د. خالد محمد عبدالغني- العلاج النفسي ودلالة الصمت في مسرحية "صمت الأموات" للفنان الاديب الكبير صلاح حجازي

الصمت في الحياة اليومية قد يكون الملاذ الأخير في كثير من المواقف التي يمر بها المرء, لأن هناك أشياء لا يمكن للإنسان أن يتكلم عنها, لأنها تؤلمه أشد الألم, وحين يبوح بها ينتج عنها ألم أشد مثل الصمت الذي يلجأ إليه الشخص الذي يقع في قبضة العدو ويتم تعذيبه, لأن الكلام تحت التعذيب يعني التعاون مع العدو, وهذا يعني نفي الذات الإنسانية وسحق كل آمالها في الحرية والحياة. وحين يعيش الإنسان تجربة تتضاءل معها لغة الكلام, يصبح الصمت هو الممكن الإنساني لنقل كثير من المشاعر وما لا يمكن قوله. والفن يستفيد من هذا حيث يجعل الصورة الصامتة في السينما تنقل لنا عوالم كثيرة لا يتيسر نقلها بالكلام, فالمشاهد الصامتة التي تنقلها الكاميرا أبلغ من أي تعبير, ونجد هذه أيضًا في الصورة الشعرية والموسيقى, ولذلك يطلق على الفن تمييزًا عن لغة الكلام أنه تفكير بالصور. ونحن حين نتحدث للآخرين ننقل عشرة في المائة من المعلومات من خلال الكلام والباقي ينتقل للشخص من خلال نغمة الصوت وحركة الجسد ودرجة الانفعال, وكل هذا يثير مستويات أخرى من الفهم لدى البشر, لذلك فإن لغة العيون وحركات اليدين, واختلاجات الوجه تنقل ما لا ينقله الكلام، وهذا هو ما يتم استخدامه والتركيز عليه في العلاج النفسي الجماعي القائم على تقنية السيكودراما المستخدمة في هذه المسرحية " صمت الأموات " .
كما قامت مسرحية "صمت الأموات لصلاح حجازي" بالاعتماد على الصمت دليلا على الموت لدى مجموعة من الناس اختارت الصمت للابتعاد عن صخب الحياة وسلبياتها ليس هذا فحسب بل وعللها وأمراضها، فشخصيات المسرحية – مجموعة الصامتين – الأموات: ماجي (مُمثلة) - كاسب (شاب)- روعة (خطيبة كاسب) - كوكو (موظف) - رجل عجوز " - عجزت عن مواجهة الواقع المؤلم فقررت الانسحاب منه لبقعة من الأرض متواضعة الخدمات ومعدومة في تلبية الاحتياجات ، يقول عنهم المؤلف " الموت كالعمر لا يعود إلا بمشيئة الله كما في حال العزير وأهل الكهف ولكن هل هناك أحياء أموات ؟! دون شك .. فالكرة الأرضية مليئة بهؤلاء البشر المهمشين المنسيين المظلومين المطحونين والمشردين بلا مأوى والجائعين بلا لقمة والعراة بلا هِدمة .. فالموت أحياناً يكون أبلغ من حياة هؤلاء البسطاء" . وصحيح ان لكل واحد من هؤلاء المهمشين قضية تصارع فيها مع المجتمع فمنهم الذي قاوم الرشوة فاتهموه بالجنون وأدخلوه مستشفى الأمراض النفسية ، ومنهم الممثلة متواضعة الأداء والنجومية ، ومنهم أولئك الذي لا يقدرون على تكاليف الزواج أو إيجاد فرصة للعمل الشريف المجزي ومن ثم فهم بحاجة للعلاج النفسي وهذا ما سوف تقوم به هند في هذا المكان الفقير الذي يعيش فيه هؤلاء الناس ويصفهم المؤلف بقوله " رجال ونساء في ثياب رثة عدا إمرأة واحدة ترتدي ملابس أنيقة وغالية .. بعضهم مضطجع وبعضهم جالس بين وخلف حجارة كبيرة والكل ينظرون في الأرض .. خيمة من الخيش في يمين المسرح وشجرة بدون أوراق".
ويستند العلاج النفسي إلى الفكرة الأساسية القائلة بأن التحدث عن الأشياء التي تزعجك يمكن أن يساعد في توضيحها ووضعها في نصابها. ههناك جدل قديم في مجتمع الصحة العقلية فيما يتعلق بفائدة العلاج بالحوار مقابل العلاج بالأدوية . ووفقًا للنموذج الطبي ، فإن الاضطرابات النفسية هي نتيجة لأسباب فسيولوجية ويجب معالجتها عن طريق العلاج أو الجراحة أو العمليات الطبية الأخرى. ويعتقد أنصار العلاج بالكلام - ونحن منهم بالطبع - أن الاضطرابات العقلية تستند إلى حد كبير على ردود الفعل على بيئة الشخص. لذلك ، يمكن معالجتها من خلال المناقشة ، وحل النزاعات ، والتغيرات السلوكية ، والتغييرات في التفكير. وبعض أشكال العلاج الحديث لها هدف ثالث. في التحليل النفسي والعلاجات ذات الصلة ، والهدف هو اكتشاف وحل الصراع الأساسي المسبب للمرض والهدف هو حل المشاكل في العلاقات بين الأشخاص . ويبدأ العلاج بالكلام وسيقوم المعالج بعد ذلك بطرح الأسئلة للمساعدة في توضيح طبيعة المشكلة ومدتها وشدتها.
وهنا سوف تبدأ الصحفية هند بممارسة دور المعالج النفسي وستبدأ جلساتها النفسية بالحوار والنقاش والكلام وتوضح الأفكار والكشف عن الصراعات العميقة والتي أدت بالمرض والعزلة لدى هؤلاء الناس الأموات – الصامتين-
هند : ( تنادي عليهم ) ياسيد .. ياست .. ياحاج .. ردوا علىّ ( يرد عليها أحد ) يا أستاذ .. يا آنسة .. أنا صحفية وعايزه أعمل معاكوا حوار للجورنال .. ماحدش بيرد علىّ ليه ! يا جماعه حد يكلمني .
( يدخل شاب يُدعى كاسب يرتدي قميصاً وبنطلوناً متواضعين فتلتفت إليه هند )
هند : ( تنادي عليه ) يا أستاذ يا حضرة
كاسب : نعم .. بتنادي علىّ
هند : أيوه
كاسب : أي خدمه
وهكذا مع كل الشخصيات سوف تقوم هند وفق مبادئ العلاج النفسي المعرفي السلوكي الحديث بمناقشة الأفكار التي أدت للعزلة والاتجاه نحو الصمت لدى كل شخصية وكأنه العلاج الفردي .
وعلى الرغم من أن العلاج بالكلام أكثر شيوعًا ، إلا أن العلاج الحديث الجماعي يمكن أن يكون فعالًا أيضًا. في العلاج الجماعي التقليدي ، تلعب المجموعة دورًا رئيسيًا وبخاصة ما يعرف بالسيكودراما وهي العلاج النفسي الجامعي بالتمثيل ولعب الأدوار المختلفة لمواجهة الصراعات النفسية . وتعرف باسم البيئة العلاجية داخل المجموعة التي توفر الشعور بالسلامة. في بيئة آمنة وداعمة لبث الثقة ، ويمكن لأعضاء المجموعة في كثير من الأحيان التعبير عن المشاعر ، ومواجهة سمات الشخصية السلبية الخاصة بهم ، وتجربة التغييرات السلوكية. لزيادة الثقة التي قد تتطور من رؤية الآخرين وهم يحاربون بنجاح قضاياهم الخاصة.
وهنا اعتمد المؤلف في بعض المشاهد على تلك الجلسات الجماعية للعلاج النفسي كما في مشهد الحلفة الذي يضم مجموعة الشخصيات – هند وماجي وفتوح ورئيس القسم - :
"جانب من حفل صاخب .. موسيقى تملأ المكان .. رقص .. مشروبات .. ناس يتكلمون ويتهامسون ويضحكون .. ( تدخل ماجي تمسك هند من يدها )
ماجي : ادخلي ادخلي يا حبيبتي
هند : ناس رايقه بصحيح
( يقترب منهما رجل وإمرأة يرقصان )
وعندما يحث التعاطف الوجداني بين المعالج والمرضى النفسيين من جهة هند من حيث قبول فكرة العزلة والصمت تجيئ لحظة الاستبصار النفسي عن طريق فعل الثورة – الكلام – وكأن الكلام هنا كان العلاج النفسي الجماعي للجموع المحتشدة في الشوارع والميادين :
رئيس القسم : ( بإنفعال ) فيه ثوره قامت في البلد والدنيا مقلوبه والمظاهرات في كل حته
هند : ( غير مصدقة ) ثورة إيه ! إنت خرفت ولا إيه !
رئيس القسم : أنا ما بخرفش .. دي الحقيقه
هند : تلاقي المظاهرات دي بتاعة مشجعين الكوره
رئيس القسم : ياستي لأ .. كورة إيه .. دي ثوره بجد والناس كلها في الشوارع والميادين في كل المحافظات
( تُسمع أصوات الثوار : عيش .. حرية .. عدالة إجتماعية )
والتأكيد على أن الصوت وهو المقابل والمضاد للصمت مع ابدال حرف الميم إلى واو كان فيه الشفاء الجماعي فالصوت يعني الكلام والكلام يعني الفعل والمطالبة بالحقوق الثلاثة : عيش .. حرية .. عدالة إجتماعية. ، ولا أدل من أن الصوت في العملية الإنتحابية وهو المعبر عن الشخص أيضا يكون هو الفارق بين الكاسب والخاسر فاختزال الإنسان في صوت انتخابي أي رقم يعبر عن قيمة ودلالة الصوت كذلك، وتخرج الجماعة المنعزلة الصامتة للمشاركة في الكلام وإعلاء الصوت :
هند : لازم أبلّغهم يمكن ييجوا معانا .. وكمان اخد اجازه .. آه مافيش
حاجه مضمونه ( تدخل هند مع الأموات وتعود ومعها كاسب ومروه
وماجي وكوكو .. أما الرجل العجوز فيطل برأسه من خلف الأحجار )
ثم تكون حالة الشفاء شبه التام حين تتحرك جماعة الصامتين نحو الفعل بعد إضافة مطلب رابع جديد وهو الكرامة الإنسانية :
العجوز : أنا أقول لك يا بنتي .. الموت عندنا يعني الصمت .. ما دُمنا مُهمشين ومش عارفين نعيش عيشه كريمه يبقى الموت أفضل .. فهمتي
هند : أيوه فهمت .. يا سلام عالفلسفه ! يلا بينا يا جماعه ( يبدأون الخروج )
العجوز : مع السلامه ياولاد .. ربنا معاكم .. لو شوفتم مراتي ماحدش يقول لها على مكاني .. ربنا معاكم .. خدوا بالكم من نفسكوا يمكن التغيير ييجي على إيديكوا والأحوال تتحسن .. ربنا معاكم ربنا معاكم
( تُسمع أصوات الثوار )
"عيش ، حرية ، عدالة إجتماعية ، كرامة إنسانية "


-------------
ندوة حزب. الوفد بمشاركة اعلام الادب والثقافة ا. مختار عيسى وا. محمود الشربيني وادارة د. محمد عبدالجواد برعاية الاديب والسياسي ا. سامي سرحان


1654969319107.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى