عبدالله البقالي - "لاس راص".. أو غربة مكان

ليس كل ما عاشه الإنسان و اتخد لزمن شكل انفاس ادفأت الحياة يستحق ان يؤرخ. و الذي يستوجب ان يحتفى به هو بلا شك ذلك الفعل أو الرمز الذي له سمة يصنع تميزها القدرة على الامتداد خارج الظروف العابرة. و يظل صداه مستمرا. بصوت عال حينا، و اخرى يحتاج التقاطها إلى حواس استثنائية. لكن هل يمكن لمكان يصنف ضمن مملكة الجماد أن يقوم مقام الفعل المؤثر الذي لا يتصف به سوى الفعل البشري؟
أحتار حقا في الجواب حين أقف في ربوع "لاس راص" لحد اعتقد معه أن القوة الخارقة التي تحفل بها الأساطير، ليست كلها محض خيال. و ان هناك أمكنة تبدو مخلصة لشئ مبهم تودعه صمتها. و ترسل فقط مجرد إشارات لتدفع بك إلى تسطير عنوان عريض عن ذلك التفاعل الخلاق بين الكائن و المكان الذي يبدو كعقد زواج كتبته المردة في سالف الازمان و العصور.
من بين هذه الاماكن"رصراص" أو "لاس راص" أو "آسطراص" هذه الاسماء هي لمكان واحد. وهي تظهر كبوابات مستقلة الواحدة عن الاخرى. وكل واحدة تبدو و كانها تفضي لمتاهات مختلفة. قد تضيع فيها. او قد تتلمس طريقك بمنتهى السهولة و اليسر إن كنت تحفظ بشكل جيد طلاسم و تراتيل المكان.
"لاس راص" هي مرتفع كان قاعدة عسكرية للجيش الفرنسي في غفساي بإقليم تاونات. وهي تشبه موقع قلب داخل جسد. جبال دائرية متوزعة على قطر واسع، يرسم مساحة منخفضة عن أسفل مركز الدائرة حيث يجري واد اولاي المنحدر من الشمال و المتجه غربا. و أودية صغيرة من الجهات الاخرى تبدا بعدها منحدرات متفاوتة الحدة تمضي صعودا الى سطح الهضبة التي تتشكل من رحاب "لاس راص" التي اختارها الفرنسيون قاعدة متقدمة لصد الهجمات القادمة من الشمال. و لتحفظ الامن في مساحة عازلة كانت مدينة فاس تحتاجها لتشعر بالامن. و بالوقوف على قمة لاس راص، تصبح كل المساحات القريبة و البعيدة مكشوفة. لكن السيطرة الكلية على المكان لم تكن لتتم الا بالتواجد على قمم الجبال الدائرية المطلة على لاس راص.
اذن بوقوع لاس راص في قبضة الفرنسيين، ابتدات غربة هذا المكان عن جسده و امتداده الطبيعي. و اًصبحت كسماء مختلفة تتطلع اليها أعين الاهالي من الأسفل. لكنها لم تكن تتوسل منها رحمة كما السماء الاخرى. و لم تكن تبحث فيها عن تلك البوابة السحرية التي تتلقى طلبات المستضعفين من اجل تحقيق العدالة. بل كانت ترقبها بحذر و خوف لتعرف قدر الاذى و الوعيد الذي ستخص به الاهالي، ومقدار القصاص الذي يمكن ان تقذف بها "الطيارة الحمراء" التي كانت تتولى كتابة أقدار الناس و مصائرهم.
هكذا إذن تحولت لاس راص إلى حصان طروادي، لم يكن في حاجة إلى من ينقله إلى داخل حياة الاهالي كي يتم إخضاعهم. لكن قبل ذلك ما قصة تسمية هذا المكان بهذا الاسم "لاس راص"
الكثيرون يصرون على ان المكان يجمل اسم"رصراص". وقد كنت من بين هؤلاء، إلى ان جالست الذاكرة الفقيه و المجاهد و العلامة "الخمسي" وهو بالمناسبة امتد به العمر طويلا. ولد قبل دخول الفرنسيين للمغرب. و شارك في حرب الريف. و ايضا في حرب التحرير. سمعني ذات مرة أقول "رصراص". نظر الى بنوع من الجد و قال لي بالعامية" ألا ابني. ماشي رصراص. لاس راص.
