقفهم)، والأستاذ أصفرّ وجههُ، والمشرف يريد جواباً.. ثم:
_آ.. أ.. اس.. تاد.. الواو في يبدو.. يجب أن يُحذف.
خزره مدرسهُ، عينان حمراوان، أخرجَ كلّ منها طرف لسانهِ ليمسح شفتيه اليابستين، كلِّ لهُ صحراؤهُ و جفافهُ. يخرج المشرف لتنهال سياط الخيزران على راحتي المسكين.
للأستاذ ثمن يحميهِ، واحدةٌ على مفاصل راحتهِ، أخرى على متنهِ، وآخرى على ظهره.
جلس الصبي باكياً، جاثياً على ركبتيهِ. هدأت العاصفة.. "هيا أخرجْ يا ولد وأغسل وجهك من البكاء"،..مهرولاً من الفصل.. المغاسل الكئيبة.. متسلقاً الجدار.. الرصيف الملاذ.
سبعةُ عشرِ عاماً مرّت، بينما أنقّبُ في الذكريات، لعلي أكتبُ شيئاً، التلفاز أمامي، مؤتمر لرئيس الوزراء، بيان صحفي وزِعَ على حشدٍ من الصحفيين ، هكذا.. شاب يقارب الثلاثين.. يفاجئ الجميع :
"عفواً دولة الرئيس.. سؤالي ليس في السياسة.. أنما في.. لغتنا الجميلة.. دولتكم لم تحذفْ حرفَ علّةٍ واحدٍ أبداً.. والمعلول كما هو..لا شيئ قد تغير.. لاشيئ، لاشيئ"
أحمرّت عينّا الرئيس..!
أحمرّتْ أشياء أخرى..!
...... لم يتسلقْ ذلك الصحفي الجدار، بيدَ إنهُ وجدَ نفسهُ فوق الرصيف.... !!!
* القصة فائزة بالمركز الأول في ملتقى السرد الروائي/ محور طفولة مهددة
*(الراجدي:صفعة على الوجه)
حميد محمد الهاشم/العراق
التلامذة منشدّون، لا مقطةَ تبري قلماً، ولاخربشةَ قلمٍ على ورقة.. سكوت.. بسكوت.. والأستاذ يتحدث:
_أن السيابَ..أ..أه.. هو من كتبَ قصيدةَ الكوليرا.
سكت الجميع ولم ينبسْ أحدٌ ببنتِ شفه. وما أدراهم من كتب الكوليرا أو الجدري والدرسُ أدبٌ وليس أحياءً، لكن الجميع ألتفتَ صوبَ صَوتٍ يأتي من الخلف.. بائع الجرائد..خجولاً لكنهُ واثقاً.. "أستاد.. أستاد.. هذا غلط أستاد، الكوليرا لنازك الملائكة مو للسياب".. كانت الصفعةُ الثانية بيمينهِ ،والثالثة بيسارهِ ، خابطةً الأنف مع العينين، جاءتْ الرابعةُ لتصدم جليس الصبي برأسهِ سهواً ،البؤسُ يشعلُ القلبَ، القلبُ يفيضُ، يبحثُ عن كلمةٍ تحملُ الفيضَ.
بؤسٌ ،و قلبٌ ،و كلمة، يقرأُ هذا في صُحُفهِ، صفحةُ الأدبِ والثقافة، يجدُ كلَّ ذلكَ في كل ذلكَ، أدمنَ قراءةَ الشِّعر في تلك الصفحات،قادهُ ذلك إلى معرفةِ فنونِ اللغة، أغوار اللغة، يتفوقُ في أولّهِ المتوسط على أقرانهِ، كان قد أنسابَ خيطُ دمٍ من أحدٍ منخريهِ، فيما انحدرت دمعةٌ من عينهِ التي أحْمَرّت؛ وهذا دفع كُتلةَ مخاطٍ صغيرةٍ بأنْ تغادرَ من التجويفِ الثاني ؛ لتخرج بجوارِ خيطِ الدم.. دمعةٌ.. قطرتا دم.. ومادةٌ دبقةٌ، كرفهما بكُمِّ قميصهِ بمسحةٍ واحدة. "أخرجْ يا ولد وأغسلْ وجهك" قال الأستاذ.
هرولَ بائعُ الصحف، من الصفِّ إلى المغاسل البائسة، ومن هناك قافزاً جدار المدرسة ليصبح فوقَ الرصيف،الملاذ الأخير،تاركاً خلفه كتبهُ تحضنهما ثلاثة جرائدٍ لم تُشْترَ بعدْ، اليومُ التالي صحفٌ دون مدرسة، اليوم الآخر صحف ودرسان فقط ،حيث قفزَ صبينا من الجدار إلى الملاذ الآمن.
اليوم الثالث:
_أبي لا أستطيع الذهاب.
دون أن يلتفت إليه أبوه وهو يداعبُ زجاجةَ الموبايل.
_لماذا.. لماذا.. حسناً.. أعملْ معي بعد الظهر.
صمت الصبي، تحسّرَ في وجهِ أبيهِ.
_كلا.. كلا.. سأعود إلى المدرسه.
يومان بسلامٍ وهدنة يشوبها القلقُ بين أستاذ اللغة وبائع الجرائد، ليس طيباً أستاذهم فيعالج الحال العليل هذا، أو العلة في هذا العليل، وها هو درس آخر، سهو آخر،فما عسانا أنْ نقول سوى ذلك. يدخل مشرفٌ أختصاص...(وثمة واوٍ ) لم تُحذفْ، قدكتبها الأستاذ الدايخ، رغم القوة الحاذفة المرابطة قبلها مباشرة، ولم يكن المُشرفُ يدري أن الدايخ هذا، هو الفاعل، ربما أحد الأثنينِ والخمسين تلميذاً قد تساهل مع هذا الواو اللعين. وننتظر المصادفة الطيبة.
_أنتَ أبني.. أبو القميص المقلّم.. أين الخطأ في.....؟
أبو القميص المقلّم ، لم يكن بالطبع إلاّ (بطل قصتي).. بائعُ الصُحف،وذلك من وحي الصُدفةِ التي تصنع أحياناً ثروةً للبعض،أونجوميةً لبعضٍ آخر ، أو حتى تُهزمُ أو تنصرُ جيوشاً بأكملها، وها هي تُوقفُ هذا الصبي المسكين الذي لايبحث الأّ عمن يشتري بضعةَ جرائدٍ منهُ، تُوقفهُ أمام أحد طغاة عمرهِ الصغير، أستاذهُ العتيد، فماذا يفعل والمشكلة ليست في الواو وأنما ما بعد القضاء على الواو. أحتار الصبي.. التلاميذ ينظرون ماذا سيفعل (مثقفهم)، والأستاذ أصفرّ وجههُ، والمشرف يريد جواباً.. ثم:
_آ.. أ.. اس.. تاد.. الواو في يبدو.. يجب أن يُحذف.
خزره مدرسهُ، عينان حمراوان، أخرجَ كلّ منها طرف لسانهِ ليمسح شفتيه اليابستين، كلِّ لهُ صحراؤهُ و جفافهُ. يخرج المشرف لتنهال سياط الخيزران على راحتي المسكين.
للأستاذ ثمن يحميهِ، واحدةٌ على مفاصل راحتهِ، أخرى على متنهِ، وآخرى على ظهره.
جلس الصبي باكياً، جاثياً على ركبتيهِ. هدأت العاصفة.. "هيا أخرجْ يا ولد وأغسل وجهك من البكاء"،..مهرولاً من الفصل.. المغاسل الكئيبة.. متسلقاً الجدار.. الرصيف الملاذ.
سبعةُ عشرِ عاماً مرّت، بينما أنقّبُ في الذكريات، لعلي أكتبُ شيئاً، التلفاز أمامي، مؤتمر لرئيس الوزراء، بيان صحفي وزِعَ على حشدٍ من الصحفيين ، هكذا.. شاب يقارب الثلاثين.. يفاجئ الجميع :
"عفواً دولة الرئيس.. سؤالي ليس في السياسة.. أنما في.. لغتنا الجميلة.. دولتكم لم تحذفْ حرفَ علّةٍ واحدٍ أبداً.. والمعلول كما هو..لا شيئ قد تغير.. لاشيئ، لاشيئ"
أحمرّت عينّا الرئيس..!
أحمرّتْ أشياء أخرى..!
...... لم يتسلقْ ذلك الصحفي الجدار، بيدَ إنهُ وجدَ نفسهُ فوق الرصيف.... !!!
* القصة فائزة بالمركز الأول في ملتقى السرد الروائي/ محور طفولة مهددة
*(الراجدي:صفعة على الوجه)
حميد محمد الهاشم/العراق