د. أحمد الحطاب - كيف يُدرَكُ مفهومُ البحثُ في مجال الفلسفة

1.مقدمة

من الواضح اليوم أنه، إذا حصلتْ و تحصلُ تطوُّراتٌ هائلة في مختلف مجالات المعرفة، سواءً تعلَّق الأمرُ بالعلوم الدقيقة، الطبيعية، الاجتماعية و الإنسانية، فهذه التَّطوُّرات ناتِجةٌ جزئياً، أو بالأحرى كلياً، عن ممارسة البحث.

و إذا عرفَ هذا الأخيرُ، خلال تطوُّرِه، تغييراتٍ في وسائله و أساليبه و طُرُقه، فإنه يبقى، في عُمقِه و مبادئه، الوسيلة الكونية التي، بواسِطتِها، يحاول كل مجالٍ من مجالات المعرفة اختراقَ و فهمَ الواقعَ المحيطَ بالإنسان، و إن يستطيع، التَّحكُّمَ فيه.

ليس هناك مجالٌ من مجالات المعرفة لا يجتهد لمعرفة الواقع المحيط به و لإدراكِ مختلفَ أوجٌه مظاهره. و المقصودُ هنا بالواقع هو المجتمعات البشرية و الطبيعة و ظواهرُها و كائناتُِها الحية و غير الحية و العلاقات التي تربطها و قوانيُنها و أحداثُها و أسرارُها (أسرارٌ من حيث المنظور الفكري البشري)… كل مجالٍ من مجالات المعرفة له وسائلُه و غاياتُه لإثبات وجوده بالنسبة لهذا الواقع.

غير أنه غالباً ما يبدو مفهومُ البحث كمفهومٍ له صبغة علمية، أو بلأحرى، إنه، في غالب الأحيان، يقترنُ بالعلوم الدقيقة و الطبيعية، الشيءُ الذي جعل هذا البحثَ ينعَثُ ب"البحث العلمي". و السبب الذي أدّى إلى هذه التَّسمية هو أن هذه العلوم (الدقيقة و الطبيعية) أنجبت أو أوجَدت طريقةً منطِقيةً للإحاطة بالواقغ و فهمه. و هو ما يُسمَّى بانتظامٍ الطريقة العلمية أوالنهجُ العلمي méthode scientifique.

غير أن الصِّبغَةَ العلميةَ للطريقة أو للبحث ليست، في أيامنا هذه، حكراً على العلوم الدقيقة و الطبيعية. مجالاتٌ أخرى من المعرفة استطاعت، هي الأخرى، أن ترتقي إلى مستوى التَّخصُّصات العلمية كعلمِ النفس psychologie و علم الاجتماع sociologie و علم النفس التربوي psychopédagogie و اللِّسانيات linguistique و الديداكتيك…

و مع ذلك، يبقى السؤالُ مطروحاً : هل فعلاً كل مجالات المعرفة، كيفما كانت طبيعتُها، يمكن أن تلجأَ للبحث ببُعده العلمي، و في الحالة التي تهمُّنا، هل بإمكاننا الحديث عن البحث (بمعناه المتداول) في مجالِ الفلسفة؟ أو بعبارةٍ أخرى، هل يإمكان الفلسفة تبنِّي البحث كما هو مُمارسٌ في العلوم الأخرى أو هل الفلسفةُ تتَّبِعُ طريقةً مُغايرة؟

و قبل الإجابة عن هذا السؤال، قد يكون من المفيد، لأغراضٍ توضيحية لِما سيأتي في بقية هذا المقال، تِبيانُ مفهومي "بحث" و "فلسفة".

2. ما معنى "بحث" و "فلسفة"؟

بحث

ما يُثيرُ الانتباهَ هو أن كلمةَ "بحث" نادراً ما تشيرُ لها القواميس و الموسوعات المتخصِّصة في الفلسفة. و حينما تتم الإشارةُ لها، فإنها، غالباً ما نُستعملُ بمعنى البحث عن الحقيقة، عن المثالية، عن الإله…

و هذه بعض التَّعاريف المأحوذة من بعض المراجع المختلفة :

التعريف الأول

البحث هو القيام بعمليةِ البحث؛ أعمالٌ علميةٌ بغرضِ تعميقِ المعرفة؛ عنايةٌ فائقة (L’Abbé Elie Blanc, Dictionnaire universel de la pensée, p.636).

التعريف الثاني

"عملٌ علمي" (Dictionnaire encyclopédique Larousse).

التعريف الثالث

البحث من جديد، بإلحاحٍ و بعنايةٍ و منهجية؛ أعمالٌ يتم القيامُ بها بمختلف الطُّرُق العلمية : ملاحظة، تجريب، تحرِّيات، إحصائيات… (Robert Lafon, Vocabulaire de psychopédagogie et de psychiatrie de l’enfant, p.610).

التعريفُ الرائع

عملية البحث، أي البحث من جديد أو يكيفيةٍ عادية، البحث عن شيءٍ أو شخصٍ ضائع، البحث بعناية و بمنهجية… الباحثُ : الذي يُمارِسُ البحثَ العلمي. أعمالٌ تتطلَّبُ تفكيراً عميقاً، دراسات يقوم بها العلماء و المتضلِّعون في المعرفة. (Trésor, Dictionnaire de la langue française, Larousse).

ما يُستنتَجُ من هذه التَّعاريف الأربعة، يمكن تلخيصُه، إضافةً إلى فكرة الجديد، في احتواءِ التَّعاريف الأربعة على الصِّبغة العلمية للبحث و القيامِ به بعنايةٍ و منهجيةٍ، كما سبقت الإشارةُ إلى ذلك في المقدِّمة أعلاه.

فلسفة

التَّعريف الأول

علومُ الأشياء استناداً إلى مسِبِّباتِها الأولى (L’Abbé Elie Blanc, Dictionnaire universel de la pensée, p.579).

التَّعريف الثاني

فيما مضى، كل معرفةٍ عقلانية، مجموعُ العلوم. في الوقت الحاضر، نوعٌ من المعرفة يختلف عن العِلم من حيث طبيعته و موضوعه (Armand Cuvillier, Vocabulaire philosophique, p.174).

التَّعريف الثالث

كل معرفة عقلانية، أي تأتي بالبُرهان و ذلك كيفما كان موضوعُها؛ مجموعُ العلوم المُصنَّفة على شكل منظومات ؛ معرفة ما هو مُتعلِّقٌ بالإنسان؛ علومُ العقل مقارنةً بالعلوم الطبيعية و الدقيقة و الرياضية؛ الإدراكُ الشمولي للكون؛ دراسة معنى الحياة، الوجود (Sylvain Auroux et Yvonne Weil, nouveau vocabulaire des études philosophiques, p.172).

التَّعريف الرابع

كل معرفة عقلانية كيفما كان موضوعُها؛ ممارسةُ العقل في مجالات الفكر و العمل؛ تَفكُّرٌ حول معنى و شرعية أية ممارسة علمية، أخلاقية، سياسية… (Dictionnaire encyclopédique, p.1085).

اتِّجاهان اثنان يمكن استنتاجُهما من هذه التَّعاريف الأربعة. الاتجاه الأول يصفُ الفلسفةَ كمجموعِ المعارف العقلانية بينما الاتِّجاهُ الثاني يعتبر الفلسفةَ كمجموعة علوم أو علمُ العلوم. غير أن الاتجاهَ الأخير غير قارٍّ، بمعنى أنه خضع، مع مرورِ الوقت، للتطوُّر. و هذا يعني أن الفلسفةَ اليوم مُغايرة لما كانت عليه في الماضي. وهذا هو ما سيقودني للجواب على السؤال المطروح أعلاه (هل يإمكان الفلسفة تبنِّي البحث كما هو مُمارسٌ في العلوم الأخرى أو هل الفلسفةُ تتَّبِعُ طريقةً مُغايرة؟) لكن بعد توضيح ما حصل من تطوُّرٍ في مسار الفلسفة.

3.الفلسفة : ما كانت عليه في الماضي و ما هي عليه اليوم

ما كانت عليه في الماضي

إجمالاً، الفلسفة كشجرةٍ أغصانُها تشكِّل الميطافيزياء métaphysique، جدعُها يُشكِّل الفيزياء و أغصانُها تُشكِّل كل العلوم الأخرى (Descartes).

تحليلُ هذه المقولة يُبيِّن أن الفلسفةَ كانت كل العلم و أن كل محاولةٍ لممارسة التَّفكير لا يمكن أن تتمَّ إلا بداخلها. كانت، إن ضحَّ القولُ، العلم الشَّامل، الذي بإمكانه مقاربة الكون برمَّتِه. يعني أن الفلاسفة، في الماضي، كانوا يعتبِرون الطبيعةََ وحدةً متكاملة، أي كُلٌّ غير قابل للتَّجزئ و بالتالي، كانت هذه النَّظرة مبَلورةً في تفكيرهم الذي كان هو الآخرُ شاملاً.

كانت هي (أي الفلسفة) : "... بكيفيةٍ إجماعِية -المعارف- و فضلاً عن ذلك، التَّأمُّلُ الأخلاقي السياسي" (Jean François Revel, histoire de la philosophie occidentale, p.13).

ما هي عليه اليوم

يبدو أنه، منذ أن فقدت شجرةُ Descartes أغصانَها و انفصلت عن جذورها، أصبحت الفلسفةُ تبحث عن هويةٍ جديدة و صيرورةٍ جديدة. أكيدٌ لا تزالُ لها عينٌ على العلوم من خلالِ الإبستيمولوجيا épistémologie لكن لم تعُدْ هي التي تُنتِجُ هذه العلوم. و بعد فُقدانِها لأغصانِها، أصبحت الفلسفةُ معزولةً عن مجالات المعرفة الأخرى لِتُختَزَلَ في العلم الذي يعتمِدُ على العقلانية و الذي يتأمَّلُ في المعنى، في الكينونة، في القيم، في الوجود. و باختصارٍ، إنها في حالة أخذٍ و ردٍّ يمكن الشعورُ به في المؤلَّفات التي تهتمُّ بتاريخها. في إحدى هذه المُؤلَّفات، يقول صاحِبُها : "يُقالُ بإلحاحٍ أن الفلسفةَ دخلت في أزمةٍ… لأنه لم يعد لدينا لا أعلامُ فكرٍ و لا فلاسِفة حاليون قادرون على إنتاجِ نظرةٍ شاملةٍ للكون تندمجُ فيها، بكيفيةٍ موحَّدةٍ، مختلفُ أنواعِ العلوم… فأين هو الفيلسوف، أميرُ المعرفة، الذي يُنتِجُ مشروعاًً يمكن، بواسطتِه، إدراكٌ شاملٌ للكون و للإنسان" (Jacqueline Russ, histoire de la philosophie, de Socrate à Foucault, p.153).

4.معنى البحث في الفلسفة

معنى البحث في فلسفة الماضي

رغمَ أن فلسفةَ الماضي كانت تُعدُّ كعلمٍ شامل، كانت تختلفُ، بطُرُقِها و غاياتِها عن العلومِ في صيغتِها الحالية. بينما هذه الأخيرة تُعدُّ كسياقٍ لإنتاج المعارف الذي له طُرُقُه و تقنياتُه الخاصة المبنية، على الخصوص، على الملاحظة و التَّجريب، فلسفةُ الماضي كانت، هي الأخرى، تُنتِجُ المعارف لكن كانت، في غالب الأحيان تلجأ للتَّفكيرِ المجرَّد. كانت، إن صحَّ القولُ، عبارةً عن تأمُّلٍ و مجهودٍ تجريبي يتماشيان، أولا و قبل كل شيءٍ، مع فُضولٍ فكري و رغبةٍ في التَّضلُّعِ في المعرفة érudition. كانت نوعاً من فلسفة تهتمُّ بالطبيعة لها بُعدٌ ثقافي أكثر منه عملي إلى درجة أن أرشيميد Archimède، بعد أن سخَّرَإحدى اكتشافاتِه الفيزيائية لصُنعِ المنجنيق catapulte، اعتدرَ لمواطنيه عن " الاستعمال السيئ" للعلم (الفلسفة في عصره).

في هذه الحالة، البحث، كما هو مُفكَّرٌ فيه و مُمارسٌ اليوم، لا مكانَ له في فلسفة الماضي لأن هذه الأخيرة، في حدِّ ذاتِها، كانت عبارةً عن بحثٍ عن الحقيقة باللجوءِ إلى العقل. و من جهةٍ أخرى، كان الفلاسفةُ يحتقرون العلمَ الذي يؤدِّي إلى تطبيقاتٍ تقنيةٍ و يعتبرونه كعِلمٍ يهتمُّ بعالمٍ دنيئٍ ألا و هو العالمُ المادي.

معنى البحث في فلسفة الحاضر

حينما يسري الحديثُ عن البحث في مجال العلوم، فالأمرُ يتعلَّق بالحديثُ عن إنتاج المعارف حسبَ طريقةٍ معيًّنةٍ التي تخضعُ لعددٍ من المعايير و بالأخصِّ، معيارُ التَّحقُّق vérification. هل من الممكن أن تمثَتِلَ الفلسفةُ لهذا النوعِ من البحث؟ أو بعبارةٍ أخرى، هل بإمكان الفلسفة المُعاصرة أن تُنتِجَ معرفةً قابلةً للقِياسِ mesurable و يُمكن التَّحقُّقُ منها vérifiable؟ نحن أمامَ احتمالاتٍ و متطلَّباتٍ مُنافية لروح الفلسفة و لسرِّ وجودها. و لهذا، من الصَّعبِ الحديثُ عن البحث، ببُعدِه العِلمي في مجالِ الفلسفة الحالية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى