بين صحبه، يستقدم الشاب أخاه الصغير فيسأله: " ما العلمانية؟ يجيب الفتى مسرعا، فصل الدولة عن الدين…"
ما شاء الله بقدره يعي معنى هذا المصطلح…يقول أحدهم
كيف ما شاء الله، أيها الرجعي!!
تشبع الشباب بالماركسية، في مجتمع خرج من توه من حياة البداوة، إن لم نقل البدائية مقارنة بالعالم الخارجي، الذي استقبله، وبينهما برزخ لا يبغيان، التقاليد و الأعراف تقيد شبابا تواقا للتحرر من أصفاد الماضوية، الاستبداد، الطبقية….
خارج المنزل وضع مذياعه المغلف بغشاء جلدي بني، هنا لندن….
الحرب الايرانية العراقية في أوجها، صدام يحارب باسم العرب، والخميني باسم المظلومية، هي عودة للثأر الحسيني، وعودة لثارات النعمان…
الخميني لدى الرجل اسم بغيض، الجو العام يوحي بكره الآية الثائر، لا أحد ينصف طهران في جمهور راديو لندن، الحرب أكلت البلدين، غير أنها انتهت و لم تنته إلا وقد بدأت أخرى….
في عالمه الخاص، يبحر الرجل كل مساء مع عوالم الأخبار، لا تفوته قصاصة، من روسيا الهرمة و تبعات جدار برلين…حرب الأرجنتين، انقلابات افريقيا، غزو الكويت، فيلق القدس، صواريخ سكود، حروب لبنان، دون ما يقع محليا من أخبار، مسامعه و عقله وسع لكل شاردة و واردة سياسية، يسمعها يخزنها ثم يبثها في ثوب خاص به…حين يجتمع هو و أصدقائه…
ويستمتع أكثر حين يستوقف الطلبة القادمين من الشمال، هنا يرتقي الرجل مدارج التحليل الأكاديمي ليقدم رؤيته للشأن الدولي و العربي، أين يمضي العالم بقطبية واحدة، لماذا هاجم صدام المهيب الكويت، وما دور اسرائيل في ذلك؟
يصطدم بأفكار هؤلاء الطلبة، و يناوشهم بدون كلل، فهم بالنسبة له ثلة من المغررين، تركوا ثقافتهم و دينهم، وارتموا في تيارات شيعية وتارة شيوعية!!!
و أصعب ما يجد منهم، حديث الاستقلال و الاستبداد…طبائع الحكم….الفتنة…..الخلافة…..ولاة الأمور….التحرر…كيف لهم أن يجادلونه؟
غير أنه و كل هذا الاصطدام يحن لهؤلاء الطلبة حين رحيلهم نحو المدارس، ليبقى وحيدا مع جماعته التي لا ترقى إلى مستواه، فهي غارقة في مشاكل الحياة اليومية، القيل و القال، و أخبار المنازل و الأسواق، فتراه وهو جالس معهم، يرتفع عنهم بكرسيه و يضع المذياع لصيقا بأذنيه، يقلب ذات اليمين و ذات اليسار، من موجة إلى أخرى، يقف على الصين الشعبية، ثم يعود إلى لندن، وقد يستمع قليلا إلى "مونتيكارلو"…أو" ميدي 1".
لا يختلف الصغير عن باقي أقرانه، غير أنه صاغ لنفسه طريقا آخر في اللعب، فمع كل قيلولة، يضع الراديو بجنبه، ليصنع شريط برامج و مواد، من إذاعة يختلقها، افتتاح بآيات قرآنية، برامج رياضية….قراءة لأخبار، يحمل فيها صحيفة الاتحاد أو العلم، و مرات يحمل الشرق الأوسط، المستقلة….تلاوين صحف، يقرؤها و كأنه في غرفة الأخبار…هذا الكم الهائل من المعلومات، جعله من أهل السياسة على صغر عمره، ليلج باب الحرب الباردة و ما تعني، الحرب الأفغانية، الصومالية، الانتفاضة في الأقصى…الحركات السياسية…بل حتى الجيوش و قوامها….
في المرحلة الابتدائية، يظل الصغير، يحمل هم السياسة و التاريخ في لعبه، بشكل منفرد، كما يحمل الرجل الأمي مذياعه، وهم ما يقع في العالم من مستجدات و أحداث ترسم حركية التاريخ.
قد يجتمع الصبي و الرجل على نحو واحد، ليناقشا أمور السياسة من منظور مختلف، فلا هما ملزمان بالمعارف و العلوم، والشواهد و المدارس…يناقشان بوعي عذري ما استجد من أمور الحروب، وتقلبات الحكومات، و انتصارات الجيوش…فيجد الرجل متعته في الحكي و ربط الأحداث و تأصيلها….ويجد الفتى ضالته في كم المعلومات و المصطلحات، ليوظفها في لعبه الخاصة…
تمر أعوام، يثقل سمع الرجل، بات يخرج و مذياعه بأمتار بعيدا عن داره، فشوشرة و تشويش البحث عن قنواته المفضلة أزعج أهله و جيلهم الصاعد…جماعته لم تعد تأبه لمنطقه، فالمشارب تعددت، والأطباق تناسلت، وحده ظل وفيا لمذياعه الهرم، ولنقاء الصوت قبل ضجيج الصورة.
يسقط المذياع أرضا، فلم يجد له العجوز من يصلحه، حزن كثيرا، جال الدكاكين يبحث عن أمل توارى بين حجب التقنيات، مثله من الأجهزة كثير يصطف أمام زجاج الكهربائي الشهير، وافته المنية و بات ابنه خلفا له في المهنة، غير أن الشاب الصبي لم يسعف صديقه العجوز في اصلاح المذياع، فشغله الشاغل تركيب الصحون و السفر بين الأقمار من منزل إلى آخر….
هل تذكرني ؟
نعم و كيف أنساك.
شيء جميل، هلا أصلحت مذياعي، فلي ردح من الزمن، غاب عني الخبر، و بت لا أدري كيف حال العالم من بعد سقوط جهازي، لا تغريني التلفاز، و لا أستطيع صبرا أنتظر نشرة الثامنة و نصف…
مذياعك من الصعب اصلاحه، استغن عنه
لا يمكنني ذلك بني، حتى بصري لا يساعدني، ولا مصداقية لما تقوله الأخبار، غير لندن…هذه القنوات و ما تقول فيه تحريف و زيف، وادعاء تبثها أمريكا و الصهاينة…و تمر سريعا دون قراءة متفحصة…
بالعكس، الصورة و تعدد القنوات، المراسلون من عين المكان، أمور كثيرة تساعدك في رسم تصور خاص بك للخبر و قراءاته، دون أن يكون مصدرك واحد…كما من قبل.
هل سمعت يوما أن المذياع قد الفاحشة، هذه الصحون مفسدة للأسر، كما كانت التلفاز، كله أمر واحد، حتى و إن أرسلوا المراسلين و استقدموا الخبر من معقله، يبثون السموم و الأفكار الهدامة، و يريدون لنا أن نشاهدهم….حاول أن تصلح الراديو….أكون ممتنا لك.
دفاع العجوز عن جهازه، جعله يستشيط غضبا، خاصة حينما يتحدث الشاب عن الصحون و قنوات الفضاء…ما يسمعه عن هذه المستحدثات، عزز دفاعه عن صديقه العليل، لا يريد غيره، رغم التقادم، الذي من زاويته تقادم لذاته، على خلاف الصبي الذي ركب موجة التغيير، استمع للمذياع، وشاهد التلفاز و ركب الصحون….و مازال حاضرا يبحث عن الخبر بتجليات و آفاق أوسع، انبرى العجوز متواريا بعد أن حث الطلب على اصلاح مذياعه…فتح الشاب كرش الجهاز و تركها….يموت العجوز، يظل المذياع على حاله…طفل صغير يبحث مع أمه عن حجر مغناطيس طلبه المدرس في حصة النشاط العلمي، يقدم الشاب الحجر للطفل، وتنتهي قصة المذياع.
ما شاء الله بقدره يعي معنى هذا المصطلح…يقول أحدهم
كيف ما شاء الله، أيها الرجعي!!
تشبع الشباب بالماركسية، في مجتمع خرج من توه من حياة البداوة، إن لم نقل البدائية مقارنة بالعالم الخارجي، الذي استقبله، وبينهما برزخ لا يبغيان، التقاليد و الأعراف تقيد شبابا تواقا للتحرر من أصفاد الماضوية، الاستبداد، الطبقية….
خارج المنزل وضع مذياعه المغلف بغشاء جلدي بني، هنا لندن….
الحرب الايرانية العراقية في أوجها، صدام يحارب باسم العرب، والخميني باسم المظلومية، هي عودة للثأر الحسيني، وعودة لثارات النعمان…
الخميني لدى الرجل اسم بغيض، الجو العام يوحي بكره الآية الثائر، لا أحد ينصف طهران في جمهور راديو لندن، الحرب أكلت البلدين، غير أنها انتهت و لم تنته إلا وقد بدأت أخرى….
في عالمه الخاص، يبحر الرجل كل مساء مع عوالم الأخبار، لا تفوته قصاصة، من روسيا الهرمة و تبعات جدار برلين…حرب الأرجنتين، انقلابات افريقيا، غزو الكويت، فيلق القدس، صواريخ سكود، حروب لبنان، دون ما يقع محليا من أخبار، مسامعه و عقله وسع لكل شاردة و واردة سياسية، يسمعها يخزنها ثم يبثها في ثوب خاص به…حين يجتمع هو و أصدقائه…
ويستمتع أكثر حين يستوقف الطلبة القادمين من الشمال، هنا يرتقي الرجل مدارج التحليل الأكاديمي ليقدم رؤيته للشأن الدولي و العربي، أين يمضي العالم بقطبية واحدة، لماذا هاجم صدام المهيب الكويت، وما دور اسرائيل في ذلك؟
يصطدم بأفكار هؤلاء الطلبة، و يناوشهم بدون كلل، فهم بالنسبة له ثلة من المغررين، تركوا ثقافتهم و دينهم، وارتموا في تيارات شيعية وتارة شيوعية!!!
و أصعب ما يجد منهم، حديث الاستقلال و الاستبداد…طبائع الحكم….الفتنة…..الخلافة…..ولاة الأمور….التحرر…كيف لهم أن يجادلونه؟
غير أنه و كل هذا الاصطدام يحن لهؤلاء الطلبة حين رحيلهم نحو المدارس، ليبقى وحيدا مع جماعته التي لا ترقى إلى مستواه، فهي غارقة في مشاكل الحياة اليومية، القيل و القال، و أخبار المنازل و الأسواق، فتراه وهو جالس معهم، يرتفع عنهم بكرسيه و يضع المذياع لصيقا بأذنيه، يقلب ذات اليمين و ذات اليسار، من موجة إلى أخرى، يقف على الصين الشعبية، ثم يعود إلى لندن، وقد يستمع قليلا إلى "مونتيكارلو"…أو" ميدي 1".
لا يختلف الصغير عن باقي أقرانه، غير أنه صاغ لنفسه طريقا آخر في اللعب، فمع كل قيلولة، يضع الراديو بجنبه، ليصنع شريط برامج و مواد، من إذاعة يختلقها، افتتاح بآيات قرآنية، برامج رياضية….قراءة لأخبار، يحمل فيها صحيفة الاتحاد أو العلم، و مرات يحمل الشرق الأوسط، المستقلة….تلاوين صحف، يقرؤها و كأنه في غرفة الأخبار…هذا الكم الهائل من المعلومات، جعله من أهل السياسة على صغر عمره، ليلج باب الحرب الباردة و ما تعني، الحرب الأفغانية، الصومالية، الانتفاضة في الأقصى…الحركات السياسية…بل حتى الجيوش و قوامها….
في المرحلة الابتدائية، يظل الصغير، يحمل هم السياسة و التاريخ في لعبه، بشكل منفرد، كما يحمل الرجل الأمي مذياعه، وهم ما يقع في العالم من مستجدات و أحداث ترسم حركية التاريخ.
قد يجتمع الصبي و الرجل على نحو واحد، ليناقشا أمور السياسة من منظور مختلف، فلا هما ملزمان بالمعارف و العلوم، والشواهد و المدارس…يناقشان بوعي عذري ما استجد من أمور الحروب، وتقلبات الحكومات، و انتصارات الجيوش…فيجد الرجل متعته في الحكي و ربط الأحداث و تأصيلها….ويجد الفتى ضالته في كم المعلومات و المصطلحات، ليوظفها في لعبه الخاصة…
تمر أعوام، يثقل سمع الرجل، بات يخرج و مذياعه بأمتار بعيدا عن داره، فشوشرة و تشويش البحث عن قنواته المفضلة أزعج أهله و جيلهم الصاعد…جماعته لم تعد تأبه لمنطقه، فالمشارب تعددت، والأطباق تناسلت، وحده ظل وفيا لمذياعه الهرم، ولنقاء الصوت قبل ضجيج الصورة.
يسقط المذياع أرضا، فلم يجد له العجوز من يصلحه، حزن كثيرا، جال الدكاكين يبحث عن أمل توارى بين حجب التقنيات، مثله من الأجهزة كثير يصطف أمام زجاج الكهربائي الشهير، وافته المنية و بات ابنه خلفا له في المهنة، غير أن الشاب الصبي لم يسعف صديقه العجوز في اصلاح المذياع، فشغله الشاغل تركيب الصحون و السفر بين الأقمار من منزل إلى آخر….
هل تذكرني ؟
نعم و كيف أنساك.
شيء جميل، هلا أصلحت مذياعي، فلي ردح من الزمن، غاب عني الخبر، و بت لا أدري كيف حال العالم من بعد سقوط جهازي، لا تغريني التلفاز، و لا أستطيع صبرا أنتظر نشرة الثامنة و نصف…
مذياعك من الصعب اصلاحه، استغن عنه
لا يمكنني ذلك بني، حتى بصري لا يساعدني، ولا مصداقية لما تقوله الأخبار، غير لندن…هذه القنوات و ما تقول فيه تحريف و زيف، وادعاء تبثها أمريكا و الصهاينة…و تمر سريعا دون قراءة متفحصة…
بالعكس، الصورة و تعدد القنوات، المراسلون من عين المكان، أمور كثيرة تساعدك في رسم تصور خاص بك للخبر و قراءاته، دون أن يكون مصدرك واحد…كما من قبل.
هل سمعت يوما أن المذياع قد الفاحشة، هذه الصحون مفسدة للأسر، كما كانت التلفاز، كله أمر واحد، حتى و إن أرسلوا المراسلين و استقدموا الخبر من معقله، يبثون السموم و الأفكار الهدامة، و يريدون لنا أن نشاهدهم….حاول أن تصلح الراديو….أكون ممتنا لك.
دفاع العجوز عن جهازه، جعله يستشيط غضبا، خاصة حينما يتحدث الشاب عن الصحون و قنوات الفضاء…ما يسمعه عن هذه المستحدثات، عزز دفاعه عن صديقه العليل، لا يريد غيره، رغم التقادم، الذي من زاويته تقادم لذاته، على خلاف الصبي الذي ركب موجة التغيير، استمع للمذياع، وشاهد التلفاز و ركب الصحون….و مازال حاضرا يبحث عن الخبر بتجليات و آفاق أوسع، انبرى العجوز متواريا بعد أن حث الطلب على اصلاح مذياعه…فتح الشاب كرش الجهاز و تركها….يموت العجوز، يظل المذياع على حاله…طفل صغير يبحث مع أمه عن حجر مغناطيس طلبه المدرس في حصة النشاط العلمي، يقدم الشاب الحجر للطفل، وتنتهي قصة المذياع.