على حين غرة، وجدت نفسي وحيدة في عالم غريب لا أفقه عنه شيئا، مسافرة امثل بلدي لوحدي في بطولة للمصارعة، بعد ان اصيبت زميلتي وصديقتي وانيسة وحشتي في حادث عارض، اوجب علي السفر وتمثيل بلدي لوحدي.
في البدء، فكرت في الرفض، إذ كيف اسافر وأقيم في بلد دون ان تكون معي مصارعة زميلة لي، تتمم كل منا وجود الاخرى، غير ان رأي مدربي كان يحمل تحذيرا، فعدم السفر يعني عدم تمثيل بلادي، وهذا اخفاق سيلقي بمسؤولية ثقل الجبال على كاهلي، قد يصعب التخلص منه البتة.
كنت وسط بنات لا اعرف شيئا عن تقاليدهن، واجد صعوبة في فهم لهجتهن وما يتبادلنه من احاديث، لربما ابتسمن لي او كن لطيفات، لكنني لا اعرف كيف اتفاهم معهن، لاسيما وجميعهن يكبرنني عمرا ولربما كنت مجرد شابة صغيرة بينهن.
لست ادرك لم تأتي المعضلات مجتمعة وساعات الفرح فرادى، اذ بينما كنت انوء بثقل غربتي، جوبهت بامرأة ثقيلة الظل سليطة اللسان تنفث سمها كلمات ونظرات، تتبعها فتاة طويله ذات جسم رياضي جميل، وطول مميز، وقوام ممشوق.
كانت هذه المرأة الاربعينية هي أم خصمتي رندا، تلك الام الشرسة التي ترافق ابنتها دوما، وتتعامل بكل حقد مع منافسات ابنتها.
وقفت قبالتي وسألتني ان كنت انا طيبة ام لا، فهززت رأسي بالايجاب، عندئذ خاطبتني بلغة النحذير : انظري مليا لابنتي رندا، بطلة البطلات وقاهرة القويات، كم ستظنين نفسك تصمدين أمامها ياصغيرتي؟ من سيحملك بعد النزال الى حجرة اللاعبات الخاسرات؟
قالت كلماتها وغادرت وهي تسحب ابنتها على عجل، فتولد لدي ولاول مرة شعور غريب وقاس، غربة وخوف واحساس بوحشة عارمة مثل سواد ليل بلا نجوم..
طوال ساعات السحر، كنت افكر في هواجس الخوف والملل والضجر التي تنتاب الانسان، واتساءل عن سر وجودها فينا، كنت بشوق عظيم لاحضان أمي، شوق غير مسبوق من قبل، جعلني اتصل بها دون انتباه لوقت، وحين ردت علي اعتذرت لها لايقاظها، لكنها ردت علي بحنو تام :
ما كنت نائمة يا طيوب، هاجس ما ايقظني حين شعرت انك بضيق..
ياااااه، ما اعظمه شعور الام وما اكبره، ذاك الذي لا يعرف المسافات ولا تقف امامه الهواجس، اختنقت يعبرتي وسألتها دون تردد
-أماه، لم خلق الله فينا الخوف؟
-الخوف يا ابنتي وضعه الله تعالى فينا ليحمينا، وحاشا لله ان يضع الله شيئا هباء...
-وكيف يحمينا امي؟؟
-افترضي انك تودين عبور طريق متخم بالعجلات المسرعة المجنونه، ان لم يكن لديك شيء من الخوف على حياتك، ستعبرين دون النظر الى العراقب، وذلك هو الانتحار المحرم عينه..
-لكني اجد الخوف جبنا
-كلا حبيبتي، ليس الجبن هو الخوف، بل ان لا نتغلب على الخوف، وتأكدي يا حبيبتي أن معظم ما نخشاه، لا اصل له الا في خيالنا.
لا ادري كيف نمت على هدي كلماتها وصوتها الناعس الحاني، وكيف استيقظت صباحا وانا انسانة جديدة، وكيف أحسست بحب لجميع الفتيات رغم انا لا تجمعنا لغة، بل الإنسانية كلها، ثم كيف تشاءمت حين قدمت تلك الام الأشبه بالتنين ووقفت قربي وخاطبتني بلهجة مستفزة:
ماذا قررت؟
بخصوص ماذا؟
الانسحاب قبل ان تسحبي محمولة على ظهرك.
-هل لي ان اسألك سؤالا
-تفضلي..
-هل انت مصارعه
-كلا
-مدربة مصارعه، جزء من الفريق..
-كلا..
-اذن مالك ومصارعتي لابنتك، فتاتان تتصارعان، مادخلك في الامر؟
لم تجد الام ما تقوله وقد خرجت الكلمات منها مبعثرة مرتبكة
-لا احد يغلب ابنتي، لا احد.
-استغفري ربك عمتي، وتذكري ان الله وحده هو الغالب القهار، ثم انك تحبين ان تري ابنتك وهي تقهر خصماتها، فدعيها تقهرني، مالك تطوفين بها مثل الجواري بيننا؟
طأطأت الام راسها وانسحبت وهي بركان مستعر، بينما كنت اختلس النظر لابنتها، فاجد على قسمات وجهها شيئا من خجل واستنكار لما تقوم به امها، فخاطبتها وقد غادرت امها القاعة
هذه اخر مرة اسمح فيها لامك بالكلام معي، احترمت سنها وقدرت انك زميلتي، ولا تلوميني لو استفزتني اكثر ماذا ستلقى مني.
تركت رندا فلحقت بي وقبلتني معتذرة، وبدت عليها امارات الحياء التام، فربت على كتفها وقلت لها : سنتصارع غدا واعود الى بلدي في اسرع وقت، اتلمس فيك الطيبة وآمل لك الحظ السعيد دوما.
بقيت ارزح تحت ثقل التمارين الطويلة المرهقه وأكاد اذوب في الحديد، وتمرنت مع فتاة قوية من بلاد افريقية وتأكدت من قدراتي التي واجهت بها جمهورا لا اعرف فيه احدا، وقاعة ليس لي فيها من احد، لا ام لا شقيقة او صديقة، فقررت المواجهة وبصحبتي انسانة واحدة فحسب، هي طيبة.
نسيت كل ماحولي وانا اركز في خصمتي رندا صارعة البطلات، حتى صوت امها الاجش وصرخاتها المقرفة اغلقت اذني عنها، وصار الوجود كله مكثفا في خصمتي دون سواها، امسكت بها ولويت جزءها الاعلى وسقطنا ارضا، كانت تحاول المقاومة وبدت ماهرة قوية مقتدرة، كنت اخطط لمسكة بعيدة عن خيالها وتصورها، وكانت تحاول عبثا تثبيتي دون نتيجة.
كانت الجولة الثانية هي التي قررت ان تكون جولة الحسم، امسكت بها واحتضنتها وسقطت عليها، ثم ضغطت بكل قوة على اسفل ظهرها، بينما يطوق ثقلي جسمها، حاولت المقاومه ودفعي بعيدا، لكن الضغط والثقل والالام الفظيعة، جعلها تستسلم لمسكة التثبيت والصرعة، فهمست باذني ان انهي النزال، لان ظهرها يكاد ينخلع.
تركتها وقد خفت عليها حقا من قوة وعواقب هذه المسكة، نهضت ووقفت، فنهضت هي بصعوبة تامه، واعلن الحكم فوزي وجن جنون الام، التي أرادت التدخل فتم طردها شر طردة خارج القاعة، والجمهور كله يهتف :
طيوب.. طيوب.
عند حجرة الملابس، التقت اعيننا انا وخصمتي، فارتمت باحضاني وقبلتني بصدق مهنئة اياي، واكدت لي ان جميع محاولاتها للفوز علي باءت بالفشل، فقلت لها انت بطلة فذه،
لكنها اردفت : ان امي مريضة بحق وقد دمرت حياتي، فهي تخلق لي من خصماتي عدوات لدودات، حتى اني افكر حقا في الاعتزال ، لقد اخزتني مع الجميع، ومعك انت يا طيوب، احيانا تكون الغربة مع اقرب الناس لنا.
عانقتها واوصيتها بامها خيرا، فانسحبت وحمدت الله على نعمة امي الحبيبة، التي تعطرني دوما بحكمتها وجمالها، وكانت اخر وصاياها ان نخلق من الغربة وطنا، ومن الخوف مأمنا، وقد صدقت ، وكذبت المخاوف.
في البدء، فكرت في الرفض، إذ كيف اسافر وأقيم في بلد دون ان تكون معي مصارعة زميلة لي، تتمم كل منا وجود الاخرى، غير ان رأي مدربي كان يحمل تحذيرا، فعدم السفر يعني عدم تمثيل بلادي، وهذا اخفاق سيلقي بمسؤولية ثقل الجبال على كاهلي، قد يصعب التخلص منه البتة.
كنت وسط بنات لا اعرف شيئا عن تقاليدهن، واجد صعوبة في فهم لهجتهن وما يتبادلنه من احاديث، لربما ابتسمن لي او كن لطيفات، لكنني لا اعرف كيف اتفاهم معهن، لاسيما وجميعهن يكبرنني عمرا ولربما كنت مجرد شابة صغيرة بينهن.
لست ادرك لم تأتي المعضلات مجتمعة وساعات الفرح فرادى، اذ بينما كنت انوء بثقل غربتي، جوبهت بامرأة ثقيلة الظل سليطة اللسان تنفث سمها كلمات ونظرات، تتبعها فتاة طويله ذات جسم رياضي جميل، وطول مميز، وقوام ممشوق.
كانت هذه المرأة الاربعينية هي أم خصمتي رندا، تلك الام الشرسة التي ترافق ابنتها دوما، وتتعامل بكل حقد مع منافسات ابنتها.
وقفت قبالتي وسألتني ان كنت انا طيبة ام لا، فهززت رأسي بالايجاب، عندئذ خاطبتني بلغة النحذير : انظري مليا لابنتي رندا، بطلة البطلات وقاهرة القويات، كم ستظنين نفسك تصمدين أمامها ياصغيرتي؟ من سيحملك بعد النزال الى حجرة اللاعبات الخاسرات؟
قالت كلماتها وغادرت وهي تسحب ابنتها على عجل، فتولد لدي ولاول مرة شعور غريب وقاس، غربة وخوف واحساس بوحشة عارمة مثل سواد ليل بلا نجوم..
