ظلمة الليل وهمس الأشجان تغشيان القلوب المسكونة بالآلام . تسقيان آهاتها البائسة بدموع حرى… أصوات الانفجارات والرصاص تهدر سكون الليل فتضيء السماء بشرر شظاياها المتطاير وتثير الرعب في النفوس . . نوح ينذر بطائر الموت يحوم فوق الرؤوس تترنم به شرار الشياطين الأنسية وتهلل له لتنشر إرهابها بين الأرواح البريئة فتهين المقدسات وتدوس الرحمة بوطأتها الفاجرة ؛ يسفكون الدماء الزكية ويعلنون انفسهم آلهة لدمار وشرمستطير ؛ فيسكن نبض الحياة وتهان المقدسات حتى تغدو بلدتنا طقوساً معتمة للأشباح و أكوام من النفايات والقاذورات وتجمعات لقساة القلوب من مصاصي الدماء وقطاع الطرق وأمست الذكريات الجميلة فيها غريبة لامكان لها بين نعيق الغربان فأتخذ الناس هامش الحياة وطناً يلعقون فيه جراحهم وهناك في ظلمة الأزقة تحت ظلال الفقر ارملة عانت ما شاء لها ان تعاني ، كانت ترتدي السواد دائماً، لون تتوارى خلفه اوجاع تعبق برائحة الموت فيتردد صدى عزائها بين بقايا اطلال نفسها المعذبة، لم تستطع مسحة الجمال المتبقية على سمرة وجهها من إخفائه . تدخل غرفة علق في اعلى مدخلها لوحة دون عليها ( طبيب الأمراض النفسية والعصبية ) وبناتها الثلاث يتبعن خطواتها وكأنهن استنساخ مصغر لها ؛ يرتدين السوادوتبدو على وجوههن سحابة حزن غريب وأيحاءات لقهر دفين في اعماق نفوسهن المرتابة ، فيدعوهن الطبيب من خلف مكتب عيادته للجلوس مردداً عبارات الترحيب فتجلس الام قبالته على كرسي مقابل لمكتبه بينما جلست البنات الثلاث على أريكة جانبية . كرر الطبيب عبارات الترحيب ثانيةً محاولاً ان يفك طلسم الشجن والوجوم الذي بدى على مريضاته وهو أسلوب أعتاده مع مرضاه كجزء مهم وضروري في عمله الذي يمليه عليه تخصصه فلاحظ عكس ماكان قد اعتاد عليه فلا أستجابة لاحت منهن سوى صمت مطبق ونظرات غريبة غير مبالية بشيء حولها ، نظرات تائهة تتوارى خلفها هواجس حزن خرساء تشخص في مكان وزمان مجهولين ، تشخص بعيداًبعيداً بلا قرار . فتترك خلفها متاهةً بائسة لفراسة طبيب يعيش في بلاد منسية لم تأبه لها الحياة، حتى تخترق المكان صرخة مفاجئة من اليتيمة الصغرى فيخترق صداها الاليم جدران المكان والقلوب فيسعى سعيه مع الأرملة لتهدئة الطفلة العليلة فيقدم لها الماء ويبذل جهده لخلق لحظة طمأنينة حتى تعود الطفلة الى سكينتها وينتبه الى الأرملة وكأنه يدعوها للبوح بكل شيء فتطرق الأرملة بوجهها الى الارض وكأنها تناجي نفسها بصوت منخفض : – خفق قلبي في تلك الليلة فلم تهدأ نفسي المرتبكة من خوف مجهول ، خوف لا استطيع البوح به لمن حولي ؛ وصراخ ابكم ملأ صداه خيالي . صراخ ينبىء بفجيعة الزمن الآتي من عمري المبعثرة أوصاله بمرارة في هاوية الفجيعة . تمر لحظات مثقلة بالظلام لتوصلني الى ساعة الفزع المرعب يدق بابنا ليلاً تتبعه بلا هوادة أصوات الرصاص المتطايرة شظاياها في المكان ليملاء الأرواح فزعاً يبدد أحلامهما البريئة ويحيلها الى صراخ مرعب ، لحظات لم أتصورها ، وكم تمنيت ودعوت ربي ان يكون ماأراه جنوناً قد أصابني او كابوساً سينتهي ولم أتصور يوماً ان تقصر اجنحتي عن حماية أسرتي فقد كنت أظن اني قادرة على تحطيم الاهوال من اجل حمايتهم من كل شيء … ثم اطرقت الأرملة قليلاً وأجهشت بالبكاء فانهمرت دموع غزيرة من عينيها وهي تواصل حديثها :- عيناي تنظران اليهم ، و قلبي يخفق بقوة ،كانوايذبحون زوجي وأبنائي ، لم يأبهوا الى صراخي وتوسلي بهم …. تمزق قلبي فزعاً ورعباً وانا أشاهد زوجي واولادي يسبحون بدمائهم ، بلى رأيت رعشة الموت الاخيرة تسري في أجسادهم المذبوحة ، و كان صراخ بناتي ليس له حدود ، صرخن بجنون حتى فقدن وعيهن تماماً ، وعندها احسست ان اقدامي عاجزة عن حمل جسدي المنهك ؛ اطرافي مشلولة ومعطلة لا تتحرك وانعقد لساني فلم استطع مواصلة صراخي وغشتني ظلمة حسبتها غشاوة الموت جعلتني اسقط على وجهي أرضاً فتحسست حينها لزوجة الدماء التي ملأت أرضية المنزل . حينماأفقت من أغماءتي بعد يومين وجدت نفسي راقدة في المشفى ؛ ترقد بناتي على أَسرّةٍ حولي ، إحداهن فقدت النطق ، والأخرى لا يفارقها الصراخ ، فهي تصرخ بجنون ليلاً ونهاراً ؛ والثالثة تقضي الليل بكاءاً لاتعرف للنوم سبيلاً . ثم رفعت الأرملة عينيها الى الطبيب لتعرف منه السبيل الى الشفاء فرأت تساقط الدموع من عينيه وقد اختفى صوته بنبرة بكاء حزينة حاول اخفائها دون جدوى …