أحمد كفافى - رشيد... عروس البحر الباسلة المنسية

منذ زمن طويل وأنا أنتظر فرصة أغتنمها للكتابة عن مدينة رشيد، ليست تلك أول مرة أكتب عنها، بل سبقتها مرات ومرات جاءت فى شكل تحقيقات صحفية لمجلات سياحية واجتماعية مصورة سجلت جميعها تطور المدينة التى وقعتُ فى غرامها منذ أن وطئت قدماى أرضها لأول مرة فى صيف عام 1996.
و إذ أكتب عنها هذه الأيام فإننى أدعو المصطافين الذين يذهبون لقضاء العيد فى مدن قريبة منها كالإسكندرية وبلطيم والساحل الشمالى...أدعوهم إلى تمضية يوما هناك لتشجيع السياحة التاريخية الثقافية والسعى لاستزاده معرفتنا بتاريخ بلادنا العريق.
رشيد....عروس بحر مصر فى العصور الوسطى و بوابة مصر والشرق...هى الباسلة التى لولا شجاعتها لم تسنى لمصر أن تصنع تاريخها الحديث. هى أول صفحة من صفحات تفاعل الشرق مع الغرب فرشيد أحد الثغور التى تجلى عندها تفوق الغرب الذى شرع يطمع فى ثروات الشرق، وهى مسرح لمعركة تاريخية ما تزال كتب التاريخ تمر بها مرور الكرام!
تقع رشيد على بعد 100 كيلو متر فقط من الإسكندرية وهناك العشرات من عربات الميكروباص التى تنقل الركاب إليها من موقف أتوبيسات الإسكندرية العام بسعر لا يتجاوز الأربع جنيهات.
هناك ألف سبب يجعل من رشيد أشهر مدينة ساحلية بعد الإسكندرية، فتاريخيا هى التى قامت بالتصدى لمحاولة بريطانيا الأولى لإحتلال مصر عام 1807 عقب فشل ورحيل الحملة الفرنسية على مصر و التى جرت بين عامى 1798-1801.
وأثريا هى ذات المدينة التى تم فيها اكتشاف حجر رشيد عند مرسى قلعة قايتباى ( وهى قلعة شيدها السلطان قايتباى المملوكى قرب مصب رشيد الاستراتيجى وأحيانا يتم الخلط بينها و بين قلعة قايتباى السكندرية)، حيث كان يحمل الحجر أحد الصيادين ليربط به حبل قاربه، فاكشتفه أحد ضباط نابليون وأرسله إلى فرنسا.
فى عام 1996 لم يكن الطريق الدولى قد شيد بعد، فذهبت إلى المدينة عبر الطريق الزراعى الذى يبدأ عند أبى قير، ولم يضيع حتى الآن من ذاكرتى هذا المنظر الخلاب عند مدخل رشيد حيث رأيت نهر النيل وهو يشق طريقه إلى البحر وسط حقول وبساتين نخيل باسقة خلابة، ثم كان دخولى إلى المدينة بمثابة صدمة نسبية: فلقد كانت ريفيه خالصة لا يوجد بها كورنيش ولا مرافق صحية، تنتشر فيها مصانع الطوب الأحمر و قوارب الصيد وأسواق الخضروات و السمك.
لكن لحسن الحظ كان قطاع الآثار وقتئذ قد انتهى من ترميم البيوت القديمة كبيت البواب وبيت الأمصيلى و بيت ثابت وبيت البقراولى الذى بنى بجواره مسجد يحمل نفس الأسم وبيت حسين عرب كلى حاكم رشيد إبان الحملة الفرنسية وطاحونة شاهين التى تقع فى بيت الطوبجى أحد ضباط المدفعية المملوكى و الذى فر تاركا أملاكه لخادمه شاهين بعد أن بدأ محمد على فى مطاردة فلول المماليك.
تنتشر تلك المنازل وغيرها فى منطقة السوق القديم عند مدخل المدينة التى تحتوى على اثنين وعشرين منزلا إسلاميا وهذا أكبر عدد لا ينافس رشيد فيه إلا القاهرة الإسلامية فى الجمالية و الأزهر. هناك أيضا مساجد كمسجد زغلول والجندى وأبى مندور والعباسى وحمامات تركية كحمام عزوز.
عندما عدت إلى المدينة عام 2006 كانت قد تغيرت تغيرا جذريا ضمن خطة طموحة وضعت لتطوير مائة مدينة مصرية. أصبح لديها كورنيش رائع يمتد عبر أجزاء متباينة من المدينة، فهو يبدأ من الجنوب حيث تقع قصور الموسرين والأعيان، ويمر بوسط المدينة الموازى للسوق ومتحف رشيد و ينتهى بضعة كيلو مترات قبيل المصيف الذى يقع قرب البوغاز ( المصب).
ارتفع منسوب البحر فأغرق المصيف فتم تحويله لمنطقة جديدة ورفعت سدود صخرية عند المصب لتمنع جور البحر على اليابسة.
للأسف جاءت تداعيات ثورة يناير لتضع حدا لطموح رشيد السياحية... لكن مهما مر عليها الزمان فهى تتمتع بمقومات خالدة، فمن قُدر له أن يحسد ما وهبه الله لمصر فليزر مدينة رشيد: هناك بحر ونهر، أسماك نيلية و بحرية وزراعة وحقول واسعة وبساتين نخيل هى الأكبر و الأجود فى البلاد، هناك تاريخ و آثار، وحرف كصيد وزراعة الأسماك وتصنيع طوب البناء و الأقفاص والتحف من سعف النخيل، كل ذلك فى مساحة صغيرة لا تتعدى كسرا من مساحة الإسكندرية.
كانت هناك خطة لنقل السوق القديم بعيدا عن مدخل المدينة حتى يتسع المكان لجولات الزائرين وسط المنازل الأثرية و لكننى أرى أنه جزء لا يتجزأ من حياة الناس فرشيد كانت ولا تزال نموذجا للإقتصاد الزراعى فى العصور الوسطى. سألنى كثيرون: من هم البقراولى والأمصيلى و ثابت وغيرهم؟ أغلبهم كانوا تجارا أتخذوا من موارد رشيد قاعدة لتجارتهم. المنازل نموذج لمعمار البيت الإسلامى الذى يقف عنده الدارسون و الأثريون طويلا.
لكننا وسط هذا الخضم من المقومات و الخصائص الفريدة لا نعرف ـــ و أشدد على أننا لا نعرف ــ أن رشيد هى بحق المدينة الباسلة، كانت فعلا كذلك قبل بورسعيد بنحو مائة و خمسين عاما،والسبب؟
كُتب التاريخ تمر على حملة فريزر مرور الكرام فتصورها على أنها غزو لبعض السفن الإنجليزية للمدينة الساحلية ولكن تلك الصفحة التاريخية أكبر من ذلك بكثير ولعل الإستعمار البريطانى لمصر الذى دام سبعون عاما هو الذى قصد أن يمحو هزيمته النكراء فى رشيد من التاريخ.
لابد أن نعود ونقرأ التاريخ من مصادره لا من كتب المدرسة لنعلم أنه:
أولا: أن حملة فريزر معروفة تاريخيا بإسم حملة الإسكندرية ( لا فريزر) وكان قوامها ستة آلاف جندى بقيادة الجنرال فريزر الذى أتى بهذا العدد القليل معتمدا على مساندة المماليك الذين لجاءوا إلى التحالف مع الإنجليز لخلع محمد على بالقوة بعد أن فشلت بريطانيا فى فعل ذلك بوساطة السلطان العثمانى الذى كان ميالا للتعامل مع الفرنسيين. لكن الأقدار أبت غير ذلك فقد مات الألفى بك زعيم المماليك وهربت فلولهم إلى الصعيد حيث تتبعهم محمد على للقضاء عليهم هناك. كانت الخطة تهدف إلى سيطرة الإنجليز على الساحل و المماليك على القاهرة.
ثانيا: سلمت الإسكندرية للقوات البريطانية، كانت فى حكمها تابعة للسلطان العثمانى وليس لحكومة مصر وكان حكامها ممن باعوا ذممهم للمماليك. انتظر فريزر قدوم المماليك لكن لما علم بوفاة الألفى قرر أن يتقدم لبناء قاعدة عسكرية فى رشيد التى وصلتها أنباء وصول الإنجليز من القاهرة والأستانة.
ثالثا: تقدمت القوات البريطانية سيرا على الأقدام من الإسكندرية إلى رشيد و ليس عن طريق البحر كما هو شائع. وصلوا إلى المدينة و قد حل بهم التعب من طول المسافة فوجدوها خالية فظنوا أنها استسلمت كالإسكندرية. طرحوا أسلحتهم أرضا وراحوا يغطون فى نوم عميق عندما سمعت صيحة (حى على الجهاد) من فوق إحدى مآذن المدينة فخرج الأهالى حاملين جميع أنواع الأسلحة البيضاء من سكاكين و أوان طهي وسيوف وأنقضوا على الجنود الإنجليز فقتلوا وجرحوا منهم الكثير ولاذت البقية منهم بالفرار. لم يكن هناك إلا حامية عسكرية صغيرة لرشيد ورفض الأهالى انتظار قوات الشراكسة و الارناؤوط لما عرف عنهم بالسلب والنهب.لم يكن هناك غير الاعتماد على النفس. سد على بك السلانكى حاكم رشيد جميع مداخل المدينة لمنع الأهالى من الهرب وإجبارهم على المقاومة.
من العجيب أن تتوقف كتب التاريخ فى تناول حملة فريزر عند هذه النقطة!! وكأن الإنجليز كانوا ليقنعوا بالعودة إلى بلادهم بعد أن قتل منهم عدد قليل بالسكاكين!!
لا..للمعركة بقية....بقية يسدل عنها الستار
رابعا: قرر الإنجليز محاصرة المدينة فعادوا بقوة قوامها أربعة آلاف جندى مدعمة بالمدافع والذخيرة و العتاد وعسكروا عند منطقة الحماد جنوبى رشيد وشددو عليها الحصار وظلوا يقصفونها طوال اثنى عشر يوما بالقنابل و المدافع فدمروا البيوت و قتلوا أعدادا كبيرة من الأهالى الذين رفضوا الاستسلام.
خامسا: لما سمع المماليك بأنباء هزيمة الإنجليز فى رشيد مالوا إلى مهادنة محمد على الذى مال أيضا لمهادنتهم، كانت خدعة من الطرفين استطاع بها محمد على العودة إلى القاهرة وإعداد قوة كبيرة زحفت شمالا لدعم أهالى رشيد. لم يجرؤ الإنجليزعلى مهاجمة رشيد لتفوق عدد فرسان المصريين و ظنا أن قوات المماليك كانت فى طريقها لنجدتهم. لكن تخلى المماليك عنهم وآثروا التريث. ظلوا يقذفونها بالمدافع متعجبين من قدرة أهلها على الصمود.
سادسا: وصلت قوات محمد على فتغير ميزان القوى قرب الحماد وبعد أيام من المناوشات والقتال هزم الإنجليز هزيمة نكراء فقتلوا عن بكره أبيهم و من لم ينج من القتل وقع فى الأسر فكانت حصيلة القتلى 416 والأسرى 400.
ويقول الجبرتى فى وصف موقعة الحماد:
"فلما كان يوم الأحد 26 محرم سنة 1222 (أبريل سنة 1807) أشيع وصول رؤوس القتلى ومن معهم من الاسرى الى بولاق فهرع الناس الى الذهاب للفرجة ووصل الكثير منهم الى ساحل بولاق وركب ايضا كبار العسكر ومعهم طوائفهم لملاقاتهم فطلعوا بهم الى البر وصحبتهم جماعة العسكر المتسفرين معهم فأتوا بهم من خارج مصر ودخلوا من باب النصر وشقوا بهم من وسط المدينة وفيهم فسيال (ضابط) كبير وآخر كبير في السن وهما راكبان على حمارين والبقية مشاة في وسط العسكر ورؤوس القتلى معهم على نبابيت وعددها أربعة عشر رأسا ،والأحياء خمسة وعشرون، ولم يزالوا سائرين بهم الى بركة الأزبكية وضربوا عند وصولهم شنكا ومدافع وطلعوا بالأحياء مع فسيالهم الى القلعة وفي يوم الاثنين وصل ايضا جملة من الرؤوس والاسرى الى بولاق فطلعوا بهم على الرسم المذكور وعدتهم مائة وواحد وعشرون رأسا، وثلاثة عشرة أسيرا وفيهم جرحى."
ما أشبه هذا المشهد بنظيره الذى ظهر فيه الضابط الإسرائيلى عساف ياجورى أسيرا يحوطه جنوده من الأسرى بعد حرب السادس من أكتوبر عام 1973. للأسف لم تكن هناك كاميرات ولا صحف و لا وكالات أنباء لتخلد ذكرى نصر المصريين و عار الإنجليز.
لقد رحل الأنجليز بعد أن دخلوا فى مفاوضات لاستعادة الأسرى، وشرع محمد على فى تأسيس دولة حديثة التى لولا معركة رشيد لما قدر له أن يؤسسها. لقد أدرك بعد موقعتى رشيد و الحماد أهمية المصريين فى الدفاع عن بلادهم، فراح يؤلف جيشا مصرىا وصل به إلى حدود الأستانة. عاد الإنجليز لاحتلال مصر فى سبتمبر عام 1882 لكن كانت النهضة التى أسس لها محمد على الفضل فى مقاومتهم و أثبتت أن الإستعمار ليس مرادفا للتقدم والمدينة.
لكن...خسرت رشيد مكانتها كعروس للبحر بعد أن أدرك محمد على استراتجية موقعها فى تسهيل السيطرة على البلاد، فحول النشاط التجارى البحرى منها إلى الإسكندرية.
من المؤسف أن يحزن الأهالى عندما تقام إحتفالات ذكرى موقعة رشيد فى دمنهور وذلك ليس أكثر من كونها عاصمة لمحافظة البحيرة التى تقع فيها المدينة الباسلة. لقد آن الأوان أن نحيها تاريخيا و أثريا و سياحيا.
هناك عبرة سارية المفعول تركتها لنا موقعة رشيد و تكمن فى أن تماسك الجبهة الداخلية، سواء كانت بضعة آلاف أو ملايين، هى المفتاح الحقيقى لهزيمة العدوان فى كل زمان و مكان.
.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى