د. أحمد الحطاب - أهمِّية اللغة العربية لا تكمن فقط في كونها لغة رسمية للبلاد!

أول ما أستهِلُّ به هذه المقالة، هو التَّوضيخ التالي : المشكل الذي يطرحُه عنوانُ هذه المقالة ليس حكرا على اللغة العربية. بل إنه مشكل كل لغة لا تحظى بالاهتمام الكافي لتتطوَّرَ. ثانيا، من الضروري التَّمييزُ بين اللغة العربية كلغة فصحى رسمية للبلاد، إلى جانب اللغة الأمازيغية، و بين اللهجة العربية المُتداولة (أو الدارجة) التي، بواسطتها، يتواصل المواطنون فيما بينهم في حياتهم اليومية. و عندما نتحدَّثُ عن اللغة الرسمية لبلاد ما، فإن الأمرَ يتعلَّق باللغة التي تُدَارُ بواسطتها الشؤون العامة للبلاد من إدارة و اقتصاد و ثقافة و تعليم و صحة و قضاء و صناعة بمختلف فروعها و تجارة و زراعة و بحث علمي و تكنولوجيا و مقاولات و مؤسسات عمومية… و بصفة عامة، اللغة الرسمية هي الوسيلةُ التَّواصلية الأساسيةُ التي تعتمد عليها كل بلادٍ لبلورة جميع أنشطتِها التَّنموية شفوياً و كِتابةً. فماذا يعني أن تكونَ اللغة الرسميةُ هي الخيطُ الناظم و الوسيلة التَّواصلية لتسيير و تدبير جميع شؤون بلادٍ بأكملِه؟

بكل بساطة، هذا يعني أن اللغةَ الرسميةَ متطوِّرة و تتطوَّر باستمرار لتسايرَ التَّقدمَ الذي يحصل في جميع مجالات التَّنمية عبر مختلف أنحاء العالم. و مجالات التَّنمية هذه لا تتوقَّف، هي الأخرى عن التَّطوُّر من خلال ما يحصل، بانتظام و استمرار، من تَّغيير و إبداع و اختراع و ابتكار داخلَ مختبرات البحث بصفة عامة و مختبرات البحث التَّنموي recherche développement بصفة خاصة. و التَّقدم الذي يحصل في مختبرات البحث لا يمكن أن يخرجَ إلى حيز الوجود إلا إذا تمَّت بلورتُه، أسود على أبيض، بواسطة اللغة الرسمية، أي كِتابةً. و هذه البلورةُ تقتضي إيجادَ أو صُنعَ أو صياغةَ كلمات أو مصطلحات جديدة تُضاف إلى رصيد لغة التَّواصل الرسمية. و للإشارة، إن أغلبَ الكلمات و المصطلحات الجديدة يتمُّ صُنعُها باللغة الانجليزية نظرا لكون هذه الأخيرة هي الوسيلة التَّواصلية التي تعتمد عليها جلُّ أنحاء العالم في مجالات البحث و العلم و التِّكنولوجيا و الاقتصاد و المالية و الصناعة و التجارة…

فعلى البلدان التي تريد أن تَسايرَ ركبَ التقدم في مجالات الاقتصاد و الصناعات و التكنولوجيات… أن تُترجِمَ الكلمات و المصطلحات الجديدة من الانجليزية إلى لغاتها الرسمية أو أن تقومَ بأبحاث لغوية أو لِسْنِية linguistique لصناعة مصطلحات جديدة. و هذا يعني أن هذه البلدان تتوفَّر على هيآت علمية متخصصة تقوم بمهمة إغناء اللغات الرسمية بما استجد من كلمات و مصطلحات. فرنسا مثلا، تتوفَّر على هيئة تُدعى commission d'enrichissement de la langue française، أي لجنة إغناء اللغة الفرنسية التي تتألف من أخصائيين في اللغات و من بعض الوزارات التي لها علاقة بهذا الإغناء. السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو الآتي : "هل اللغة العربية، كلغة رسمية للبلاد، لها أدواتٌ و هيآتٌ تجعل منها لغةً قادرة على مسايرة الركب العلمي، التِّكنولوجي، الاقتصادي، الصناعي… الذي تدور أطوارُه في مناطق مختلفة من العالم وخصوصا في البلدان الأنݣلوساكسونية؟

على أرض الواقع و بالملموس و إلى حدِّ الآن، ليس هناك هيئةٌ أو بِنيةٌ تهتم بتطوير و إغناء اللغة العربية. لكن الدستور المغربي ينصُّ على إنشاء "المجلس الوطني للغات و الثقافة المغربية" الذي، في إحدى مواده، ينص على إنشاء " أكاديمية محمد السادس للغة العربية" التي هي البنية المنتظرة و التي ستُناط بها مهمة تطويرِ اللغة العربية و إغنائِها لتصبحَ هي الأداة التي ستُدارُ بها جميعُ شؤون البلاد و في جميع المستويات.

كل هذا لأقولَ إن أهمِّية اللغة العربية لا تكمن في كونها لغة رسمية للبلاد و لا حتى في عدد الناطقين بها، لكن في العناية التي تحظى بها في العمل الحكومي لتصبحَ فعلا قادرةً على مسايرة التقدم الحاصل في جميع المجالات التَّنموية، المعرفية و الاصطلاحية. لكن، ما يؤسفُ له هو أنه، قبل أن ينصَّ الدستورُ على إنشاء "المجلس الوطني للغات و الثقافة المغربية"، و من خلاله، إنشاء "أكاديمية محمد السادس للغة العربية"، تعرَّضت اللغةُ العربية للإهمال على المستوى الرسمي بحيث لم نسمع أن الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام أعدَّت استراتيجياتٍ للنهوض باللغة العربية و جعلها تتنافس مع اللغات الأكثرَ تداولاً في العالم. و حتى "معهد الدراسات و الأبحاث للتَّعريب" الذي يُعدُّ اليوم مؤسسةً من مؤسسات جامعة محمد الخامس بالرباط، أصبح عبارة عن قوقعة فارغة بسبب ما طاله من نسيان.

و لا داعيَ للقول أن الإهمالَ الذي تعرَّضت و تتعرَّضُ له اللغة العربية في السياسات العمومية، هو أحدُ الأسباب، إن لم يكن السببُ الرئيسي في فشل محاولات تعريب المواد العلمية. لو كانت اللغةُ العربية قويةً، متطوِّرةً و مسايرةً بانتظام للتقدم العلمي و التكنولوجي، لَسَهُلَ تعريبُ هذه المواد. فكيف يمكن تعريبُ تعليم العلوم و اللغة العربية لم تكن مُهيَّأةً لهذا التَّعريب. فكيف للغة العربية التي كانت، ما بين القرن الثامن و القرن الثالث عشر، لغةً للإنتاج العلمي و التِّكنولوجي، لم تعد قادرةً اليوم على هذا الإنتاج؟ إنه أمرٌ غريبٌ لا يقبلُه العقل. و للتَّوضيح، إن المشكلَ ليس في اللغة العربية في حد ذاتِها. لكن في الإهمال الذي طالها منذ عقود. إهمالٌ قاتلٌ جعلها تتأخَّر عن سير الركب العلمي و الاقتصادي و الصناعي… طيلةَ عشرات السنين.

ما هي في حاجةٍ إليه اللغة العربية، اليوم، هي بالطبع، مؤسسة تعتني و تنهض بها و تحميها من المتآمرين عليها. و أكثر من هذا، فإنها في حاجةٍ إلى أبحاث و دراسات و ترجمات و مواكبات… لتخرجَ من السُّبات الذي أوقعها فيه الإهمالُ. يكفي مثلا أن نُلقيَ نظرةً على تاج العروس أو على لسان العرب أو على القواميس الأصيلة (معجم المعاني،الرائد، معجم اللغة العربية المعاصرة، معجم الغني، المعجم الوسيط، الصحاح في اللغة…)، لنلاحظ ما تزخر به اللغة العربية من مصطلحات يمكن تطويعُها للاشتقاق و الاستنباط و إبداع كلمات جديدة.

و عندما أتحدَّثُ عن إهمال اللغة العربية، فالأمر يتعلَّق بالإهمال الصادر عن الجهات الرسمية الموكول لها تدبير شؤون البلاد. و في هذا الصدد، أنا لا أقول إن مؤسساتنا الجامعية لا تولي اهتماما باللغة العربية. لا أبدا. هناك مختبرات و فِرق بحث تهتم بهذه اللغة لكن بدون خارطة طريق توجيهية و بدون دعم. ما أريد قولَه هو عدم وجود استراتيجية واضحة المعالم للنهوض باللغة العربية. كل ما يدور في هذه المختبرات و ما تقوم به فِرَقُ البحث ناتج عن مبادرات المؤسسات أو بالأحرى من مبادرات الأساتذة. و في غالب الأحيان، إن البحوث التي تُنجز داخل المؤسسات هي فقط وسيلة للحصول على دبلوم وليس جزء من مخطط أو أهداف معينة. و الدليل على ذلك أن هذا النوع من الأبحاث يبقى حبيس الرفوف بمجرد الحصول على الدبلوم ليتراكم عليها الغبار. و لذلك، فإن هذه الأبحاث لا يمكن أن تساهم في النهوض باللغة العربية لأنها ليست نابعة من إرادة و استراتيجية مدروسة تدخل في إطار السياسات العمومية.

ما أتمناه هو أن يتمَّ في اقرب وقتٍ ممكنٍ تفعيلُ " المجلس الوطني للغات و الثقافة المغربية" بتعيين رئيسه و أعضائه لتخرجَ "أكاديميةُ محمد السادس للغة العربية" إلى حيز الوجود و تشرع في إخراج اللغة العربية من الجمود المفروض عليها منذ عقود.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى