رأيت فيما يرى النائم: احترقت ذبالة لمبة الغاز اليتيمة في بيتنا، تكون فرصة لنعاود حديث الذكريات المتسربة، ساد الصمت جوانب البيت، تسلل الجميع إلى حجرة النوم التي تآكلت حوائطها؛ يترك الزمن أثره كما الغول، ألوانها كالحة باهتة، صحف ملصقة لنتقي بها قيح الرطوبة، يتناثر كل آونة على وجوهنا البائسة غبار سوس الخشب من سقف بيت منزو، لم تكن لدينا سعة في الأمكنة، يحدث كل هذا رغم أن ثمة شعورا بسعادة مختفية بين لبنات البيت، تدحرجت أشباه الكائنات البشرية، كيفما اتفق تداخلت الأجساد، كنا نرتدي ثياب بعضنا؛ لا فرق بين البنين والبنات، حين ذاك بدأت الهواجس تتداعى، منا من حلم بقطعة لحم وآخرون يحلمون بالعيد؛ في صباحه ترتدي الدنيا ثوبا جديدا، أتذكر أول جلباب اشتراه لي أبي، كنت مزهوا به، جريت في الشوارع، أريته كل أطفال الحارة، نسيت أن أنتعل الحذاء، ثمة تجاويف تمر منها زواحف الأرض السبخة.
يمتد الحلم حتى يعم الليل فينقص ظلامه شيئاً قليلاً لكنه يعاود بعثرة ثماره المرة، نحن في بلاد تقتات الحنظل وتشرب القذى.
وجوه الراحلين تظل شاخصة في ذاكرتي، يترك الكبار في ذواتنا امتدادا لا ينقطع، لم يكن غريبا أن ينادى علي بالفتى الأرنب؛ شفتاي تصدران صفيرا يتخلل كلامي، تراقصت فوق الكيمان عنزة انفلت حبلها، جارات أمي تهب الصغار حبات الفول النابت، تسلقت جذوع أشجار الكافور، تبدو البيوت كهوف موتى!
لكن ذلك الحلم تخللته هواجس: مرض غريب أصاب أنفي فتضخم كثيرا، يمتد إلى مسافة البصر، فأر أسود تقافز فوق كتل أجسادنا المتخشبة.
حتى جلبابي المعد ليوم العيد به ثقوب يوصل بعضها إلى سرداب في باطن الحجرة الطينية؛ وقفت عند مدخله فوجدت ضفادع تؤدي رقصة عجيبة، ترتدي تنورات بيضاء، يطير فوق رأسي عنكبوت غريب، يرمي بشباكه حولي.
تبتسم من بعيد، لها وجه أشبه بقرص القمر، تحاصرني أطياف ذلك الزمن المحمل بخيالات الحب، عثرت على قصاصة يفوح منها عبق وردة مجففة، من يعيد إلي الكراسة التي تماوجت فيها حروف قلمي الرصاص؛ أرسم نخلة تتدلى منها عناقيد البلح الحمراء؛ الجوع يحاصرني فأشتهي الشبع بتلك الأوهام.
يضغط على صدري كابوس ثقيل، ترتفع أنفاسي ويتتابع نبض قلبي المعتل.
لم تكن لدي فرصة لأرقب الغد، تترآى نجوم الليل من بعيد، فات قطار الصحافة المتعبين، يضرب صرير الجنادب في كل مكان، تخرج وجوه كالحة من بين مصاريع الأبواب الخشبية، تعود الخيبة محملة ببؤس الجوعى الذين تدور أمعاؤهم أشبه برحى تذرو الريح كل ما تسف من رمال الصحراء.
كلاب سوداء تنبح في الظلمة؛ تلك فرصتها الثمينة لتنغرس أنيابها في جلدي الذابل، أتحسس جسدي المكوم كأنه كرة يتقاذفها الصغار، أحرك أصابع قدمي.
ترقب عيني اليوم المنتظر؛ يتوارى بل يمعن في التخفي جراء التعجل؛ إنه كالعنب متحصرماً قبل أوانه، لأجل هذا انطفأت ذبالة مصباح الغاز، ضربتنا العتمة من كل ناحية؛ يبدو أن الكهف سيضم الفتية سنين عددا!
هل حقاً يحرم على الذين امتلأت بطونهم بالوهم أن يشربوا ماء الورد؟!
حتى الآن لم تعرفوا السر الخفي؛ فتاتي وراء تلال ترتفع حاجزة صورتها، مؤكد أنها من هؤلاء الجميلات ممن مروا في وجوهنا غير آبهين بما يدور في قلوب تعرف الحب.
يوم أن تشوف الناس لرؤية الصورة حلوة أبت الغربان إلا تنسج خيوطها بسواد أجنحتها؛ حتى تمضي ساعات الليل رتيبة إلا من تلك الأقدام الكالحة، كل الأمكنة أقبية صخرية، كتل اللحم البشري دون بطاقة هوية، هل كتب على الجوعى أن يبقوا بلا رغيف ومحبرة خاوية؟
ربما يبقى هذا لعقود قادمة، فالجهل حمق، قطار البائسين يشكو حمله، تخرج نغمة الناي حزينة، حمام الأبراج افترسته ثعالب البر.
أخط كل آونة بقلمي؛ أكتب الحكاية من بدايتها، اقترب السطر الأخير، مؤكد أن به رسالة إلى الحالمين برغيف مغموس في لبن شياه ترعى في حقول قمح عربي!
لم تظهر الشمس في السماء كعادتها، لم أشأ أن أخبركم أنني الليلة الفائتة قد نمت بما فيه الكفاية، حين صحوت لم أجد العصافير تصدر زقزقتها المعتادة، المرأة التي نبتاع منها طعام الصباح ما تزال قدرة فولها صامتة، ثمة كلب أسود يصدر نباحه لكنه على أية حال نباح متقطع يشي بأنه يعاني من مرض، الذين يسكنون في البناية المقابلة لي اعتادوا أن يمشوا على أطرافهم، يتقافزون في زهو، هذا اليوم تناسوا صخبهم، يبدو أنهم يبحثون عن سر ما حدث ، أدرت محرك البحث عن قناة للأخبار؛ لقد كان التيار الكهربائي منقطعا، ساعة الحائط توقفت عن الدوران؛ يبدو أنني أنسيت أن أبدل بطاريتها الجافة؛ لا تكف زوجتي عن تنغيص يومي بتلك الأشياء البسيطة، علي أن أؤدي دوري على مسرح الحياة الزوجية بمهارة وإلا سأجد من حماتي تأنيبا قد يصل إلى حد اتهامي بالتقصير، في المرة القادمة حين تأتي الشمس سأفعل كل تلك الواجبات.
أتحسس خطواتي ناحية النافذة فأتعثر في آنية وبقايا لعب صغيرتي، أسمع صوت رجل وامرأة يتبادلان الشكوى من نفاد راتبهما الشهري سيما والعيد على الأبواب، أتذكر ثياب طفلتي الصغيرة، قطع الحلوى، نقود جديدة للعيدية، هل ما تزال الشمس غائبة؟
يداهمني برد شديد يرتجف منه جسدي، تتساقط المياه على زجاج النافذة؛ يبدو أن فصل الشتاء قد أتى فجأة.
حاولت أن أوقظ زوجتي، أوصتني أن أدعها تنام ساعة على الأقل، يتعبها العمل، أخشى ألا تشاركني ذلك الحادث؛ أن تتأخر الشمس فهذا وحده نذير شر لا يمكن تحمل تبعاته وحادثة لا يمكن السكوت عليها، فكرت أن أدق بملعقة الطعام أو مطرقة الهاون النحاسية أن أفعل شيئا ليصحو الجيران، ومن ثم نتدبر أمر الشمس السادرة في نومها حتى تلك الساعة، دون توقع عاود التيار الكهربائي سريانه، سرى بث التلفاز، أخبار عاجلة بالنسبة إلي نمت ولم أطالعها، هيئة الأرصاد الجوية تنعى إلى المواطنين في القرى والنجوع وفي علب الصفيح أنهم لن يعود بإمكانهم رؤية الشمس في السماء؛ لقد حجبت عنهم إلى الأبد؛ سفن فضاء عملاقة تحول أشعتها.. جهة ما تقوم بدفع أموال طائلة.
يمتد الحلم حتى يعم الليل فينقص ظلامه شيئاً قليلاً لكنه يعاود بعثرة ثماره المرة، نحن في بلاد تقتات الحنظل وتشرب القذى.
وجوه الراحلين تظل شاخصة في ذاكرتي، يترك الكبار في ذواتنا امتدادا لا ينقطع، لم يكن غريبا أن ينادى علي بالفتى الأرنب؛ شفتاي تصدران صفيرا يتخلل كلامي، تراقصت فوق الكيمان عنزة انفلت حبلها، جارات أمي تهب الصغار حبات الفول النابت، تسلقت جذوع أشجار الكافور، تبدو البيوت كهوف موتى!
لكن ذلك الحلم تخللته هواجس: مرض غريب أصاب أنفي فتضخم كثيرا، يمتد إلى مسافة البصر، فأر أسود تقافز فوق كتل أجسادنا المتخشبة.
حتى جلبابي المعد ليوم العيد به ثقوب يوصل بعضها إلى سرداب في باطن الحجرة الطينية؛ وقفت عند مدخله فوجدت ضفادع تؤدي رقصة عجيبة، ترتدي تنورات بيضاء، يطير فوق رأسي عنكبوت غريب، يرمي بشباكه حولي.
تبتسم من بعيد، لها وجه أشبه بقرص القمر، تحاصرني أطياف ذلك الزمن المحمل بخيالات الحب، عثرت على قصاصة يفوح منها عبق وردة مجففة، من يعيد إلي الكراسة التي تماوجت فيها حروف قلمي الرصاص؛ أرسم نخلة تتدلى منها عناقيد البلح الحمراء؛ الجوع يحاصرني فأشتهي الشبع بتلك الأوهام.
يضغط على صدري كابوس ثقيل، ترتفع أنفاسي ويتتابع نبض قلبي المعتل.
لم تكن لدي فرصة لأرقب الغد، تترآى نجوم الليل من بعيد، فات قطار الصحافة المتعبين، يضرب صرير الجنادب في كل مكان، تخرج وجوه كالحة من بين مصاريع الأبواب الخشبية، تعود الخيبة محملة ببؤس الجوعى الذين تدور أمعاؤهم أشبه برحى تذرو الريح كل ما تسف من رمال الصحراء.
كلاب سوداء تنبح في الظلمة؛ تلك فرصتها الثمينة لتنغرس أنيابها في جلدي الذابل، أتحسس جسدي المكوم كأنه كرة يتقاذفها الصغار، أحرك أصابع قدمي.
ترقب عيني اليوم المنتظر؛ يتوارى بل يمعن في التخفي جراء التعجل؛ إنه كالعنب متحصرماً قبل أوانه، لأجل هذا انطفأت ذبالة مصباح الغاز، ضربتنا العتمة من كل ناحية؛ يبدو أن الكهف سيضم الفتية سنين عددا!
هل حقاً يحرم على الذين امتلأت بطونهم بالوهم أن يشربوا ماء الورد؟!
حتى الآن لم تعرفوا السر الخفي؛ فتاتي وراء تلال ترتفع حاجزة صورتها، مؤكد أنها من هؤلاء الجميلات ممن مروا في وجوهنا غير آبهين بما يدور في قلوب تعرف الحب.
يوم أن تشوف الناس لرؤية الصورة حلوة أبت الغربان إلا تنسج خيوطها بسواد أجنحتها؛ حتى تمضي ساعات الليل رتيبة إلا من تلك الأقدام الكالحة، كل الأمكنة أقبية صخرية، كتل اللحم البشري دون بطاقة هوية، هل كتب على الجوعى أن يبقوا بلا رغيف ومحبرة خاوية؟
ربما يبقى هذا لعقود قادمة، فالجهل حمق، قطار البائسين يشكو حمله، تخرج نغمة الناي حزينة، حمام الأبراج افترسته ثعالب البر.
أخط كل آونة بقلمي؛ أكتب الحكاية من بدايتها، اقترب السطر الأخير، مؤكد أن به رسالة إلى الحالمين برغيف مغموس في لبن شياه ترعى في حقول قمح عربي!
لم تظهر الشمس في السماء كعادتها، لم أشأ أن أخبركم أنني الليلة الفائتة قد نمت بما فيه الكفاية، حين صحوت لم أجد العصافير تصدر زقزقتها المعتادة، المرأة التي نبتاع منها طعام الصباح ما تزال قدرة فولها صامتة، ثمة كلب أسود يصدر نباحه لكنه على أية حال نباح متقطع يشي بأنه يعاني من مرض، الذين يسكنون في البناية المقابلة لي اعتادوا أن يمشوا على أطرافهم، يتقافزون في زهو، هذا اليوم تناسوا صخبهم، يبدو أنهم يبحثون عن سر ما حدث ، أدرت محرك البحث عن قناة للأخبار؛ لقد كان التيار الكهربائي منقطعا، ساعة الحائط توقفت عن الدوران؛ يبدو أنني أنسيت أن أبدل بطاريتها الجافة؛ لا تكف زوجتي عن تنغيص يومي بتلك الأشياء البسيطة، علي أن أؤدي دوري على مسرح الحياة الزوجية بمهارة وإلا سأجد من حماتي تأنيبا قد يصل إلى حد اتهامي بالتقصير، في المرة القادمة حين تأتي الشمس سأفعل كل تلك الواجبات.
أتحسس خطواتي ناحية النافذة فأتعثر في آنية وبقايا لعب صغيرتي، أسمع صوت رجل وامرأة يتبادلان الشكوى من نفاد راتبهما الشهري سيما والعيد على الأبواب، أتذكر ثياب طفلتي الصغيرة، قطع الحلوى، نقود جديدة للعيدية، هل ما تزال الشمس غائبة؟
يداهمني برد شديد يرتجف منه جسدي، تتساقط المياه على زجاج النافذة؛ يبدو أن فصل الشتاء قد أتى فجأة.
حاولت أن أوقظ زوجتي، أوصتني أن أدعها تنام ساعة على الأقل، يتعبها العمل، أخشى ألا تشاركني ذلك الحادث؛ أن تتأخر الشمس فهذا وحده نذير شر لا يمكن تحمل تبعاته وحادثة لا يمكن السكوت عليها، فكرت أن أدق بملعقة الطعام أو مطرقة الهاون النحاسية أن أفعل شيئا ليصحو الجيران، ومن ثم نتدبر أمر الشمس السادرة في نومها حتى تلك الساعة، دون توقع عاود التيار الكهربائي سريانه، سرى بث التلفاز، أخبار عاجلة بالنسبة إلي نمت ولم أطالعها، هيئة الأرصاد الجوية تنعى إلى المواطنين في القرى والنجوع وفي علب الصفيح أنهم لن يعود بإمكانهم رؤية الشمس في السماء؛ لقد حجبت عنهم إلى الأبد؛ سفن فضاء عملاقة تحول أشعتها.. جهة ما تقوم بدفع أموال طائلة.