كانت شمس الأصيل قد بدأت في الانحدار نحو القبورالمليئة بأرواح الموتى وأنفاسهم تلون كل السحب بمسحة قرمزية ناعمة. وكان حارس الموتى أبو كريم يقف مع معاونه أمام قبر مفتوح بانتظار ساكنه الجديد مدير عام المخزن الكبير القادم على الطريق.
بحث أبو كريم لبعض الوقت في صباح ذلك اليوم عـن مكان لائق في المقبرة المكشوفة في العـراء فلم يجد إلا تلاً مفرداً عليه صبارة وحيدة. سأل معاونه عـن اتساع الحفـرة. فقال له: أحفر متر مو أكتر.
سار مروان وهو يذرف الدموع الملوثة خلف نعش المدير العجوز المحمول فوق أكتاف عدد من السائقين والعاملين في تنظيف المخزن يتقدمهم الشيخ كربوج بصوته الأجش ووجهه الدميم ينادي أهالي الديرة الطيبين لقراءة الفاتحة على روح الفقيد الطاهرة، وأن يسامحوه عما مضى! أخذوه إلى حارات المدينة القديمة التي تتساقط على ارصفتها أزهار الياسمين، وتمهلوا في سيرهم في كل الأماكن التي تعّود أن يجلس فيها.
كان مروان يلطم وجهه ويضرب صدره طوال الطريق إلى المقبرة وهو يتمتم بصوت خافت بكلمات متقطعة غير مفهومة. وهناك أهال التراب على رأسه وشق ثوبه وهو يرى الجسد المكفن بثوب قصير ينزلق بطيئاً في الهـوة الفارغة ويغيب في جوف القبر، والشيخ كربوج يسويه بالأرض ويرش عليه الماء من إبريق أخذه من دورة مياه المسجد المجاور وهـو يردد سامحوه يا إخوان سامحوه. الآن صاحبكم يُسأل من الملائكة عن ما قدم وأخر. سامحوه!! كان أبو كريم يقف قريباً من مروان يهدأ من روعه طيلة الوقت.
سيرة حياة الفقيد
...
عندما شعر النبي عليه السلام بدنو الأجل، صعد المنبر وسأل الناس أي نبي كنت لكم؟ من كانت لهُ قِبَلِي مظلمة فليقم فليقتص مني، فالقصاص في دار الدنيا أحب إلي من القصاص في دار الآخرة .فقالوا جزاك الله من نبي خيراً. وبعد ثلاثة مناشدات قام من بين كل الناس رجل واحد يُقال له عكاشة. قصاص يُطالب به النبي من نفسه؟ !وهكذا كان، وهـو لم يقم بما ذكره عكاشة عمداَ.
ولـو أراد أي مدير مخزن في المدينة بلغ أرزل العمر إبراء ذمته لإراحة ضميره كما فعـل النبي عليه السلام ، وجلس في القاعة وسأل الموظفين أي مدير كنت لكم لكان قد سمع ماذا ولقام من؟
حدثته نفسه قبل وفاته بفترة وجيزة بشيء من هذا القبيل. أوليس لكم في رسول الله أسوة حسنة. جمع كل ما يملك من شجاعة بعد أن ملأ بطنه ببرميل كنتاكي عملاق وتهيأ للموقف، لكنه سرعان ما تراجع في خوف شديد. أدرك أن مجرد طرح مثل هـذا السؤال سوف يستحضرعلى الفور في أذهان الجميع صورة المستخدم مروان.. صورة هي كل الحكاية.
...
أكلوا الأرض وأذلوا الرقاب
وفي اليوم التالي جاءت ملائكة العذاب إلى قبر المدير العجوز بعد منتصف الليل بقليل دون أن يثيروا صوتاً أو جلبة، وعقـدوا على عجل محاكمة الموتى فوق قبره. تركزت معظم الأسئلة حول طبيعة علاقته مع المستخدم مروان الذي كان يُمارس عليه وصاية صارمة كأنه استحوذ عليه. وكيف غالط حساب عمره. وكيف استطاع أن يستمرفي عمله طوال السنين الماضية بقدراته العادية وشخصيته الباهتة وهو يظهر التواضع والسماحة الزائفة.
دافع المدير العجوزعن نفسه وإن كان ضعيفاَ أكثر مما ينبغي منهزماً قبل أن تبدأ المعركة .ونادى على مروان أكثر من مرة بدون جدوى ليخلصه مما هـو فيه. ومع ذلك حكموا بإدانته: ظالم جاوز المدى ــ تسبب في حياته في مصائب الكثيرين ــ كان يواري سوءته خلف المستخدم مروان .
قرر الملائكة أن يُساق المدير العجوزعلى الفور إلى العذاب، وأن يُوضع في مكان خاص في جهنم نكالاً من الله بما قدمت يداه بحق الموظفين في المخزن. كما قاموا بحجز مكان خاص هناك أيضاً للمستخدم مروان مع قوم لوط ليضعوه فيه بعـد قطع يـده عند حلول الأجل.
وكان المدير العجوز قد طمع في قبره بفتحة صغيرة فوق الرأس لينادي على مروان، أو لعله يهرب منها إذا ما أشتد عليه الحساب وعجز عن الجواب. ولكن أبو كريم قام لاحقاً بإغلاقها بعد أن حسبها زوار المقبرة مبولة للعموم .
وبعد مضي أربعين يوماً على الوفاة، توجه مروان لزيارة قبر المدير العجوز ليشكو إليه ضعفه وهـوانه على الناس. لم يجرؤعلى الدخول بمفرده إلى المقبرة لعدم وجود أبو كريم أو معاونه هناك. فجلس خارجها يبكي بدموع باردة وهو يشكو ويندب حظه. حملت الريح الباردة الصوت إلى المدير العجوز وهـو مسجى داخل القبر يلوك قطعة من الصبار. مزق الكفن ونهض ونادى على مروان بعـد أن ألقى قطعة الصبار واشعل سيجارة حمراء طويلة، وقال له: كلهم هكذا .لا يفكرون أبعـد من أنوفهم. كلهم ذئاب ينامون مفتوحي العيون.
تناول المدير العجوز قطعة الصبار، وقبل أن يهبط لقبره لمس جبين مروان فأحس كأنما سهم من النار يخترق رأسه الأجوف .وعندما عاد رأى في المرآة ندبة غريبة وسط جبينه لم يكن قد رآها من قبل، كما رأى علامات الشيخوخة للمرة الأولى على وجهه الكئيب. كان يعلم أن السنيين الماضية أخذت الكثيرمن هدوء نفسه واستقرار روحه.
يعيش على حساب موت الآخرين
كان أبو كريم شخصية تدعـو إلى النفور كأنه نوع من الموتى تفوح منه طوال الوقت رائحة مبهمة. يعيش على حساب موت الآخرين. ولد وترعرع وسط القبور الموحشات، وبالقرب من الشواذ والمشردين والمطلوبين ولاعبي القمار الذين يتواجدون في معظم الأوقات في الطرف الغربي من المقبرة المكشوفة في العـراء على أطراف المدينة وقد جمعوا حولهم كلاب شاردة كي تنبههم عند اقتراب رجال الشرطة، ليسارعوا في الهروب بمسارات مختلفة.
وكثيراً ما كان أبو كريم يرى أمه في بعض الأوقات وهي ذاهبة إلى هناك أو عائده منه. غلبه الفضول في إحدى المرات فكلفه ذلك غالياً في وقت لاحق. ذهب ورائها يرقبها من وراء شواهد القبور. فرأها كيف وقفت أمام أحد الرجال ثم جثت على ركبتيها حتى هيمن خيال ظله عليها وهو ينظر بارتباك إلى كل الجهات ، وكيف أطبقت رأسها بخفة على مقدمة السروال.
كانت تجثو أمامه باستسلام تام في حين كان الآخرون ينظرون وينتظرون دورهم كأنهم تماثيل حجرية جامدة. أحدهم أخذ يلطمها بيده وهو يطلب منها عـدم التوقف. كانت أم مروان تتوقف لبرهة من الوقت تحاول التنفس وإن كانت دائماً في عجلة من أمرها تريد أن تنهي ما هي فيه قبل أن تغرب الشمس ويعود أبو مروان من رعي عنزاته السبعة حول مكبات القمامة المنتشرة شمال المقبرة. كانوا يضحكون من ردود أفعالها وتلوي جسدها والضوضاء التي كانت تصدر عنها. لعلها كانت تفعل كل ذلك لإرضائهم.
وفي الغرفة التي كانت تأويهم عند باب المقبرة كان مروان يرى أمه أحياناً في غفلة منها وهي تمتص إصبعها بطريقة غريبة بدون أن يفهم كل ذلك. كانت أمه كثيراً ما تمنع والده من أن يلمس جسدها، ولم يكن يحلو لها أن تصرخ في وجهه إلا بعد منتصف الليل منذ أن شاهدها في يوم من الأيام مع عشيقها فوق فراشه.
ليلة في ظلمة القبر
دعا أبو كريم مروان إلى قضاء ليلة في ظلمة أول منازل الآخرة..قبر مفتوح قريب من غرفته، لعله يعتبر ويكف عن أذى الناس وسرقة أموالهم خاصة وأنه سبق وأن أسر إليه أنه قد فكر لبعض الوقت أن يسلم نفسه ويعترف بأنه حثالة، وأن يلجأ إلى الموت كمفر أخير مما يُعانيه، فالموت حصن منيع يقيه الوحوش التي تفترسه ليل نهار بعدما تسبب في حياته في مصائب الكثيرين. نصحه ابو كريم أن يزور طبيب نفسي.
سار مروان متعثر الخطوات مع أبو كريم تحت جنح الظلام بين القبور المبعثرة. كانت هناك قبورتغطيها بعض الأعشاب والأزهار وأخرى ماتت أزهارها ويبست كأصحابها. وكان يرتفع من بعيد صوت عـواء متصل. نصحه أبو كريم أن يتمهل ويجلس خارج القبر قليلاً حتى تأنس روحه، ثم راح وتركه وحيداً.
أصبح مروان يسمع همهمة خافتة كأن شخصاً يتنفس خلف أذنه. يكاد يرى أشخاصاً يلوحون إليه من بعيد. أخذ بعدها يلتفت إلى الوراء بين لحظة وأخرى ليستطلع جلية الأمر. كان يتناهى إلى سمعه كأن هناك خارج المقبرة جلبة وضوضاء وحركة اقدام تعـدو نحوه وفي اتجاهات مختلفة. تعثر في سيره أكثر من مرة.
ونظر إلى الناحية الشرقية التي بها قبور عديدة مفتوحة تنتظر ساكنيها، وكأنها تنادينه مشتاقة إليه. وتخيّل كأن ملائكة العذاب حين رأوا النعش قادماً ، ظهروا له بأصوات مفزعة، وأشكال مخيفة، ينادي بعضهم بعضاً: هـذا مروان الفاضي الذي يحمل نصيباً من اسمه قـد أتاكم بلا فضائل. خـذوه. ركض مروان بفزع شديد حتى وصل غرفة أبو كريم الذي كان قد أغلق الباب واستسلم لاغفاءات النعاس.
الوداع الأخير
وكان الغسالون قد جاءوا على عجل وحملـوا جـسد المدير العجوز الذي أصبح على درجة من النحول بعد أن فقد الكثير من وزنه، وتلون بالزرقة كأنه قطعة من المحيط .وقف مروان بهدوء الجرذان وهـو يفرك مقلتيه في فتور ليلقي نظرة الوداع على جسد عليه ملامح موت مُمض فيه مهانة الروح. خُيل لمروان أن المدير العجوز يراقبه من خلف جفنيه المغلقتين بعد أن تركه لمصير يبدو مخيفاً.
تحدث أبو كريم يوماً عن ظهور ثعبان اثناء قيام معاونه بحفر قبر المدير العجوز وهو في رأيه دليل قاطع على سوء الخاتمة. كان الثعبان ينتظره على أحر من الجمر ليعانقه بحرارة شديدة. وقال أبو كريم أيضاً أن الجسد اختفى من القبر لفترة من الزمن، وعُثر عليه لاحقاً في مكان قريب بدون بدلة الأسنان في الفم. وإن من قام بهذا العمل، كما دلت تحريات الشرطة، كان اثنين من الموظفين السابقين في المخزن ممن طردهم المدير العجوز بعد أن فُتحت شهيته على آخرها للانتقام من الجميع بدون استثناء بدافع من الحقـد والكراهية. كثيرون في المخزن تنبهوا بعـدها لأول مرة لمعنى حديث النبي عليه السلام عندما يستعيذ بالله من قهر الرجال.
ترك المدير العجوز أخيراً هـذا الكون الواسع الممتـد. ما بقي منه سوى قطعة من الأحجار يسمونها شاهدة قبرمحفوراًعليها بأرقام سوداء تاريخي الميلاد والموت، وما بينهما كانت حياة طويلة لإنسان عنيد الذاكرة يرفض أن ينسى، وأن يتسامح وهو الذي جرب بنفسه مرارة الظلم يوماً في حياته.
بدأت الشمس بالغياب وكأنها تختنق. وأخذ الناس يتخيلون المدير العجوز ممدداً عاجزاً في القبر يمج بسكون رهيب سيجارته الحمراء الطويلة. تمهل الزمن قليلاً. كانت ميتته قـد تأخرت بعض الشيء. لعل هناك ضعفاً كان كامناً فيه لم يفطن إليه إلا مؤخراً وهـو في القبر..مـروان .
بحث أبو كريم لبعض الوقت في صباح ذلك اليوم عـن مكان لائق في المقبرة المكشوفة في العـراء فلم يجد إلا تلاً مفرداً عليه صبارة وحيدة. سأل معاونه عـن اتساع الحفـرة. فقال له: أحفر متر مو أكتر.
سار مروان وهو يذرف الدموع الملوثة خلف نعش المدير العجوز المحمول فوق أكتاف عدد من السائقين والعاملين في تنظيف المخزن يتقدمهم الشيخ كربوج بصوته الأجش ووجهه الدميم ينادي أهالي الديرة الطيبين لقراءة الفاتحة على روح الفقيد الطاهرة، وأن يسامحوه عما مضى! أخذوه إلى حارات المدينة القديمة التي تتساقط على ارصفتها أزهار الياسمين، وتمهلوا في سيرهم في كل الأماكن التي تعّود أن يجلس فيها.
كان مروان يلطم وجهه ويضرب صدره طوال الطريق إلى المقبرة وهو يتمتم بصوت خافت بكلمات متقطعة غير مفهومة. وهناك أهال التراب على رأسه وشق ثوبه وهو يرى الجسد المكفن بثوب قصير ينزلق بطيئاً في الهـوة الفارغة ويغيب في جوف القبر، والشيخ كربوج يسويه بالأرض ويرش عليه الماء من إبريق أخذه من دورة مياه المسجد المجاور وهـو يردد سامحوه يا إخوان سامحوه. الآن صاحبكم يُسأل من الملائكة عن ما قدم وأخر. سامحوه!! كان أبو كريم يقف قريباً من مروان يهدأ من روعه طيلة الوقت.
سيرة حياة الفقيد
...
عندما شعر النبي عليه السلام بدنو الأجل، صعد المنبر وسأل الناس أي نبي كنت لكم؟ من كانت لهُ قِبَلِي مظلمة فليقم فليقتص مني، فالقصاص في دار الدنيا أحب إلي من القصاص في دار الآخرة .فقالوا جزاك الله من نبي خيراً. وبعد ثلاثة مناشدات قام من بين كل الناس رجل واحد يُقال له عكاشة. قصاص يُطالب به النبي من نفسه؟ !وهكذا كان، وهـو لم يقم بما ذكره عكاشة عمداَ.
ولـو أراد أي مدير مخزن في المدينة بلغ أرزل العمر إبراء ذمته لإراحة ضميره كما فعـل النبي عليه السلام ، وجلس في القاعة وسأل الموظفين أي مدير كنت لكم لكان قد سمع ماذا ولقام من؟
حدثته نفسه قبل وفاته بفترة وجيزة بشيء من هذا القبيل. أوليس لكم في رسول الله أسوة حسنة. جمع كل ما يملك من شجاعة بعد أن ملأ بطنه ببرميل كنتاكي عملاق وتهيأ للموقف، لكنه سرعان ما تراجع في خوف شديد. أدرك أن مجرد طرح مثل هـذا السؤال سوف يستحضرعلى الفور في أذهان الجميع صورة المستخدم مروان.. صورة هي كل الحكاية.
...
أكلوا الأرض وأذلوا الرقاب
وفي اليوم التالي جاءت ملائكة العذاب إلى قبر المدير العجوز بعد منتصف الليل بقليل دون أن يثيروا صوتاً أو جلبة، وعقـدوا على عجل محاكمة الموتى فوق قبره. تركزت معظم الأسئلة حول طبيعة علاقته مع المستخدم مروان الذي كان يُمارس عليه وصاية صارمة كأنه استحوذ عليه. وكيف غالط حساب عمره. وكيف استطاع أن يستمرفي عمله طوال السنين الماضية بقدراته العادية وشخصيته الباهتة وهو يظهر التواضع والسماحة الزائفة.
دافع المدير العجوزعن نفسه وإن كان ضعيفاَ أكثر مما ينبغي منهزماً قبل أن تبدأ المعركة .ونادى على مروان أكثر من مرة بدون جدوى ليخلصه مما هـو فيه. ومع ذلك حكموا بإدانته: ظالم جاوز المدى ــ تسبب في حياته في مصائب الكثيرين ــ كان يواري سوءته خلف المستخدم مروان .
قرر الملائكة أن يُساق المدير العجوزعلى الفور إلى العذاب، وأن يُوضع في مكان خاص في جهنم نكالاً من الله بما قدمت يداه بحق الموظفين في المخزن. كما قاموا بحجز مكان خاص هناك أيضاً للمستخدم مروان مع قوم لوط ليضعوه فيه بعـد قطع يـده عند حلول الأجل.
وكان المدير العجوز قد طمع في قبره بفتحة صغيرة فوق الرأس لينادي على مروان، أو لعله يهرب منها إذا ما أشتد عليه الحساب وعجز عن الجواب. ولكن أبو كريم قام لاحقاً بإغلاقها بعد أن حسبها زوار المقبرة مبولة للعموم .
وبعد مضي أربعين يوماً على الوفاة، توجه مروان لزيارة قبر المدير العجوز ليشكو إليه ضعفه وهـوانه على الناس. لم يجرؤعلى الدخول بمفرده إلى المقبرة لعدم وجود أبو كريم أو معاونه هناك. فجلس خارجها يبكي بدموع باردة وهو يشكو ويندب حظه. حملت الريح الباردة الصوت إلى المدير العجوز وهـو مسجى داخل القبر يلوك قطعة من الصبار. مزق الكفن ونهض ونادى على مروان بعـد أن ألقى قطعة الصبار واشعل سيجارة حمراء طويلة، وقال له: كلهم هكذا .لا يفكرون أبعـد من أنوفهم. كلهم ذئاب ينامون مفتوحي العيون.
تناول المدير العجوز قطعة الصبار، وقبل أن يهبط لقبره لمس جبين مروان فأحس كأنما سهم من النار يخترق رأسه الأجوف .وعندما عاد رأى في المرآة ندبة غريبة وسط جبينه لم يكن قد رآها من قبل، كما رأى علامات الشيخوخة للمرة الأولى على وجهه الكئيب. كان يعلم أن السنيين الماضية أخذت الكثيرمن هدوء نفسه واستقرار روحه.
يعيش على حساب موت الآخرين
كان أبو كريم شخصية تدعـو إلى النفور كأنه نوع من الموتى تفوح منه طوال الوقت رائحة مبهمة. يعيش على حساب موت الآخرين. ولد وترعرع وسط القبور الموحشات، وبالقرب من الشواذ والمشردين والمطلوبين ولاعبي القمار الذين يتواجدون في معظم الأوقات في الطرف الغربي من المقبرة المكشوفة في العـراء على أطراف المدينة وقد جمعوا حولهم كلاب شاردة كي تنبههم عند اقتراب رجال الشرطة، ليسارعوا في الهروب بمسارات مختلفة.
وكثيراً ما كان أبو كريم يرى أمه في بعض الأوقات وهي ذاهبة إلى هناك أو عائده منه. غلبه الفضول في إحدى المرات فكلفه ذلك غالياً في وقت لاحق. ذهب ورائها يرقبها من وراء شواهد القبور. فرأها كيف وقفت أمام أحد الرجال ثم جثت على ركبتيها حتى هيمن خيال ظله عليها وهو ينظر بارتباك إلى كل الجهات ، وكيف أطبقت رأسها بخفة على مقدمة السروال.
كانت تجثو أمامه باستسلام تام في حين كان الآخرون ينظرون وينتظرون دورهم كأنهم تماثيل حجرية جامدة. أحدهم أخذ يلطمها بيده وهو يطلب منها عـدم التوقف. كانت أم مروان تتوقف لبرهة من الوقت تحاول التنفس وإن كانت دائماً في عجلة من أمرها تريد أن تنهي ما هي فيه قبل أن تغرب الشمس ويعود أبو مروان من رعي عنزاته السبعة حول مكبات القمامة المنتشرة شمال المقبرة. كانوا يضحكون من ردود أفعالها وتلوي جسدها والضوضاء التي كانت تصدر عنها. لعلها كانت تفعل كل ذلك لإرضائهم.
وفي الغرفة التي كانت تأويهم عند باب المقبرة كان مروان يرى أمه أحياناً في غفلة منها وهي تمتص إصبعها بطريقة غريبة بدون أن يفهم كل ذلك. كانت أمه كثيراً ما تمنع والده من أن يلمس جسدها، ولم يكن يحلو لها أن تصرخ في وجهه إلا بعد منتصف الليل منذ أن شاهدها في يوم من الأيام مع عشيقها فوق فراشه.
ليلة في ظلمة القبر
دعا أبو كريم مروان إلى قضاء ليلة في ظلمة أول منازل الآخرة..قبر مفتوح قريب من غرفته، لعله يعتبر ويكف عن أذى الناس وسرقة أموالهم خاصة وأنه سبق وأن أسر إليه أنه قد فكر لبعض الوقت أن يسلم نفسه ويعترف بأنه حثالة، وأن يلجأ إلى الموت كمفر أخير مما يُعانيه، فالموت حصن منيع يقيه الوحوش التي تفترسه ليل نهار بعدما تسبب في حياته في مصائب الكثيرين. نصحه ابو كريم أن يزور طبيب نفسي.
سار مروان متعثر الخطوات مع أبو كريم تحت جنح الظلام بين القبور المبعثرة. كانت هناك قبورتغطيها بعض الأعشاب والأزهار وأخرى ماتت أزهارها ويبست كأصحابها. وكان يرتفع من بعيد صوت عـواء متصل. نصحه أبو كريم أن يتمهل ويجلس خارج القبر قليلاً حتى تأنس روحه، ثم راح وتركه وحيداً.
أصبح مروان يسمع همهمة خافتة كأن شخصاً يتنفس خلف أذنه. يكاد يرى أشخاصاً يلوحون إليه من بعيد. أخذ بعدها يلتفت إلى الوراء بين لحظة وأخرى ليستطلع جلية الأمر. كان يتناهى إلى سمعه كأن هناك خارج المقبرة جلبة وضوضاء وحركة اقدام تعـدو نحوه وفي اتجاهات مختلفة. تعثر في سيره أكثر من مرة.
ونظر إلى الناحية الشرقية التي بها قبور عديدة مفتوحة تنتظر ساكنيها، وكأنها تنادينه مشتاقة إليه. وتخيّل كأن ملائكة العذاب حين رأوا النعش قادماً ، ظهروا له بأصوات مفزعة، وأشكال مخيفة، ينادي بعضهم بعضاً: هـذا مروان الفاضي الذي يحمل نصيباً من اسمه قـد أتاكم بلا فضائل. خـذوه. ركض مروان بفزع شديد حتى وصل غرفة أبو كريم الذي كان قد أغلق الباب واستسلم لاغفاءات النعاس.
الوداع الأخير
وكان الغسالون قد جاءوا على عجل وحملـوا جـسد المدير العجوز الذي أصبح على درجة من النحول بعد أن فقد الكثير من وزنه، وتلون بالزرقة كأنه قطعة من المحيط .وقف مروان بهدوء الجرذان وهـو يفرك مقلتيه في فتور ليلقي نظرة الوداع على جسد عليه ملامح موت مُمض فيه مهانة الروح. خُيل لمروان أن المدير العجوز يراقبه من خلف جفنيه المغلقتين بعد أن تركه لمصير يبدو مخيفاً.
تحدث أبو كريم يوماً عن ظهور ثعبان اثناء قيام معاونه بحفر قبر المدير العجوز وهو في رأيه دليل قاطع على سوء الخاتمة. كان الثعبان ينتظره على أحر من الجمر ليعانقه بحرارة شديدة. وقال أبو كريم أيضاً أن الجسد اختفى من القبر لفترة من الزمن، وعُثر عليه لاحقاً في مكان قريب بدون بدلة الأسنان في الفم. وإن من قام بهذا العمل، كما دلت تحريات الشرطة، كان اثنين من الموظفين السابقين في المخزن ممن طردهم المدير العجوز بعد أن فُتحت شهيته على آخرها للانتقام من الجميع بدون استثناء بدافع من الحقـد والكراهية. كثيرون في المخزن تنبهوا بعـدها لأول مرة لمعنى حديث النبي عليه السلام عندما يستعيذ بالله من قهر الرجال.
ترك المدير العجوز أخيراً هـذا الكون الواسع الممتـد. ما بقي منه سوى قطعة من الأحجار يسمونها شاهدة قبرمحفوراًعليها بأرقام سوداء تاريخي الميلاد والموت، وما بينهما كانت حياة طويلة لإنسان عنيد الذاكرة يرفض أن ينسى، وأن يتسامح وهو الذي جرب بنفسه مرارة الظلم يوماً في حياته.
بدأت الشمس بالغياب وكأنها تختنق. وأخذ الناس يتخيلون المدير العجوز ممدداً عاجزاً في القبر يمج بسكون رهيب سيجارته الحمراء الطويلة. تمهل الزمن قليلاً. كانت ميتته قـد تأخرت بعض الشيء. لعل هناك ضعفاً كان كامناً فيه لم يفطن إليه إلا مؤخراً وهـو في القبر..مـروان .