تحايلت عليه بعد ذلك و اعدت نقط الاسم بالشكل الذي تعودت عليه. فما كان سوى ان عاد تصحيح الكلمة. بعدها حكيت لشخص اخر كان احد ابناء الاعيان في الفترة الاستعمارية"عبدالعزيز فارس" رحمه الله" و كانت له علاقة جيدة باعتباره كان من الفتية الدين يرتادون ملاهي المكان . يألته عن قصة التسمية فقال لي : في الحقيقة كلا التسميتن خاطئة. و الصواب هو "أسطراص" وهو اسم مستمد من الشركة التي كانت تتولى تموين الجيش الفرنسي. و جل المشرفين عليها يهودا.
ما هو مهم في هذه الحكاية هو الدور الذي اطلعت به لاس راص. وما مثلته للاهالي عبر تاريخ ذاكرنهم بهذا المكان. فهو مكان نجس يسكنه النصارى. و فيه كان يوجد حانة مفتوحة حتى للاهالي. و في اسفله من الجهة الغربية كانت دور للعاهرات اللواتي كن يتمتعن برعاية صحية جيدة. وكن يفدن من مختلف الربوع، و حتى من الجزائر. وهو قبل كل هذا مقر القوة المستعمر الغاشمة التي تصادر ممتلكات الناس و تتحكم في مصائرهم. و اذكر ان "المعلم أحمد" الذي كان حداد ا و يتولى صنع الاسلحة و إصلاحها، كان حين يود التاكد من ان البندقية لا تشكو اعوجاجا. كان يقف عند باب داكنه. و يقف بقامته الفارعة الطول. و يسدد دائما اتجاه لاس راص.
كما ان المكان عومل بالتجاهل و الاهمال التام بعد رحيل الفرنسيين. و تم اتلاف كل شئ فيه. و هدمت الدور التي كان الفرنسيون قد شيدوها هناك.
حين رحل الفرنسيون عن غفساين كان ينتظر أن يتم تصالح المكان مع امتداده الطبيعي. لكن الظروف دشنت مسارا اخر لغربة المكان بقدوم المخزن المتنقل العاشر.
لم تتكن الهوية بمفهومها الشامل محل سؤال هذه المرة. بل كان الحمولات اللغوية و المرجعية الثقافية هي المشكلة.
معظم الأفراد الذين ضمتهم الثكنة العسكرية أمازيغ نظر إليهم من قبل الأهالي على انهم أغراب و دخلاء. و انهم في تعاملهم مع الاهالي يصرون على وضع فاصل حضاري بينهم. و يعتبرونهم مغرقين في التخلف. لكن الاكثر تاثيرا كان حضور العرقية. فقد كانوا يصفون الاهلي "اجبالة وكالين البيصارة" وكان الاهالي يردون" عسكار بطاطا"
كانت الأجواء مطبعة بتوتر شديد و في كل المجالات. و قد حاول احد المدرسين توظيف هذا الصراع لخلق التنافس قصد الرفع من التحصيل الدراسي مقترحا منافسة عمن سيكون الاكثر اجتهادا أبناء الثكنة ام ابناء الأهالي. لكن المدرس تراجع عن مشروعه بعد النتائج الكارثية التي كان فيها الكثير من العنف الذي خلف ضحايا كثر.
بعد رحيل المخزن المتنقل العاشر. بدا اخيرا أن لا شئ يحول دون عودة المكان لحضنه. خصوصا و ان الساكنة التي استوطنت في الثكنة لم تكن مشكلة من الاغراب. بل كانت من سكان ضواحي غفساي. تحمل نفس الارث. و تنحدر من نفس الاصل. لكن المكان اصر على ان يحتفظ بدوره. و تحول السكان الجدد الى طابور خامس يلعب ادوارا مؤثرة في صنع الخرائط السياسية و يقلب موازين القوى في الانتخابات، ممتثلا لأوامر السلطات من اجل الحفاظ على المسكن. وهناك مرشحين لم يتقدموا بترشيحهم في اي دائرة اخرى عبر تاريخم الانتخابي المليئ بالترشيحات. وهو ما يعني ان غربة مكان هي غربة من صنع الانسان. و ان الاماكن تظل محايدة.
عبدالله البقالي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى