مصطفى رجب - رحلتي إلى القاهرة :(2)

........... عندما وصلنا إلى المنيا ، بدا لي أن أتحرك قليلا من مقعدي الذي قضيت فيه قرابة الساعات الأربع بلا أي حركة ، فنزلت على الرصيف وتمشيت قليلا ، إلى أن أذَّن مؤذِّن القطار بزمَّارته فعدتُ للصعود ، وفوجئت بأن "سبع البرمبة " قد سبقني للنزول واشترى من محطة المنيا أكياسا جديدة ، ألقاها بين يدي زوجه التي كانت مازالت تقرقش أشياء لا أعرف كنهها ، ألقيت نظرة على الجالسة خلفي التي سحرني صوتها ، وجذبتني ضحكاتها التي ظللت أسمعها أربع ساعات ، فإذا بها كتلة ضخمة من اللحم الأبيض المتوسط ، وفي وجهها ملامح شبيهة جدا بملامح اللورد تشرشل ، مما أصابني بغير قليل من الاطرغشاش والابرغشاش .
وحاولت في بقية الرحلة أن أتفادى سماع حكاياتها عن تفتيشها التربوي على تلك المدارس المنوط بها تفتيشها . وقلت في نفسي : لعله من الأجدى أن أصغي لحكايات ذلك الذي يحكي عن الحروب من 1948 الجالس على المقعد الذي خلف مقعدي الأصلي.. كان جليسه منبهرا بحكاياته ، فقد كان يمزج ببراعة بين ما جرى في كل حرب من تلك الحروب التي عايشها ( في الإذاعة ) وماكان يفعله في ذلك اليوم مع آل بيته من معارك حول الكرنبة التي طبخوها فلم تعجبه ، وذلك اللون الذي دهنوا به البيت في أثناء غيابه للعمل بالقاهرة ..
نظرت فجأة إلى السيدة الفضلى التي لم يهدأ فكَّاها عن الدوران من طحطا إلى المنيا ، فوجدتها قد قسمت ما اشتراه بعلها من محطة المنيا عليها وعلى بعلها وأخذت تحرضه على الأكل والرجل يأكل قليلا ويتأفف قليلا فلا يجد مهربا إلا أن يقوم ويتمشى في عربات القطار لمدة ربع ساعة أو ثلث ساعة ثم يعود فيجدها مركزة كل التركيز فيما بين يديها من أكياس ، وتفتح ، من وقت لآخر ، جردلا بلاستيكيا مربعا به زجاجات المياه الغازية الكبرى جدا ، فتأخذ جرعات من تلك الميرندا الصفراء ثم تعود إلى ما هي فيه من مضغ وبلع .
السيدة التي خلفي ذات الملامح التشرشلية مازالت تقص بعض بطولاتها التفتيشية مصحوبة بإنذاراتها للمقصرين ممن تتابعهم ، وتهديدها لمديري المدارس بالويل والثبور وعظائم الأمور .
والجالس على المقعد الذي خلف مقعدي الأصلي أنهى حكاياته مع حرب 48 وبدأ يقص ما رآه وما سمعه وما قام به من بطولات – في المطاعم -خلال حرب 1956
وفجأة خطر ببالي أن أتفقد السيدة الفضلى التي لم يهدأ فكَّاها عن الدوران فوجدتها قد طلبت من زوجها إنزال شنطتها الكبيرة من على الرف ، فأنزلها المسكين وكانت تأوهاته ومجاهداته تدل على ثقل الشنطة ، ثم وضعها على حجر زوجته ففتحتها وأخرجت منها كيسا ضخما احتفظت به ، وطلبت منه إعادتها فوق الرف فأعادها المسكين .
ولما فتحت كيسها ظهر أن به سندوتشات سبق تحضيرها ، لكنها كانت تفتح كل رغيف ، وتضع به شيئا طويلا في حجم السحلية السميكة ، كان فيما يبدو محمرا مشويا أو مطبوخا ، لكني لم أتبين ما عسى أن يكون ... جهزت من هذه السندوتشات ما قد يزيد عن العشرين ، وجعلت تأكل منها بشراسة شرسة وعنفوانية عنيفة ، ومن حين لآخر تهب بعلها واحدا أو اثنين وتزغر له فينكب عليهما صاغرا .. وحاولت أن تعطي ابنها فصرخ ورفض بشدة فاكتفت بأن أعطته واحدا فقط ..
واقتربنا من محطة بني سويف ... وهي مازالت تأكل
وللحديث بقية ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى