د. مصطفى رجب - رحلتي إلى القاهرة :(4)

غادرنا محطة بني سويف منذ نصف ساعة ، وقد استسلم بعضهم للنوم ، ونشط آخرون ممن يتهيأون للنزول في محطة الجيزة . مازالت هواتفي صامتة أو مغلقة كعادتها في أثناء السفر ، ولكن هاتفا داخليا دعاني للنظر في أحدها فوجدت رسالة من ابن أخي الذي ينتظرني في محطة رمسيس ، فلما كلمته وعرف أنني مازلت في بني سويف ، استعبط ونصحني بأن أنزل في محطة الجيزة لأستقل مترو الأنفاق إلى بيتي القريب من محطة كوبري القبة ..وبالطبع في مثل هذه الحالات لا أملك إلا الاستسلام ، فأنا كأبي العلاء وطاها حسين رحمهما الله : " مستطيعٌ بغيره " !
عاد ذلك العجوز المناضل الذي تابع تاريخ الحروب المصرية ( من الراديو ) إلى مقعده ، وتسلم آذان جليسه في المقعد ، وسعدت جدا حين تبين من حوارهما أنه مازال يعدد أصناف النساء اللواتي يعرفهن ، وكنت شغوفا بأن أسمع منه الصنف الثالث من أصنافهن ، الذي توقف عنده حين هجم الكمسارية والمفتشون ومساعدوهم ، قال الحكيم : إن الصنف الثالث من الحريم يمثل نوعا غريبا لا يحسن الرغي المتواصل ، ولا يؤثر الصمت الخامل ، ولكنه يضم فئة من الحريم الكسولات اللواتي لا يعنيهن أن يأكل أزواجهن أو يصوموا ، ولا يشغلهن أن يلبس أطفالهن أغلى الثباب أو أرخصها ، ولا يهمهن زيارات الأقارب أو انقطاعها ، بل كل ما يشغلهن عبادة تلك الشاشات ، ومتابعة ما تعرضه من أفلام ومسلسلات ، فإذا طلب منهن أحد طعاما أو شرابا تأففن أشد التأفف ـ وأشرن إلى المطبخ ليأكل أو يشرب ما يجده من طعام أو شراب ، فإن لم يجد شيئا فلا حرج عليه في أن يلجأ لمطعم قريب فيأكل ما أحب أن يأكل ، ويشرب ما شاء أن يشرب .
كان الرجل يحكي عن هذا الصنف من النساء وبين حروفه مرارة تلوح حينا وتتوارى حينا ، لكنها تشير إلى ما يتغنى به بعض المتصوفة حين يقولون " من ذاق عرف " !! وكأن المسكين ذاق أشد الذوق ، حتى عرف أدق معرفة .
كنت أستمع لحديثه هذا الذي استفاض فيه بغير حماس ، وكدت أطلب منه أن يعود إلى ذكرياته مع الحروب التي عايشها ( مع الراديو) فقد كانت أكثر جاذبية وتشويقا ..لكنني خجلت أن أطلب منه ذلك على غير معرفة بيننا .. فانصرفت عنه لأتابع السيدة الفضلى التي كانت ما تزال تفتح كيسا بعد كيس من تلك الأكياس التي اشتراها لها بعلها من محطة بني سويف ، فتلقف ما في كل كيس في جوفها كأنها لم تذق طعاما من شهور ، وهي التي لم يتوقف شدقاها عن الدوران منذ خمس ساعات أو أكثر ، لأول مرة بدأت أدقق في حجم فمها فاكتشفت أنه بالفعل شديد الاتساع ، شديد العمق - فيما يبدو -. ولم أشك لحظة في أنه أيضا شديد الرغي لو توقف عن الأكل
. في داخل نفسي : كنت أحسدها لهذه القدرة الغريبة على الهضم والقضم المتواصلين بشراسة وإصرار ..وكم كنت أتمنى لو كان معي مرافق عصري يحسن التعرف إلى مسميات تلك المهضومات والمقضومات والمقرقشات التي يجيئها بها بعلها في كل محطة ..

..... ونستكمل لاحقا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى