الرّابعة صباحاً وبعضُ دقائق. جسدٌ ضئيلٌ يتهادى في تعرّجات طريق خالية. رذاذُ ضباب غريب في مدينة غيرِ مُتعوّدة بعدُ على رذاذ ولا ضباب. النّسماتُ الباردة لا تجد سبيلاً لتلمَس الجسم إلا من خلال الوجه. المصابيح العمشاءُ ترسل أضواءها الشّحيحة، التي تُنير بالكاد طرقات الحيّ الناعس. الحشراتُ التي تتجمّع، في أوقات الحرّ، في دائرة الضّوء، مُقدّمةً نفسَها، تباعاً وطواعيةً، قرابينَ للنار، اختفتْ؛ طردَها بردُ فبراير. بعضُها فقط ما زالت تُصرّ على ظهور مترنّح بين لحظة وأخرى. غريبٌ كيف ينتهي المطاف بهذه الحشرات، أحياناً، إلى داخل فمك أو خياشيمك بالضّبط حين تتثاءب أو تعطس.
متدثراً بكلّ ما في دولاب الملابس، وفوق ظهري حقيبة ثقيلة، ربّما بدوتُ مجرّدَ شبح لبعض هؤلاء الذين يمرقون، مثل أشباح، فوق درّاجاتهم البخارية أو في جوف عرباتهم الهادرة. الحقيبة الملأى بالتفاح والجوز واللوز تزيد مشيتي ميلاناً. في داخلها نصيبي من خيرات حضرتْ خلال الأسبوع من البْلاد. مُنتشياً، وبتحفّزٍ مُحبٍّ، واصلتُ تخيّلَ بقيةَ يومي، خاصة فترة ما بعد العمل. مُترنّحاً، كما لو احتسيتُ لتوي لتراً أو يزيد من ماء الحياة، واصلتُ سيري غيرَ حافل بنظرات العابرين القلائل الذين يرمُقونني بأطراف أعينهم. تخيّلتُني أُقشّر تفاحتي الأولى في نهاية هذا اليوم، الذي توقّعتُه طويلاً ومتعِباً. حين سأكون وحدي، أخيراً، سأكسِر مقدار حفنتَيْن من الفاكهتين الألذّ عندي، واحدة من اللوز وأخرى من الجوز، ثم أغسل التفاحة وأضع الكلّ في طبق وأجلس إلى جهازي. سأختار تفاحتي الأولى بعناية خاصة. تلك طقوسي التي لا أتنازل عنها. سأبدأ بقضم التفاحة الأفضل والأنضج والألذ في نظري، فالتي تليها، إلى أن آتيَ، في النهاية، على ما كلّ في الحقيبة، من تُفّاحٌ ناضج وغير ناضج. العشاء؟ سأكون قد تناولتُه في الخارج، في "ريسطو" الشّريفية القريب غالباً. لا وقتَ لديّ لغسل الخُضَر وإعدادها وللطبخ، ثم رفع الأواني وغسلها من جديد وترتيبها في أماكنها فوق الطاولة، هناك في ذلك الركن من الغرفة الباردة.. الأزمنةُ مسرعة والمهنةُ مَتاعب.
عندما اقتربتُ من آخر مُنعرَج يقود إلى الشارعْ الكْبير، لاحتْ لي صناديقُ القمامة في مكانها الأزليّ، عند تقاطع طرُق الحيّ النائم عدَا من مسخوط. لن يكون إلا مسخوطاً مَن يغادر بيته في هذا الوقت! لا، ليس بالضّرورة؛ قاطعتُني، الرغيف حارّ، وْلد لحّرام. قد تجعلك مطارَدتُه في مصافّ السكارى وما أنت سكران، في جمْع المشرّدين وما أنتَ منهم، أو في صفّ المساخيط وما أنت بمسخوط. فوق ذلك، الفياقْ بكري بْالذهْب مْشري! غيرَ عابئ بحركة البشر، على قلتهم، ولا الحيوان والحشَر، واصلتُ التقدّم إلى الأمام. الأصوات والأشياء والحركات صارت جزءاً من لحظة أسبوعية مكرورة حدّ الضجَر. تفاصيلُ الرحلة السيزيفية تعاد كل أسبوع أو أسبوعين، حتى صار المشهد مُملّاً. لكنْ سرعانَ ما حدثَ ما جعل كلّ حواسي تُستنفَر دفعة واحدة. كأنّ كل ذرّة في كياني استفاقتْ بغتةً من شرود ما زال يستبدّ بالكيان.
في العادة، تكون هنا كلابٌ كثيرة، تقتاتُ على ما فضُل من بقايا طعام البشر. عمّال النظافة يُشتّتون في الأرجاء مُحتوياتِ صناديق القمامة ويتركون جانباً ما تقتات به سلالة بني "قَنوع". لا شيءَ أو أحدا أو قانوناً يُجبرهم على ذلك، لكنهم اعتادوا على الأمر. صار كما عُرفٍ غيرِ مكتوب بين هؤلاء البشر والحيوانات الشّريدة. ما إن تبتعد شاحنتهم، التي تزور المكان يومياً لكنْ في ساعات لاحقة، حتى تعود هذه الكائنات الجائعة إلى محيط القمامة. تتناهش العظامَ، وبعض الشّحوم والجّلاطْط، وهي تتطلّع إلى كلّ قادم. قد يحمل واحدا من تلك الأكياس البلاستيكية ويتركها بجوار الصناديق الحديدية الصّدئة ويبتعد دون أن يلقيّ بها إلى داخل أحد هذه الأقفاص. ملعونٌ هذا العلوّ في حوافّ الصندوق البائس، تقول الكلاب وهي تتطلع، بِأَسًى ظاهر، إلى الصناديق، مُتحسّرةً على النّعَم التي يُحتمَل أن تكون فيها. كلّ الكائنات تلعن الإقصاء. بئسَ هذه الحيطان العالية. حتى القمامة صارت لها أسوار! تُفكّر الكلاب. وأنا أواصل ملاحقة ما تفكّر فيه الكلاب والأشياء والحشرات وهوامُ الليل وبدايات الصّباح. "سْعداتكم، نتُوما غيرْ كلابْ وتتلقاوها واجْدة.. خُوكم، وْالله ما ضرْب عْليها تمّارة النّهارْ كامْل لا شداگها! التّسعودْ خاصّها تلقاكْ فْالببيرُو، وْمنّها حْتّى للرّبعة أو الخمْسة ديالْ لعشيّة ما كايْن غيرْ خبْط فالكلافيي وْقُل ما خبطتْ والُو. النّهارْ كامْل باش تْجيب طرفْ تلخبزْ، وْربّما ما فيه حْتّى ريحْة الشّحمة بعضْ المرّات، وْنتوما كلّشي تيجيكمْ حْتّى لحْداكم"... أحاول طَرْد أفكاري الغريبة، لكنْ لا أستطيع. قد تكون الكلاب أكثر حظّاً من أسيادها أحياناً.
لم أرَ غيرَ "قنوع" وحيد، بجلدٍ بُنيّ فاقع مريب. الحمدُ لله، قلتُ لي، وأنا أستحثّ الخطى نحـو الشارع الرئيسي. لففتُ على مبنى "پوستْ الضُّو" وقد اطمأنّ قلبي: لن أتعرّضَ لهُجوم مُحتمَل من هذه الوُحوش الجائعة والنّاسُ نيام؛ كما يُصوّر لي خيالي الجامحُ على الدّوام كلّما اضطررتُ إلى عبور هذا "الصّراط" الصّباحي، في رحلتي السّيزيفية الدّورية.
فجأة، أقعى الكلبُ عـى مُؤخّرتِه (الوسِخة، قلتُ لي، بابتسامة شامتة) وشرَع في إصدار صوتٍ غريبٍ بدا لي أقربَ إلى عواء ذئبٍ منه إلى نباحِ كلب جائع، أجرَبَ. رُحتُ أتأمّلُ هذا الكائنَ العجيبَ، بصوتِه الذي فاجأني، بل أفزعني، خُصوصا وقد راحَ مع كُلّ "عوْعَـوةٍ" يرفع خنشوشه نحو السّماء، تماماً كما تفعل الذئاب في الأفلام الوثائقية وفي أفلام "الخْليع" الهوليودية. ودون سبب، رجّحتُ أن يكون صوتُه نداءً لبَني جلدته لتُهاجمني وتنهشَ عظامي المسكينة. لم أكن بشجاعة ولا براعة كيفنْ كوستنرْ حتى أرقصَ مع الذئاب (الكِلاب في حالتي هذه). تخيلتُ، في المقابل، "رقصَ" عبد السميع بنصابر مع الأموات، وأنا أستحضر أسوأ السّيناريوهات: أن تظهرَ، فجأة، جحافِلُ الكلاب التي اعتادت التربّص بهذه الصناديق اللّعينة وتشُنّ هجوماً مُباغتاً عليّ؛ وحيداً، عليلاً وأعزلَ في هذه الساعة المُبكّرة ولا منقذاً مُحتمَلاً في الأرجاء، وتعبثَ بعظام جسدي، واللّحمُ قليل!
من حُسن حظّي أنْ لمْ يكن هناك غيرُ كلب آخرَ (بلونِ الأول وشكله وحجمِه تماماً إلى درجة أنني فكّرتُ في أنهما قد يكونان توأماً). كان مُقعيّاً على مُؤخّرته (المُتّسخة، كذلك، حتماً) وهو "يتواجب" مع مُحاوِره بطريقةِ العُواء ذاتها. استبدّ بي الرّعبُ والفزع. زاغَتْ عيناي في المكان، تبحثانِ عـن المُخلّص الوحيدِ المُمكن: الحجَر! دنوتُ مِن حوضِ شُجيرة فيه كومُ حجارةٍ على المقاس. كأنّها وُضعت هناك من أجلي، تلك الحجارة! تخيّرتُ أربعَاً منها ممّا تشتهي قبضة يُمنايَ، التي كانت (ذاتَ طفولة بعيدة) قلّما تُخطئ هدفاً. وتابعتُ سيرِي، وأنا ألتفتُ، بين خطوة وخطوتين، نحو الكائنَين الغريبَين، مُتوجّساً من هُجومٍ مُحتمل في أي لحظة. شرعتُ أسألُني، وقد تداخلتْ في ذهني المكدود بفعلِ قلّة الدّقائق التي "غفـوتُ" خلالها، أسئلة غـريبة: هل هذان كلبانِ حقّاً أمْ مِن فصيلةٍ أخرى؟ أمْ تُراهُما كائنانِ من عالَم "بْسمْ اللهْ الرّحمن الرّحيمْ"؟ ثم ماذا يكون مصيرِي لو ظهر جيشٌ منها فعلا على حين غرّة، استجابةً لهذا النداء المبهَم من الكلبَين /الذئبين؟
حينما ابتعدتُ عنهما بما يكفي واطمأننتُ إلى أنهما لا ينويان مُهاجمتي ولا تحريضَ كلاب /ذئاب أخرى على ذلك، تخلّصتُ من الحجَرات إلا واحدةٍ، أملى عليّ حدسي أن أحتفظ بها. وفي محلّه كان حدسي! بلغتُ، أخيراً، الشارعَ الرّئيسي. زاد اطمئنانِي وتنفّستُ الصّعداء، أو كدتُ... فما إنْ خطوتُ أولى خطواتِي لأقطع الطريقَ نحو الجهة الثانية، حتى لاحتْ لي درّاجة بخارية فـوقها مخلُوقانِ آخران لا يقلاّن غرابة وبؤساً عن "القنُوعَيْن" اللذَين تركتُ خلفي. كان الطريق واسعا بما يكفي لأن تعبُرَ فيه عربتان أو أكثرَ تَوازياً بلا مشاكل. كما كانت المسافة التي تفصلني عن الدّراجة تسمح بأنْ أمُرّ بسلام وتمرّ. لكنْ يبدُو أنّ راكبَيها مخلوقان بنوايا غيرِ طيّبة على الإطلاق. وأنا في منتصف الطريق، لاحظتُ أنّ سائقَ الدّراجة يتعمّد توجيهَها نحو نقطة سَيْري. ربّاه، ما هذه المصيبة الصّباحية! كلما راوغتُ السّائقَ البغلَ أصَرّ على توجيه المقود في اتجاهي. إنْ تراجعتُ إلى الخلف وجّه ناقلتَه (صينية الصّنع في الغالب) صوبَ وجهتي...
حين دَنا أكثرَ وصارَ الخطرُ أقربَ إليّ، أيقنتُ من أنّهما قاطِعَا طريق مُتمرّسان، وربّما قاتلان مُحترفان. ووحْدَه حدسي أنقذنِي مرّة أخرى. ربّما بفضل الحجارة التي أبقيتُ في يُمناي، وربّما بفضل سرعة بديهتي. أوهمتُ المخلوقَ البشعَ، ذا النّوايا الإجرامية -وقد صار قريباً جدّا مني- بأنني سأتراجع إلى الخلف، فوجّهَ المقـودَ صوبَ خطوتي المُتراجعة، لكني غافلتُه وتقدّمتُ إلى الأمام، في حركة سريعة ومباغِتة، وصرتُ فوق الطّوار. فاجأه تمويهي، فواصلَ طريقه دون أن يجرؤ على الالتفات نحوي. في الغالب كي لا أتبيّنَ ملامحه المُجرمة، أو ربّما لأنه انتبه إلى الحجَرة في يدي وخاف على رأسِه الغبيّة من رمية قد تكون قاتلة. وحدَه مُرافقُه راح يُلوّح لي بيدَيه، بحركات مُتشنّجة دون أن يلتفتَ، بدوره، كثيرا.
لعنتُ أجدادَهُما وقدَري العاثرَ، الذي حكم عليّ بأن أحملَ، في هذا الصّباح للهْ تحديدا، حقيبة ظهرٍ ثقيلةً للغاية، أعاقتْ كثيراً رغبتي في تصويب رميةً نحوهما. راقبتُهما إلى أن ابتعدا. (يا إلهي، ماذا فعلتُ كي تتسلّط عليّ أربعة كلابٍ غريبة والنهارُ لم يطلعْ بعدُ؟!) رُحتُ أسألُني، وأنا أنفثُ، بتوتّر ظاهر، دخانَ سيجارة، مستنداً إلى إشارة المُرورٍ قبالة المطار. لكنْ، مهلا، فكّرتُ وأنا أنتظر سيارة أجرةٍ. لولا الكلبان /الذئبان لَمَا كنتُ تناولتُ تلك الحجرة التي ساهمتْ في إنقاذي من ذينك اللصّين المقرفَين. ورغم أنني لم أجبّ الكلاب يوماً، رغم كل ما قيل عن وفائها وغيره ويقال، تمنّيتُ لو استطعتُ العودة لأشكرَ ذينك المخلوقَين على صنيعهما.
بعد دقائق توقّفت سيارة استجابةً لإشارتي. طلبتُ من السائق أن يوصلني إلى محطة القطار. هناك، كانت تنتظرُ الدّابة الحديدية التي ستُقلّني، في هذه الرّحلة المحفوفة بالمخاطر، صعوداً نحو مُدن الشّمال، والمهنةُ... مَتاعب.
متدثراً بكلّ ما في دولاب الملابس، وفوق ظهري حقيبة ثقيلة، ربّما بدوتُ مجرّدَ شبح لبعض هؤلاء الذين يمرقون، مثل أشباح، فوق درّاجاتهم البخارية أو في جوف عرباتهم الهادرة. الحقيبة الملأى بالتفاح والجوز واللوز تزيد مشيتي ميلاناً. في داخلها نصيبي من خيرات حضرتْ خلال الأسبوع من البْلاد. مُنتشياً، وبتحفّزٍ مُحبٍّ، واصلتُ تخيّلَ بقيةَ يومي، خاصة فترة ما بعد العمل. مُترنّحاً، كما لو احتسيتُ لتوي لتراً أو يزيد من ماء الحياة، واصلتُ سيري غيرَ حافل بنظرات العابرين القلائل الذين يرمُقونني بأطراف أعينهم. تخيّلتُني أُقشّر تفاحتي الأولى في نهاية هذا اليوم، الذي توقّعتُه طويلاً ومتعِباً. حين سأكون وحدي، أخيراً، سأكسِر مقدار حفنتَيْن من الفاكهتين الألذّ عندي، واحدة من اللوز وأخرى من الجوز، ثم أغسل التفاحة وأضع الكلّ في طبق وأجلس إلى جهازي. سأختار تفاحتي الأولى بعناية خاصة. تلك طقوسي التي لا أتنازل عنها. سأبدأ بقضم التفاحة الأفضل والأنضج والألذ في نظري، فالتي تليها، إلى أن آتيَ، في النهاية، على ما كلّ في الحقيبة، من تُفّاحٌ ناضج وغير ناضج. العشاء؟ سأكون قد تناولتُه في الخارج، في "ريسطو" الشّريفية القريب غالباً. لا وقتَ لديّ لغسل الخُضَر وإعدادها وللطبخ، ثم رفع الأواني وغسلها من جديد وترتيبها في أماكنها فوق الطاولة، هناك في ذلك الركن من الغرفة الباردة.. الأزمنةُ مسرعة والمهنةُ مَتاعب.
عندما اقتربتُ من آخر مُنعرَج يقود إلى الشارعْ الكْبير، لاحتْ لي صناديقُ القمامة في مكانها الأزليّ، عند تقاطع طرُق الحيّ النائم عدَا من مسخوط. لن يكون إلا مسخوطاً مَن يغادر بيته في هذا الوقت! لا، ليس بالضّرورة؛ قاطعتُني، الرغيف حارّ، وْلد لحّرام. قد تجعلك مطارَدتُه في مصافّ السكارى وما أنت سكران، في جمْع المشرّدين وما أنتَ منهم، أو في صفّ المساخيط وما أنت بمسخوط. فوق ذلك، الفياقْ بكري بْالذهْب مْشري! غيرَ عابئ بحركة البشر، على قلتهم، ولا الحيوان والحشَر، واصلتُ التقدّم إلى الأمام. الأصوات والأشياء والحركات صارت جزءاً من لحظة أسبوعية مكرورة حدّ الضجَر. تفاصيلُ الرحلة السيزيفية تعاد كل أسبوع أو أسبوعين، حتى صار المشهد مُملّاً. لكنْ سرعانَ ما حدثَ ما جعل كلّ حواسي تُستنفَر دفعة واحدة. كأنّ كل ذرّة في كياني استفاقتْ بغتةً من شرود ما زال يستبدّ بالكيان.
في العادة، تكون هنا كلابٌ كثيرة، تقتاتُ على ما فضُل من بقايا طعام البشر. عمّال النظافة يُشتّتون في الأرجاء مُحتوياتِ صناديق القمامة ويتركون جانباً ما تقتات به سلالة بني "قَنوع". لا شيءَ أو أحدا أو قانوناً يُجبرهم على ذلك، لكنهم اعتادوا على الأمر. صار كما عُرفٍ غيرِ مكتوب بين هؤلاء البشر والحيوانات الشّريدة. ما إن تبتعد شاحنتهم، التي تزور المكان يومياً لكنْ في ساعات لاحقة، حتى تعود هذه الكائنات الجائعة إلى محيط القمامة. تتناهش العظامَ، وبعض الشّحوم والجّلاطْط، وهي تتطلّع إلى كلّ قادم. قد يحمل واحدا من تلك الأكياس البلاستيكية ويتركها بجوار الصناديق الحديدية الصّدئة ويبتعد دون أن يلقيّ بها إلى داخل أحد هذه الأقفاص. ملعونٌ هذا العلوّ في حوافّ الصندوق البائس، تقول الكلاب وهي تتطلع، بِأَسًى ظاهر، إلى الصناديق، مُتحسّرةً على النّعَم التي يُحتمَل أن تكون فيها. كلّ الكائنات تلعن الإقصاء. بئسَ هذه الحيطان العالية. حتى القمامة صارت لها أسوار! تُفكّر الكلاب. وأنا أواصل ملاحقة ما تفكّر فيه الكلاب والأشياء والحشرات وهوامُ الليل وبدايات الصّباح. "سْعداتكم، نتُوما غيرْ كلابْ وتتلقاوها واجْدة.. خُوكم، وْالله ما ضرْب عْليها تمّارة النّهارْ كامْل لا شداگها! التّسعودْ خاصّها تلقاكْ فْالببيرُو، وْمنّها حْتّى للرّبعة أو الخمْسة ديالْ لعشيّة ما كايْن غيرْ خبْط فالكلافيي وْقُل ما خبطتْ والُو. النّهارْ كامْل باش تْجيب طرفْ تلخبزْ، وْربّما ما فيه حْتّى ريحْة الشّحمة بعضْ المرّات، وْنتوما كلّشي تيجيكمْ حْتّى لحْداكم"... أحاول طَرْد أفكاري الغريبة، لكنْ لا أستطيع. قد تكون الكلاب أكثر حظّاً من أسيادها أحياناً.
لم أرَ غيرَ "قنوع" وحيد، بجلدٍ بُنيّ فاقع مريب. الحمدُ لله، قلتُ لي، وأنا أستحثّ الخطى نحـو الشارع الرئيسي. لففتُ على مبنى "پوستْ الضُّو" وقد اطمأنّ قلبي: لن أتعرّضَ لهُجوم مُحتمَل من هذه الوُحوش الجائعة والنّاسُ نيام؛ كما يُصوّر لي خيالي الجامحُ على الدّوام كلّما اضطررتُ إلى عبور هذا "الصّراط" الصّباحي، في رحلتي السّيزيفية الدّورية.
فجأة، أقعى الكلبُ عـى مُؤخّرتِه (الوسِخة، قلتُ لي، بابتسامة شامتة) وشرَع في إصدار صوتٍ غريبٍ بدا لي أقربَ إلى عواء ذئبٍ منه إلى نباحِ كلب جائع، أجرَبَ. رُحتُ أتأمّلُ هذا الكائنَ العجيبَ، بصوتِه الذي فاجأني، بل أفزعني، خُصوصا وقد راحَ مع كُلّ "عوْعَـوةٍ" يرفع خنشوشه نحو السّماء، تماماً كما تفعل الذئاب في الأفلام الوثائقية وفي أفلام "الخْليع" الهوليودية. ودون سبب، رجّحتُ أن يكون صوتُه نداءً لبَني جلدته لتُهاجمني وتنهشَ عظامي المسكينة. لم أكن بشجاعة ولا براعة كيفنْ كوستنرْ حتى أرقصَ مع الذئاب (الكِلاب في حالتي هذه). تخيلتُ، في المقابل، "رقصَ" عبد السميع بنصابر مع الأموات، وأنا أستحضر أسوأ السّيناريوهات: أن تظهرَ، فجأة، جحافِلُ الكلاب التي اعتادت التربّص بهذه الصناديق اللّعينة وتشُنّ هجوماً مُباغتاً عليّ؛ وحيداً، عليلاً وأعزلَ في هذه الساعة المُبكّرة ولا منقذاً مُحتمَلاً في الأرجاء، وتعبثَ بعظام جسدي، واللّحمُ قليل!
من حُسن حظّي أنْ لمْ يكن هناك غيرُ كلب آخرَ (بلونِ الأول وشكله وحجمِه تماماً إلى درجة أنني فكّرتُ في أنهما قد يكونان توأماً). كان مُقعيّاً على مُؤخّرته (المُتّسخة، كذلك، حتماً) وهو "يتواجب" مع مُحاوِره بطريقةِ العُواء ذاتها. استبدّ بي الرّعبُ والفزع. زاغَتْ عيناي في المكان، تبحثانِ عـن المُخلّص الوحيدِ المُمكن: الحجَر! دنوتُ مِن حوضِ شُجيرة فيه كومُ حجارةٍ على المقاس. كأنّها وُضعت هناك من أجلي، تلك الحجارة! تخيّرتُ أربعَاً منها ممّا تشتهي قبضة يُمنايَ، التي كانت (ذاتَ طفولة بعيدة) قلّما تُخطئ هدفاً. وتابعتُ سيرِي، وأنا ألتفتُ، بين خطوة وخطوتين، نحو الكائنَين الغريبَين، مُتوجّساً من هُجومٍ مُحتمل في أي لحظة. شرعتُ أسألُني، وقد تداخلتْ في ذهني المكدود بفعلِ قلّة الدّقائق التي "غفـوتُ" خلالها، أسئلة غـريبة: هل هذان كلبانِ حقّاً أمْ مِن فصيلةٍ أخرى؟ أمْ تُراهُما كائنانِ من عالَم "بْسمْ اللهْ الرّحمن الرّحيمْ"؟ ثم ماذا يكون مصيرِي لو ظهر جيشٌ منها فعلا على حين غرّة، استجابةً لهذا النداء المبهَم من الكلبَين /الذئبين؟
حينما ابتعدتُ عنهما بما يكفي واطمأننتُ إلى أنهما لا ينويان مُهاجمتي ولا تحريضَ كلاب /ذئاب أخرى على ذلك، تخلّصتُ من الحجَرات إلا واحدةٍ، أملى عليّ حدسي أن أحتفظ بها. وفي محلّه كان حدسي! بلغتُ، أخيراً، الشارعَ الرّئيسي. زاد اطمئنانِي وتنفّستُ الصّعداء، أو كدتُ... فما إنْ خطوتُ أولى خطواتِي لأقطع الطريقَ نحو الجهة الثانية، حتى لاحتْ لي درّاجة بخارية فـوقها مخلُوقانِ آخران لا يقلاّن غرابة وبؤساً عن "القنُوعَيْن" اللذَين تركتُ خلفي. كان الطريق واسعا بما يكفي لأن تعبُرَ فيه عربتان أو أكثرَ تَوازياً بلا مشاكل. كما كانت المسافة التي تفصلني عن الدّراجة تسمح بأنْ أمُرّ بسلام وتمرّ. لكنْ يبدُو أنّ راكبَيها مخلوقان بنوايا غيرِ طيّبة على الإطلاق. وأنا في منتصف الطريق، لاحظتُ أنّ سائقَ الدّراجة يتعمّد توجيهَها نحو نقطة سَيْري. ربّاه، ما هذه المصيبة الصّباحية! كلما راوغتُ السّائقَ البغلَ أصَرّ على توجيه المقود في اتجاهي. إنْ تراجعتُ إلى الخلف وجّه ناقلتَه (صينية الصّنع في الغالب) صوبَ وجهتي...
حين دَنا أكثرَ وصارَ الخطرُ أقربَ إليّ، أيقنتُ من أنّهما قاطِعَا طريق مُتمرّسان، وربّما قاتلان مُحترفان. ووحْدَه حدسي أنقذنِي مرّة أخرى. ربّما بفضل الحجارة التي أبقيتُ في يُمناي، وربّما بفضل سرعة بديهتي. أوهمتُ المخلوقَ البشعَ، ذا النّوايا الإجرامية -وقد صار قريباً جدّا مني- بأنني سأتراجع إلى الخلف، فوجّهَ المقـودَ صوبَ خطوتي المُتراجعة، لكني غافلتُه وتقدّمتُ إلى الأمام، في حركة سريعة ومباغِتة، وصرتُ فوق الطّوار. فاجأه تمويهي، فواصلَ طريقه دون أن يجرؤ على الالتفات نحوي. في الغالب كي لا أتبيّنَ ملامحه المُجرمة، أو ربّما لأنه انتبه إلى الحجَرة في يدي وخاف على رأسِه الغبيّة من رمية قد تكون قاتلة. وحدَه مُرافقُه راح يُلوّح لي بيدَيه، بحركات مُتشنّجة دون أن يلتفتَ، بدوره، كثيرا.
لعنتُ أجدادَهُما وقدَري العاثرَ، الذي حكم عليّ بأن أحملَ، في هذا الصّباح للهْ تحديدا، حقيبة ظهرٍ ثقيلةً للغاية، أعاقتْ كثيراً رغبتي في تصويب رميةً نحوهما. راقبتُهما إلى أن ابتعدا. (يا إلهي، ماذا فعلتُ كي تتسلّط عليّ أربعة كلابٍ غريبة والنهارُ لم يطلعْ بعدُ؟!) رُحتُ أسألُني، وأنا أنفثُ، بتوتّر ظاهر، دخانَ سيجارة، مستنداً إلى إشارة المُرورٍ قبالة المطار. لكنْ، مهلا، فكّرتُ وأنا أنتظر سيارة أجرةٍ. لولا الكلبان /الذئبان لَمَا كنتُ تناولتُ تلك الحجرة التي ساهمتْ في إنقاذي من ذينك اللصّين المقرفَين. ورغم أنني لم أجبّ الكلاب يوماً، رغم كل ما قيل عن وفائها وغيره ويقال، تمنّيتُ لو استطعتُ العودة لأشكرَ ذينك المخلوقَين على صنيعهما.
بعد دقائق توقّفت سيارة استجابةً لإشارتي. طلبتُ من السائق أن يوصلني إلى محطة القطار. هناك، كانت تنتظرُ الدّابة الحديدية التي ستُقلّني، في هذه الرّحلة المحفوفة بالمخاطر، صعوداً نحو مُدن الشّمال، والمهنةُ... مَتاعب.