قطرة واحدة، وحيدة، تخترق تلك الفضاءات الضيقة والمتعرجة، لأغصان شجرة النيم العتيقة، في دارك، التي بلا سور يمنعك من رؤية السابلة، وقطيع الأبقار، في مشوارها الصباحي إلى الخور، وأوبتها في المساء.. وإذ كنت غارقاً في موتك الصغير، في تلك الساعة، من أصيل بلدة (قلّوج)(1) على سرير عتيق، وكما لو أنها صوت مؤذن يمزق سكون السّحر ويعيد رتقه، استقرت تلك القطرة على جبهتك لهنيهة، ريثما تتأكد من هروب كائنات حلمك الشريرة، ثم وهي تهمّ بالانحدار إلى فوديكَ، تلقفها الهواء الساخن فصارت أثراً بعد عين!.. ستعود ثانية، كي تهمي، وتوقظ شخصا حالماً وواهماً مثلك، أو تنبت شوكاً ويقطيناً، في مكان ما من تلك البلاد الحزينة.. تصحو مفزوعاً وتنظر حولك. تجلس في منتصف السرير، وترمح عيناك إلى أعلى، محاولاً تتبع مسار تلك القطرة؛ الريح الخفيفة القادمة من جهة القرضة(2)، والتي تحررت من غبارها العالق بفعل عبورها غابة السنط المحيطة بالخور، أخذت تحرك أغصان الشجرة التي ترقد تحتها ما تزال، بعد أن تبخرت على جبهتك تلك القطرة. تضحك بلا صوت، في داخلك ، الذي يهتم للتفاصيل الصغيرة، ويهمل تلك الكبيرة..
كنت في إحدى جولاتك الليلية بأطلال البلدة القديمة، كان القمر بدراً مكتملاً. والسكون التام وهدأة منتصف الليل تتيحان لك قدراً كبيراً من تأمل الحياة بعد أن غادرها ضجيج النهار. مررت بمنزل طينيّ متهدّم، عدا أسواره العالية، والنصف الأسفل من حجرة واسعة، تطلّ نافذتها الوحيدة على الطريق الرمليّ الضيق؛ ففكّرت:" بحجمها هذا وقربها من الباب، يبدو عليها أنها كانت للجلوس واستقبال الضيوف؛ وتخيلت شكل الحياة في تلك الدار... المسرّات نادرة الحدوث، المسرّبة من تجاويف الخوف والقلق، الأحزان الموغلة في تراجيديتها؛ الزغاريد، العويل، وتلك الصراعات الصغيرة، ومشاعر الحب، والغيرة، والحسد، القصائد التي قيلت، وأغاني البنات على إيقاع الدفوف، في مواسم الخصب والـ ( درت)(3) . . وفي المسافة غير محددة العوالم، بين الحقيقة والخيال، تناهى إلى سمعك غناؤهنّ :
" يي إتهدّيو شايب.. شايب حتّي فليتو"(4)..
ثمّ وبإيقاعٍ أسيان:
" دنقير (5)يي موتا.. دنقير قيسا هيكوتا"
وكنت قد توغلت في مسراكَ، بلغت آخر الحي المتهدم، بعد أن أعدت بناء كل الدور، دارً داراً ؛ رفعت طينهاالملقيّ مذ أمدٍ بعيد، مسدت على حواف طوبها، نفختَ هواءً مكبوتاً من داخلك، فككت أسارها، تمسح عنها غبار السنين المتعبة بالعوز والذل والمهانة، رصفت الشوارع وحتى الأزقة، ثم أضأتها بالنيون، وأقمت صهريجاً ضخماً للمياه، ثم عمدت إلى تلك الساحة المكدّسة بالنفايات، والتي قال لك عنها حمدان النوايمي(6)، بحنين جارف، ذات نهار صيفيّ قائظ:
" إييييييييه!! الفسحة دي اتدقت فيها جِنس دلّوكة!"(7)..
مسحتها ببلدوزر، وأقمت عليها روضة للأطفال، ومكتبة عامة، وزينت باحتها بالعشب وأزهار صباح الخير، وأطرافها بالنخيل، وقفلت راجعاً إلى دارك؛ بيد أنك توقفت قليلاً عند أول الطريق، في مواجهة ذلك المنزل الطيني؛ ابتدعت لأصحابه أسماء وأعماراً ومهناً يمتهنونها... جعلت ربة المنزل بائعة للبن الرائب، تخرج كل صباح إلى مكان يقع على خاصرة سوق البلدة، وتعرض بضاعتها في ظلال ( شجرةالروب) (
.. سمراء نحيفة، لها ابتسامة آسرة.. راقصة بارعة.. تقترب من عقدها الخامس. رب الأسرة محمود، ستيني،يعمل مزارعاً، يتذمّر أحياناً على عكس زوجته (كِشّوت) البشوشة..ثم أنّ الوسامة التي تشي بها ملامحهما جعلتك تفكر:
" كم ستكون جميلة وفاتنة تلك الابنة التي ينجبانها!!" ..
ورأيت الشباب يتوددون إليها؛ في طريق عودتها من الدرس، وفي الطريق إلى الخور لجلب الماء، ثم وهم يتوافدون الواحد تلو الآخر إلى دارهم هذي لخطبتها. وبينما أنت في استغراقك في تلك الأزمنة التي خلت، انتصب شعر رأسك فجأة، وأخذ قلبك في الوجيب.. تسارعت نبضاته، وتصبب منك العرق غزيراً، وتراخت ركبتاك؛ بالكاد، استطعت انتزاعكَ من اعتمال الخوف المباغت، وغادرت المكان، والقمر يدخل سحابة رمادية اللون، لها شكل فرس ضابح. في صباح اليوم التالي سألت عم شندي عن تفسير لما اعتراكَ. قال لك:
" جاء إلى المكان أو بالقرب منه ذئب!"..
ثم استرسل - لمزيد من الايضاح، ورغبة منه في سرد ذكرياته - يحكي لك عن مغامراته في أدغال سيتيت(9)، وبادميت(10)؛ كان في شبابه الباكر، يتعارك مع النمور ويصرعها بخنجره؛ إنتهى به الحال بعد أن طعن في السن إلى بنّاء لأكواخ الطين والنال.. ينهض في ساعات الصباح الأولى.. يحتسي قليلاً من الـ (آيفا )(11) ، ويمضي إلى عمله بنشاط وهمة صبيّ صغير.. وحين يعتلي قمة الكوخ، يصدح بالغناء بصوتٍ جميل، طروب، لا يتناسب وسنينه الثمانين التي عاشها.. كيف احتفظ بحنجرته سليمة؛ كيف لم يطالها الكبر؟!.
تهدأ الريح قليلاً أو تضعف، فلا تستطيع عبور غابة السنط على ضفتي الخور. تكف أغصان الشجرة عن التأرجح. تلمح زوجاً من الغربان يهبطان على شجرة التبلدي المعمرة، على يمينك، اقتربا من بعضهما، وخمّنت أنهما سيمارسان العشق على الهواء الطلق، وسيرى من يقطنون في الجوار ذلك، أو من هم/ هنّ على الطريق إلى الخور لجلب الماء؛ سيكتب المراهقون رسائل تمور بالصبابة والوجد إلى حبيباتهم، وستردّ الصبايا البيتيّات، المطهّمات، على تلك الرسائل،يختمنها بقلب كيوبيد المخترق بسهمٍ مشتعل، وقد يعمدن إلى تعطير رسائلهنّ،وسيتذكر المتزوجون نشاطهم البيولوجيّ الأعظم، الذي نسوه في غمرة معركتهم ضد الخوف والقلق والترقب، وستعم فضاء المكان رائحة دخان الطلح والهشاب وعطور خلاسية صريحة النطق. سيزرع الرجال بذورهم في أرحام زوجاتهم؛ ستنمو البذور أطفالاً رائعين، وسيبدؤون الحبو فالمشي ، وتعلمهم أمهاتهم الكلام..ثم.. يا للأسى!.. سيشهدون آباءهم يذهبون إلى الحقل صباحاً ولا يعودون أبداً. سرب لقالق يطير على ارتفاع منخفض، يأخذك بياضه الحليبي في مقابل لون السماء الكالح، المنذرة بالمطر، هبط بعضها على شجرة التبلدي، وأحاط بزوج الغربان، اللذين ألجمتهما المفاجأة، وأصدرا نعيقاً خافتاً أشبه بشهقة صنبورٍ ضنين، وطارا؛ ولدهشتك، طارت اللقالق خلفهما!.
الوقت قبيل الغروب بنحو قُبلتين ونصف، والسماء ملبّدة بغيوم داكنة تشقها البروق بين الفينة والأخرى.. شيئاً فشيئاً تأخذ الريح في التصاعد، كسيمفونيه، قادمة هذه المرة من جهة ( شَنْدا شِنا)(12) في أقاصي الصعيد الجوّاني؛ رائحة المطر تنفذ إلى دواخلك المتهرّئة/ المتشظية بالأسئلة الناصلة، فتنعشها، وتخمّن أنّ قرى وبلدات أم حجر، وأم علوبة، وصابوناي ، تمطر الآن، حيث يحلو للصوص الماشية في تلك الاصقاع؛ القادمين من وراء النهر، في هذه الساعة، سرقة كل ما تطاله أياديهم، مستغلين انشغال الرعاة الشجعان بتأمين أكواخهم التعيسة. تمور البلدة بحراك سريع ومتواتر؛ تُقفل النوافذ، وتُسد الثقوب في الأسقف وما يلي الأبواب في بيوت الطين، تتصايح النساء بأسماء اطفالهنّ واخوتهنّ الصغار، وتسمع بوضوح صوت جارتك عليّة، والتي تدعوها أنت – في سرّك – عليّة العالية، لطولها الفارع.. تسمعها تصيح:
ـ " يا وِلِيد(13).. يا علي! "..
ـ " وين أختك؟! "..
قدمت إلى البلدة للاعتناء بشقيقها الأرمل وأطفاله، أنثى باذخة الجمال كانت، وكانت على وشك الزواج، حين، وعلى حين غرة، اختفى شقيقها، ابتلعته تلك الأعين التي لا تنام أبداً، والتي تفضي قيعانها العميقة، دوماً، إلى مغارٍ وسراديب تحت الأرض.. تأتي كل صباح إلى مركز الشرطة، بوجه غادره البهاء وغار ماؤه، تسأل عن شقيقها، ويجيبها أولئك المتنطعون، بذات الإجابة، دوماً، بعد أن يستل أحدهم مسواكه من درج مكتبه،أو التجويف الناتئ بين أذنه وعظام جمجمته، ويستاك قليلاً دون أن يخطئ لحظة واحدة فيبتلع نتف المسواك. من مكان بعيد، تفشل في تحديده بالضبط، تنقل الريح إليك، نغمة حزينة، فينقبض قلبك، كان أحدهم يعزف على ربابته، وكما لو كان يُجهش بالبكاء ( شادا تهركوي)(14)..تتشقق روحكَ كطين الأرض ، في المواسم التي يشحّ فيها الزرع والضرع.. يا ربّاه!. تضطجع على سريرك العتيق وتحاول التماسك بالهروب إلى الشعر:
" زي برق الصعيد الما بخيب"..
تحاول الامساك بصدر بيت ( الدوبيت)(15) لحمدان النوايمي، والذي انبثق في ذاكرتك كقبسٍ ناحل، ولا تفلح. تقاوم النعاس بدأب طفلٍ مشاغب حتى يتسنى لك رؤية قطعان الماشية وهي تؤوب، وتسمع خوارها بعد أن تصوى ضروعها، وتلاعب صغارها؛ لكنك تغفو.
ترى فيما يرى النائم... ساحة خالية إلاّ من لون أزرق غامق الزرقة، يزداد غمقاً مع كل نبضة قلب، كأنما هناك، في مكان ما، قوة خفية تضخ اللون الأسود فيه.. لبرهةٍ، خلتها دهراً، استقرّ اللون المستلب، على درجته تلك، من التماهي مع آخر، والذوبان فيه بخنوع، بل والتباهي بهويته الجديدة!.. ثم سطعت الشمس على نحو مباغت، فتشذّرت الألوان؛ تجمعت حمم السواد على شكل حلزوني، كزوبعة، وصعدت إلى أعلى تتلوى، الأزرق الفاتح، كمن أسقط على يده، اندلق على الأرض البور، فامتصته وطنينه الموحش بتلذذ، كأفعى تلتهم جرذاً أنهكه الفرار؛ صار المكان، الآن، خلاءً منبسطاً، تتخلله وهاد عميقة، تتنفس كما تفعل الحيتان، إذ تقذف بين الفينة والأخرى زفيرها من الصديد والدم، عالياً، تتخطفه طيور ضخمة، مناقيرها كخراطيم الفيلة، تتصايح بصوت كارتطام القطار بالقضبان، وتطير على شكل حلقات كاملة الاستدارة احتفاءً بوليمتها. تنتصب أذناك كما تفعل الأرانب، إذ تتناهى إلى سمعك أصواتاً آدمية، تخرج عن تلك الوهاد، متزامنة مع إمساك تلك الطيور عن صياحها الجماعي،أصوات خافتة، مشروخة،بدت لك كنشيد، لكنك لم تتبين كلماته.. أطرقت السمع، لكنك عوض أن تسمع كلمات، رأيت نباتات بخضرة مقيتة، تزحف على حواف الحفر، بازغة عن أغوارها السحيقة. في الخلف، هناك، في البعيد، في النقطة التي تتلاشى فيها الخطوط، ثمة ما يتحرك.. وفي المدخل، ظهر فجأة، عم شندي، كما لو أنّ موجةً ما، في بحرٍ ما، لا يُرى في المشهد، قد قذفته؛ تراه جالساً في حانة شعبية بصحبة اثنين من مجايليه،يحتسون الآيفا، ويبدو عليهم الضجر والسأم من الحياة، كرع عم شندي جرعة كبيرة من شرابه، مسح شاربه الأبيض الكث بظاهر يده اليسرى وهو يمرّربيمناه الـ ( سَكَنا كبير)(16) لمن يجلس عن يمينه، ثم قال، وكلا مرفقيه على ركبتيه، ويداه مبسوطتان إلى الأسفل:
" إن لم يكفّ هذا الشاب عن تجواله الليلي بين تلك الأطلال، ستأكله الذئاب! "..
وقال رفيقه:
" أو سينتهي به الحال سجيناً بتهمة التخابر!.." وأكمل بعد أن عبر الشراب حلقومه، واستقر في بطنه الخاوية :
" .. مع الأموات!! ".
عمّ سكون موحش، في المشهد، بعد أن اختفى عم شندي ورفاقه، همدت كل الأصوات، سكنت الريح. رويداً رويداً استطعت أن تتبين ما كان يتحرك في الخلف؛ إذ كانت مجموعة كبيرة من سكان البلدة، في ركض محموم؛ ورغم الغبار الكثيف استطعت أن تميّز حمدان النوايمي على جمله الأصهب، وعم شندي ورفيقيه، والعالية وأطفال أخيها الثلاثة، وصاحب المخبز، والممرضات، والمدرسون، ومع اقتراب ذلك الحشد من الوهاد العميقة، عادت الأصوات / النشيد المنسلّة عنها؛ لآلاف من الأحياء/ الأموات، تصرخ في وقت واحد، وبصوت واحد:
" كلّ نصرٍ طافَ في أرجاء كوبا وأنغولا وعدن
كان في الأصلِ جراحاً ودماء"(17)
اقترب الحشد، يتقدمهم حمدان النوايمي على جمله، طار الجمل بحمدان ، طار!.. طار الجميع!.. أخذوا يسبحون في الفضاء.. دخلوا في السحب الخلبية، خرجوا منها، دخلوا سحباً أخرى مطيرة، قتلت الصواعق بعضهم فسقط .. استطال شاربيّ عم شندي الأبيضين حتى بلغ كعبيه.. هاج الجمل، أرغى وأزبد، وبدا كما لو أنه يحاول التخلص من صاحبه؛ تقلّب الجمل.. دار على عقبيه.. صعد وهبط، ضمّ قوائمه الأربع إليه ومدّ عنقه أمامه.. سيسقط حمدان!.. سـيسقـ ..ريشٌ أبيض، شديد البياض، أخذ ينمو على جسد حمدان.. كما نبت له منقار طويل مكان فمه، أخذ حجمه يتقلّص/ يتناهى في الصغر، حتى صار لقلقاً، حلّق بجناحيه بعيداً.. بعيداً.. تحوّر الجميع، فوق، إلى لقالق بيضاء تحلّق صوب الشمس، صوب فضاءات رحيبة ورحيمة. الجمل الذي فقد صاحبه للتوّ أخذ صوته يتدرّج بين الهدير والأنين، حتى صار إلى الحنين واستقرّ عليه. تحت، على أديم الأرض، هبّت عاصفة لا تبقي ولا تذر؛ من الجهات الأربع هبّت، وتقاطعت في الوسط.. تناثرت بيوت الطين، والمحال التجارية، المبنية كيفما اتفق، من الصفيح والزنك والنال؛ الأسقف المنبعجة والمتطايرة تتصادم مع الأشجار الطائرة، التي انفصلت عن جذورها محدثةً دوياًّ وإرزاماً كما الرعد. في مركز الشرطة، تحرّك كبيرهم بصلفه المعتاد، صوب النافذة الزجاجية، يستطلع الأمر، رفع الزجاج، استلّ مسدسه وأطلق النار على العاصفة، ارتدّت الرصاصة إلى عنقه فأردته قتيلاً!.. الشرطيان الآخران انبطحا أرضاً، ثم أخذا يتقافزان على أرضية المكتب، وعلى الجسد المسجيّ فاغراً فاه من الرعب؛ كانا قد صارا ضفدعين!.. سيخرجان للبحث عن بركة آسنة حيث سيحلو لهما النقيق هناك، برفقة يرقات الأنوفليس..بين اصطفاقتين عنيفتين، لباب المكتب، كانت قفزتهما الأخيرة إلى الخارج، إلى الأرض التي تميد ؛ لكن يد العاصفة كانت لهما بالمرصاد، إذ قذفت بهما إلى أعلى فأخذا يتمددان، ويتمددان، حتى صار كل منهما في حجم طائرة نفّاثة، تنفثان دخاناً بلونين أصفر وأحمر.. إلتحمَ اللونان، إلتحما، فآلا إلى ثمرة يقطينة ناضجة، جعلت تدور حول محورها ككرة أرضية في مكتب مدير مدرسة كثير الادّعاء، ثم آلت هي الأخرى إلى وجهٍ بشري، بلا عنق، نزق، غضوب، تكاد عيناه تتمزقان من الغضب والعبوس، تتناسل عنه ثعابين وسلاحف وسحالي و( كعوك)(18).. من عينيه وأذنيه ومقدمة رأسه التي انحسر عنها الشعر، ثمّ أخذ الرأس يضحك ويقهقه... كلما ارتفعت وتيرة ضحكته كلما تضخّم أكثر، وترهّلت عناصره، تمدّد أكثر فأكثر، كبالون، سينفجر!.. سينفجر!.. سينفـ.. كالملدوغ تقفز عن سريرك، تسقط على الأرض مذهولاً يملؤك الرعب..السماء تمطر بنثيث خفيف..تتحسس جسدك.. أرنبة أنفك مبتلّة؛ كانت قطرة واحدة، عنيدة، مثابرة، ومراوغة قد اخترقت تلك الفضاءات الضيقة والمتعرجة، لأغصان شجرة النيم العتيقة، في صحن دارك، وسقطت على أرنبة أنفك.. تحمد الله أنها لم تكن رصاصة.
كالمقذوفِ، تدخل غرفتك، تشعل عود ثقاب، تجد حذاءك المطاطيّ، وفي الظلام الدامس تتخلص من الأشواك الناشبة في باطنه.. من النافذة المفتوحة، ومن شقوق في الجدر، رديئة البناء، كانت تتسلل روائح متخالطة من التراب المبتل وروث الابقار والقصب، وأزهار برية تكسرت بتلاتها بفعل الريح والمطر الخفيف، الذي بدأ إيقاعه في التصاعد على نحوٍ جنونيّ.. تُشعل عود ثقاب آخر، تلقي به على الجرائد المتكومة في غير ما ترتيب على المنضدة، اللهب والدخان يتصاعدان.. ينتشر الضوء الكالح في أرجاء المكان،تمسك بحقيبة يدك، تفرغها بإلقاء الكتب كيفما اتفق على أرضية الغرفة المفروشة بالرمل، تملؤها بالخبز الجاف، تُدخل قدميك في الحذاء المطاطي بعد أن جلوته تماماً من الشوك، تتأكد من متانة شسعيه، تربطهما بإحكام. تحمل حقيبتك، تمتشقها، تخرج إلى المطر، والبرق، والرعد، والريح.. تركض.. تركض.. تركض.. تطير.
كالقاري 26 ديسمبر 2021
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1ـ قلّوج: بلدة في غرب إرتريا – القاف تُنطق جيماً مصرية.أصل التسمية يرجع إلى لغة البداويت.
2ـ القَرَضة: خور في شرق السودان، بالقرب من الحدود مع إرتريا، القاف تُنطق جيماً مصرية.
3- درَتْ: موسم الحصاد.
4- من أغاني البنات بلغة التقريت ومعنى البيت هو لن أتزوج الشايب الفقير الذي يملك حولية واحدة من البقر.
5ـ دَنْقير: هو أحد أبطال الثورة الإرترية والأغنية من أغاني البنات التي قيلت عقب استشهاده منتصف الستينات ومعنى البيت: "لم يمت دنقير بل سافر إلى بلدة هيكوتا"
6- النوايمي: نسبة إلى النوايمة، وهي إحدى القبائل المشتركة بين السودان وإرتريا.
7- عامية سودانية وتعني : لقد شهدت هذه الساحة الكثير من ضرب الدفوف، إشارة إلى حفلات الرقص.
8- شجرة معروفة في سوق بلدة قلّوج، اشتهرت كمكان لبيع اللبن الرائب حتى منتصف السبعينات من القرن المنصرم، كانت تُعرف بـ ( عِجّت روب).
9- سيتيت: إسم لنهر يجري في إثيوبيا وإرتريا والسودان وهو أحد روافد نهر النيل.
10- بادَميت: إسم خور يقع في غرب إرتريا بين بلدتي أم حجر وأم علوبة يصب في نهر سيتيت.
11- آيْفا: نبيذ محلّي، يُصنع من ذرة معيّنة تُعرف بـ بازيناي، يشتهر به شعب الكُناما في إرتريا.
12- شَنْدا شِنا: إسم لمنطقة في الغرب الإرتري، تقع جنوب بلدة قَلّوج. أصل التسمية يرجع إلى لغة الكناما.
13- تصغير ولد.
14- شادا تهركوي: معزوفة بجاوية على آلة الربابة، تُعزف فقط عند الحزن، وهي خاصة بشعب البجا.
15- الدوبيت: قالب شعري سوداني.
16- سَكَنا كبير: قدح من القرع، من أواني شُرب الآيفا عند الكُناما.
17- من قصيدة للشاعر الإرتري الشهيد أحمد سعد هاشم.
18- الكعوك: إسم لحشرة شديدة الضرر بالزرع، خاصة نبات السمسم، الذي تمتص بذوره.
كنت في إحدى جولاتك الليلية بأطلال البلدة القديمة، كان القمر بدراً مكتملاً. والسكون التام وهدأة منتصف الليل تتيحان لك قدراً كبيراً من تأمل الحياة بعد أن غادرها ضجيج النهار. مررت بمنزل طينيّ متهدّم، عدا أسواره العالية، والنصف الأسفل من حجرة واسعة، تطلّ نافذتها الوحيدة على الطريق الرمليّ الضيق؛ ففكّرت:" بحجمها هذا وقربها من الباب، يبدو عليها أنها كانت للجلوس واستقبال الضيوف؛ وتخيلت شكل الحياة في تلك الدار... المسرّات نادرة الحدوث، المسرّبة من تجاويف الخوف والقلق، الأحزان الموغلة في تراجيديتها؛ الزغاريد، العويل، وتلك الصراعات الصغيرة، ومشاعر الحب، والغيرة، والحسد، القصائد التي قيلت، وأغاني البنات على إيقاع الدفوف، في مواسم الخصب والـ ( درت)(3) . . وفي المسافة غير محددة العوالم، بين الحقيقة والخيال، تناهى إلى سمعك غناؤهنّ :
" يي إتهدّيو شايب.. شايب حتّي فليتو"(4)..
ثمّ وبإيقاعٍ أسيان:
" دنقير (5)يي موتا.. دنقير قيسا هيكوتا"
وكنت قد توغلت في مسراكَ، بلغت آخر الحي المتهدم، بعد أن أعدت بناء كل الدور، دارً داراً ؛ رفعت طينهاالملقيّ مذ أمدٍ بعيد، مسدت على حواف طوبها، نفختَ هواءً مكبوتاً من داخلك، فككت أسارها، تمسح عنها غبار السنين المتعبة بالعوز والذل والمهانة، رصفت الشوارع وحتى الأزقة، ثم أضأتها بالنيون، وأقمت صهريجاً ضخماً للمياه، ثم عمدت إلى تلك الساحة المكدّسة بالنفايات، والتي قال لك عنها حمدان النوايمي(6)، بحنين جارف، ذات نهار صيفيّ قائظ:
" إييييييييه!! الفسحة دي اتدقت فيها جِنس دلّوكة!"(7)..
مسحتها ببلدوزر، وأقمت عليها روضة للأطفال، ومكتبة عامة، وزينت باحتها بالعشب وأزهار صباح الخير، وأطرافها بالنخيل، وقفلت راجعاً إلى دارك؛ بيد أنك توقفت قليلاً عند أول الطريق، في مواجهة ذلك المنزل الطيني؛ ابتدعت لأصحابه أسماء وأعماراً ومهناً يمتهنونها... جعلت ربة المنزل بائعة للبن الرائب، تخرج كل صباح إلى مكان يقع على خاصرة سوق البلدة، وتعرض بضاعتها في ظلال ( شجرةالروب) (
" كم ستكون جميلة وفاتنة تلك الابنة التي ينجبانها!!" ..
ورأيت الشباب يتوددون إليها؛ في طريق عودتها من الدرس، وفي الطريق إلى الخور لجلب الماء، ثم وهم يتوافدون الواحد تلو الآخر إلى دارهم هذي لخطبتها. وبينما أنت في استغراقك في تلك الأزمنة التي خلت، انتصب شعر رأسك فجأة، وأخذ قلبك في الوجيب.. تسارعت نبضاته، وتصبب منك العرق غزيراً، وتراخت ركبتاك؛ بالكاد، استطعت انتزاعكَ من اعتمال الخوف المباغت، وغادرت المكان، والقمر يدخل سحابة رمادية اللون، لها شكل فرس ضابح. في صباح اليوم التالي سألت عم شندي عن تفسير لما اعتراكَ. قال لك:
" جاء إلى المكان أو بالقرب منه ذئب!"..
ثم استرسل - لمزيد من الايضاح، ورغبة منه في سرد ذكرياته - يحكي لك عن مغامراته في أدغال سيتيت(9)، وبادميت(10)؛ كان في شبابه الباكر، يتعارك مع النمور ويصرعها بخنجره؛ إنتهى به الحال بعد أن طعن في السن إلى بنّاء لأكواخ الطين والنال.. ينهض في ساعات الصباح الأولى.. يحتسي قليلاً من الـ (آيفا )(11) ، ويمضي إلى عمله بنشاط وهمة صبيّ صغير.. وحين يعتلي قمة الكوخ، يصدح بالغناء بصوتٍ جميل، طروب، لا يتناسب وسنينه الثمانين التي عاشها.. كيف احتفظ بحنجرته سليمة؛ كيف لم يطالها الكبر؟!.
تهدأ الريح قليلاً أو تضعف، فلا تستطيع عبور غابة السنط على ضفتي الخور. تكف أغصان الشجرة عن التأرجح. تلمح زوجاً من الغربان يهبطان على شجرة التبلدي المعمرة، على يمينك، اقتربا من بعضهما، وخمّنت أنهما سيمارسان العشق على الهواء الطلق، وسيرى من يقطنون في الجوار ذلك، أو من هم/ هنّ على الطريق إلى الخور لجلب الماء؛ سيكتب المراهقون رسائل تمور بالصبابة والوجد إلى حبيباتهم، وستردّ الصبايا البيتيّات، المطهّمات، على تلك الرسائل،يختمنها بقلب كيوبيد المخترق بسهمٍ مشتعل، وقد يعمدن إلى تعطير رسائلهنّ،وسيتذكر المتزوجون نشاطهم البيولوجيّ الأعظم، الذي نسوه في غمرة معركتهم ضد الخوف والقلق والترقب، وستعم فضاء المكان رائحة دخان الطلح والهشاب وعطور خلاسية صريحة النطق. سيزرع الرجال بذورهم في أرحام زوجاتهم؛ ستنمو البذور أطفالاً رائعين، وسيبدؤون الحبو فالمشي ، وتعلمهم أمهاتهم الكلام..ثم.. يا للأسى!.. سيشهدون آباءهم يذهبون إلى الحقل صباحاً ولا يعودون أبداً. سرب لقالق يطير على ارتفاع منخفض، يأخذك بياضه الحليبي في مقابل لون السماء الكالح، المنذرة بالمطر، هبط بعضها على شجرة التبلدي، وأحاط بزوج الغربان، اللذين ألجمتهما المفاجأة، وأصدرا نعيقاً خافتاً أشبه بشهقة صنبورٍ ضنين، وطارا؛ ولدهشتك، طارت اللقالق خلفهما!.
الوقت قبيل الغروب بنحو قُبلتين ونصف، والسماء ملبّدة بغيوم داكنة تشقها البروق بين الفينة والأخرى.. شيئاً فشيئاً تأخذ الريح في التصاعد، كسيمفونيه، قادمة هذه المرة من جهة ( شَنْدا شِنا)(12) في أقاصي الصعيد الجوّاني؛ رائحة المطر تنفذ إلى دواخلك المتهرّئة/ المتشظية بالأسئلة الناصلة، فتنعشها، وتخمّن أنّ قرى وبلدات أم حجر، وأم علوبة، وصابوناي ، تمطر الآن، حيث يحلو للصوص الماشية في تلك الاصقاع؛ القادمين من وراء النهر، في هذه الساعة، سرقة كل ما تطاله أياديهم، مستغلين انشغال الرعاة الشجعان بتأمين أكواخهم التعيسة. تمور البلدة بحراك سريع ومتواتر؛ تُقفل النوافذ، وتُسد الثقوب في الأسقف وما يلي الأبواب في بيوت الطين، تتصايح النساء بأسماء اطفالهنّ واخوتهنّ الصغار، وتسمع بوضوح صوت جارتك عليّة، والتي تدعوها أنت – في سرّك – عليّة العالية، لطولها الفارع.. تسمعها تصيح:
ـ " يا وِلِيد(13).. يا علي! "..
ـ " وين أختك؟! "..
قدمت إلى البلدة للاعتناء بشقيقها الأرمل وأطفاله، أنثى باذخة الجمال كانت، وكانت على وشك الزواج، حين، وعلى حين غرة، اختفى شقيقها، ابتلعته تلك الأعين التي لا تنام أبداً، والتي تفضي قيعانها العميقة، دوماً، إلى مغارٍ وسراديب تحت الأرض.. تأتي كل صباح إلى مركز الشرطة، بوجه غادره البهاء وغار ماؤه، تسأل عن شقيقها، ويجيبها أولئك المتنطعون، بذات الإجابة، دوماً، بعد أن يستل أحدهم مسواكه من درج مكتبه،أو التجويف الناتئ بين أذنه وعظام جمجمته، ويستاك قليلاً دون أن يخطئ لحظة واحدة فيبتلع نتف المسواك. من مكان بعيد، تفشل في تحديده بالضبط، تنقل الريح إليك، نغمة حزينة، فينقبض قلبك، كان أحدهم يعزف على ربابته، وكما لو كان يُجهش بالبكاء ( شادا تهركوي)(14)..تتشقق روحكَ كطين الأرض ، في المواسم التي يشحّ فيها الزرع والضرع.. يا ربّاه!. تضطجع على سريرك العتيق وتحاول التماسك بالهروب إلى الشعر:
" زي برق الصعيد الما بخيب"..
تحاول الامساك بصدر بيت ( الدوبيت)(15) لحمدان النوايمي، والذي انبثق في ذاكرتك كقبسٍ ناحل، ولا تفلح. تقاوم النعاس بدأب طفلٍ مشاغب حتى يتسنى لك رؤية قطعان الماشية وهي تؤوب، وتسمع خوارها بعد أن تصوى ضروعها، وتلاعب صغارها؛ لكنك تغفو.
ترى فيما يرى النائم... ساحة خالية إلاّ من لون أزرق غامق الزرقة، يزداد غمقاً مع كل نبضة قلب، كأنما هناك، في مكان ما، قوة خفية تضخ اللون الأسود فيه.. لبرهةٍ، خلتها دهراً، استقرّ اللون المستلب، على درجته تلك، من التماهي مع آخر، والذوبان فيه بخنوع، بل والتباهي بهويته الجديدة!.. ثم سطعت الشمس على نحو مباغت، فتشذّرت الألوان؛ تجمعت حمم السواد على شكل حلزوني، كزوبعة، وصعدت إلى أعلى تتلوى، الأزرق الفاتح، كمن أسقط على يده، اندلق على الأرض البور، فامتصته وطنينه الموحش بتلذذ، كأفعى تلتهم جرذاً أنهكه الفرار؛ صار المكان، الآن، خلاءً منبسطاً، تتخلله وهاد عميقة، تتنفس كما تفعل الحيتان، إذ تقذف بين الفينة والأخرى زفيرها من الصديد والدم، عالياً، تتخطفه طيور ضخمة، مناقيرها كخراطيم الفيلة، تتصايح بصوت كارتطام القطار بالقضبان، وتطير على شكل حلقات كاملة الاستدارة احتفاءً بوليمتها. تنتصب أذناك كما تفعل الأرانب، إذ تتناهى إلى سمعك أصواتاً آدمية، تخرج عن تلك الوهاد، متزامنة مع إمساك تلك الطيور عن صياحها الجماعي،أصوات خافتة، مشروخة،بدت لك كنشيد، لكنك لم تتبين كلماته.. أطرقت السمع، لكنك عوض أن تسمع كلمات، رأيت نباتات بخضرة مقيتة، تزحف على حواف الحفر، بازغة عن أغوارها السحيقة. في الخلف، هناك، في البعيد، في النقطة التي تتلاشى فيها الخطوط، ثمة ما يتحرك.. وفي المدخل، ظهر فجأة، عم شندي، كما لو أنّ موجةً ما، في بحرٍ ما، لا يُرى في المشهد، قد قذفته؛ تراه جالساً في حانة شعبية بصحبة اثنين من مجايليه،يحتسون الآيفا، ويبدو عليهم الضجر والسأم من الحياة، كرع عم شندي جرعة كبيرة من شرابه، مسح شاربه الأبيض الكث بظاهر يده اليسرى وهو يمرّربيمناه الـ ( سَكَنا كبير)(16) لمن يجلس عن يمينه، ثم قال، وكلا مرفقيه على ركبتيه، ويداه مبسوطتان إلى الأسفل:
" إن لم يكفّ هذا الشاب عن تجواله الليلي بين تلك الأطلال، ستأكله الذئاب! "..
وقال رفيقه:
" أو سينتهي به الحال سجيناً بتهمة التخابر!.." وأكمل بعد أن عبر الشراب حلقومه، واستقر في بطنه الخاوية :
" .. مع الأموات!! ".
عمّ سكون موحش، في المشهد، بعد أن اختفى عم شندي ورفاقه، همدت كل الأصوات، سكنت الريح. رويداً رويداً استطعت أن تتبين ما كان يتحرك في الخلف؛ إذ كانت مجموعة كبيرة من سكان البلدة، في ركض محموم؛ ورغم الغبار الكثيف استطعت أن تميّز حمدان النوايمي على جمله الأصهب، وعم شندي ورفيقيه، والعالية وأطفال أخيها الثلاثة، وصاحب المخبز، والممرضات، والمدرسون، ومع اقتراب ذلك الحشد من الوهاد العميقة، عادت الأصوات / النشيد المنسلّة عنها؛ لآلاف من الأحياء/ الأموات، تصرخ في وقت واحد، وبصوت واحد:
" كلّ نصرٍ طافَ في أرجاء كوبا وأنغولا وعدن
كان في الأصلِ جراحاً ودماء"(17)
اقترب الحشد، يتقدمهم حمدان النوايمي على جمله، طار الجمل بحمدان ، طار!.. طار الجميع!.. أخذوا يسبحون في الفضاء.. دخلوا في السحب الخلبية، خرجوا منها، دخلوا سحباً أخرى مطيرة، قتلت الصواعق بعضهم فسقط .. استطال شاربيّ عم شندي الأبيضين حتى بلغ كعبيه.. هاج الجمل، أرغى وأزبد، وبدا كما لو أنه يحاول التخلص من صاحبه؛ تقلّب الجمل.. دار على عقبيه.. صعد وهبط، ضمّ قوائمه الأربع إليه ومدّ عنقه أمامه.. سيسقط حمدان!.. سـيسقـ ..ريشٌ أبيض، شديد البياض، أخذ ينمو على جسد حمدان.. كما نبت له منقار طويل مكان فمه، أخذ حجمه يتقلّص/ يتناهى في الصغر، حتى صار لقلقاً، حلّق بجناحيه بعيداً.. بعيداً.. تحوّر الجميع، فوق، إلى لقالق بيضاء تحلّق صوب الشمس، صوب فضاءات رحيبة ورحيمة. الجمل الذي فقد صاحبه للتوّ أخذ صوته يتدرّج بين الهدير والأنين، حتى صار إلى الحنين واستقرّ عليه. تحت، على أديم الأرض، هبّت عاصفة لا تبقي ولا تذر؛ من الجهات الأربع هبّت، وتقاطعت في الوسط.. تناثرت بيوت الطين، والمحال التجارية، المبنية كيفما اتفق، من الصفيح والزنك والنال؛ الأسقف المنبعجة والمتطايرة تتصادم مع الأشجار الطائرة، التي انفصلت عن جذورها محدثةً دوياًّ وإرزاماً كما الرعد. في مركز الشرطة، تحرّك كبيرهم بصلفه المعتاد، صوب النافذة الزجاجية، يستطلع الأمر، رفع الزجاج، استلّ مسدسه وأطلق النار على العاصفة، ارتدّت الرصاصة إلى عنقه فأردته قتيلاً!.. الشرطيان الآخران انبطحا أرضاً، ثم أخذا يتقافزان على أرضية المكتب، وعلى الجسد المسجيّ فاغراً فاه من الرعب؛ كانا قد صارا ضفدعين!.. سيخرجان للبحث عن بركة آسنة حيث سيحلو لهما النقيق هناك، برفقة يرقات الأنوفليس..بين اصطفاقتين عنيفتين، لباب المكتب، كانت قفزتهما الأخيرة إلى الخارج، إلى الأرض التي تميد ؛ لكن يد العاصفة كانت لهما بالمرصاد، إذ قذفت بهما إلى أعلى فأخذا يتمددان، ويتمددان، حتى صار كل منهما في حجم طائرة نفّاثة، تنفثان دخاناً بلونين أصفر وأحمر.. إلتحمَ اللونان، إلتحما، فآلا إلى ثمرة يقطينة ناضجة، جعلت تدور حول محورها ككرة أرضية في مكتب مدير مدرسة كثير الادّعاء، ثم آلت هي الأخرى إلى وجهٍ بشري، بلا عنق، نزق، غضوب، تكاد عيناه تتمزقان من الغضب والعبوس، تتناسل عنه ثعابين وسلاحف وسحالي و( كعوك)(18).. من عينيه وأذنيه ومقدمة رأسه التي انحسر عنها الشعر، ثمّ أخذ الرأس يضحك ويقهقه... كلما ارتفعت وتيرة ضحكته كلما تضخّم أكثر، وترهّلت عناصره، تمدّد أكثر فأكثر، كبالون، سينفجر!.. سينفجر!.. سينفـ.. كالملدوغ تقفز عن سريرك، تسقط على الأرض مذهولاً يملؤك الرعب..السماء تمطر بنثيث خفيف..تتحسس جسدك.. أرنبة أنفك مبتلّة؛ كانت قطرة واحدة، عنيدة، مثابرة، ومراوغة قد اخترقت تلك الفضاءات الضيقة والمتعرجة، لأغصان شجرة النيم العتيقة، في صحن دارك، وسقطت على أرنبة أنفك.. تحمد الله أنها لم تكن رصاصة.
كالمقذوفِ، تدخل غرفتك، تشعل عود ثقاب، تجد حذاءك المطاطيّ، وفي الظلام الدامس تتخلص من الأشواك الناشبة في باطنه.. من النافذة المفتوحة، ومن شقوق في الجدر، رديئة البناء، كانت تتسلل روائح متخالطة من التراب المبتل وروث الابقار والقصب، وأزهار برية تكسرت بتلاتها بفعل الريح والمطر الخفيف، الذي بدأ إيقاعه في التصاعد على نحوٍ جنونيّ.. تُشعل عود ثقاب آخر، تلقي به على الجرائد المتكومة في غير ما ترتيب على المنضدة، اللهب والدخان يتصاعدان.. ينتشر الضوء الكالح في أرجاء المكان،تمسك بحقيبة يدك، تفرغها بإلقاء الكتب كيفما اتفق على أرضية الغرفة المفروشة بالرمل، تملؤها بالخبز الجاف، تُدخل قدميك في الحذاء المطاطي بعد أن جلوته تماماً من الشوك، تتأكد من متانة شسعيه، تربطهما بإحكام. تحمل حقيبتك، تمتشقها، تخرج إلى المطر، والبرق، والرعد، والريح.. تركض.. تركض.. تركض.. تطير.
كالقاري 26 ديسمبر 2021
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1ـ قلّوج: بلدة في غرب إرتريا – القاف تُنطق جيماً مصرية.أصل التسمية يرجع إلى لغة البداويت.
2ـ القَرَضة: خور في شرق السودان، بالقرب من الحدود مع إرتريا، القاف تُنطق جيماً مصرية.
3- درَتْ: موسم الحصاد.
4- من أغاني البنات بلغة التقريت ومعنى البيت هو لن أتزوج الشايب الفقير الذي يملك حولية واحدة من البقر.
5ـ دَنْقير: هو أحد أبطال الثورة الإرترية والأغنية من أغاني البنات التي قيلت عقب استشهاده منتصف الستينات ومعنى البيت: "لم يمت دنقير بل سافر إلى بلدة هيكوتا"
6- النوايمي: نسبة إلى النوايمة، وهي إحدى القبائل المشتركة بين السودان وإرتريا.
7- عامية سودانية وتعني : لقد شهدت هذه الساحة الكثير من ضرب الدفوف، إشارة إلى حفلات الرقص.
8- شجرة معروفة في سوق بلدة قلّوج، اشتهرت كمكان لبيع اللبن الرائب حتى منتصف السبعينات من القرن المنصرم، كانت تُعرف بـ ( عِجّت روب).
9- سيتيت: إسم لنهر يجري في إثيوبيا وإرتريا والسودان وهو أحد روافد نهر النيل.
10- بادَميت: إسم خور يقع في غرب إرتريا بين بلدتي أم حجر وأم علوبة يصب في نهر سيتيت.
11- آيْفا: نبيذ محلّي، يُصنع من ذرة معيّنة تُعرف بـ بازيناي، يشتهر به شعب الكُناما في إرتريا.
12- شَنْدا شِنا: إسم لمنطقة في الغرب الإرتري، تقع جنوب بلدة قَلّوج. أصل التسمية يرجع إلى لغة الكناما.
13- تصغير ولد.
14- شادا تهركوي: معزوفة بجاوية على آلة الربابة، تُعزف فقط عند الحزن، وهي خاصة بشعب البجا.
15- الدوبيت: قالب شعري سوداني.
16- سَكَنا كبير: قدح من القرع، من أواني شُرب الآيفا عند الكُناما.
17- من قصيدة للشاعر الإرتري الشهيد أحمد سعد هاشم.
18- الكعوك: إسم لحشرة شديدة الضرر بالزرع، خاصة نبات السمسم، الذي تمتص بذوره.