طوال ساعات السحر، كنت افكر في هواجس الخوف والملل والضجر التي تنتاب الانسان، واتساءل عن سر وجودها فينا، كنت بشوق عظيم لاحضان أمي، شوق غير مسبوق من قبل، جعلني اتصل بها دون انتباه لوقت، وحين ردت علي اعتذرت لها لايقاظها، لكنها ردت علي بحنو تام :
ما كنت نائمة يا طيوب، هاجس ما ايقظني حين شعرت انك بضيق..
ياااااه، ما اعظمه شعور الام وما اكبره، ذاك الذي لا يعرف المسافات ولا تقف امامه الهواجس، اختنقت يعبرتي وسألتها دون تردد
-أماه، لم خلق الله فينا الخوف؟
-الخوف يا ابنتي وضعه الله تعالى فينا ليحمينا، وحاشا لله ان يضع الله شيئا هباء...
-وكيف يحمينا امي؟؟
-افترضي انك تودين عبور طريق متخم بالعجلات المسرعة المجنونه، ان لم يكن لديك شيء من الخوف على حياتك، ستعبرين دون النظر الى العراقب، وذلك هو الانتحار المحرم عينه..
-لكني اجد الخوف جبنا
-كلا حبيبتي، ليس الجبن هو الخوف، بل ان لا نتغلب على الخوف، وتأكدي يا حبيبتي أن معظم ما نخشاه، لا اصل له الا في خيالنا.
لا ادري كيف نمت على هدي كلماتها وصوتها الناعس الحاني، وكيف استيقظت صباحا وانا انسانة جديدة، وكيف أحسست بحب لجميع الفتيات رغم انا لا تجمعنا لغة، بل الإنسانية كلها، ثم كيف تشاءمت حين قدمت تلك الام الأشبه بالتنين ووقفت قربي وخاطبتني بلهجة مستفزة:
ماذا قررت؟
بخصوص ماذا؟
الانسحاب قبل ان تسحبي محمولة على ظهرك.
-هل لي ان اسألك سؤالا
-تفضلي..
-هل انت مصارعه
-كلا
-مدربة مصارعه، جزء من الفريق..
-كلا..
-اذن مالك ومصارعتي لابنتك، فتاتان تتصارعان، مادخلك في الامر؟
لم تجد الام ما تقوله وقد خرجت الكلمات منها مبعثرة مرتبكة
-لا احد يغلب ابنتي، لا احد.
-استغفري ربك عمتي، وتذكري ان الله وحده هو الغالب القهار، ثم انك تحبين ان تري ابنتك وهي تقهر خصماتها، فدعيها تقهرني، مالك تطوفين بها مثل الجواري بيننا؟
طأطأت الام راسها وانسحبت وهي بركان مستعر، بينما كنت اختلس النظر لابنتها، فاجد على قسمات وجهها شيئا من خجل واستنكار لما تقوم به امها، فخاطبتها وقد غادرت امها القاعة
هذه اخر مرة اسمح فيها لامك بالكلام معي، احترمت سنها وقدرت انك زميلتي، ولا تلوميني لو استفزتني اكثر ماذا ستلقى مني.
تركت رندا فلحقت بي وقبلتني معتذرة، وبدت عليها امارات الحياء التام، فربت على كتفها وقلت لها : سنتصارع غدا واعود الى بلدي في اسرع وقت، اتلمس فيك الطيبة وآمل لك الحظ السعيد دوما.
بقيت ارزح تحت ثقل التمارين الطويلة المرهقه وأكاد اذوب في الحديد، وتمرنت مع فتاة قوية من بلاد افريقية وتأكدت من قدراتي التي واجهت بها جمهورا لا اعرف فيه احدا، وقاعة ليس لي فيها من احد، لا ام لا شقيقة او صديقة، فقررت المواجهة وبصحبتي انسانة واحدة فحسب، هي طيبة.
نسيت كل ماحولي وانا اركز في خصمتي رندا صارعة البطلات، حتى صوت امها الاجش وصرخاتها المقرفة اغلقت اذني عنها، وصار الوجود كله مكثفا في خصمتي دون سواها، امسكت بها ولويت جزءها الاعلى وسقطنا ارضا، كانت تحاول المقاومة وبدت ماهرة قوية مقتدرة، كنت اخطط لمسكة بعيدة عن خيالها وتصورها، وكانت تحاول عبثا تثبيتي دون نتيجة.
كانت الجولة الثانية هي التي قررت ان تكون جولة الحسم، امسكت بها واحتضنتها وسقطت عليها، ثم ضغطت بكل قوة على اسفل ظهرها، بينما يطوق ثقلي جسمها، حاولت المقاومه ودفعي بعيدا، لكن الضغط والثقل والالام الفظيعة، جعلها تستسلم لمسكة التثبيت والصرعة، فهمست باذني ان انهي النزال، لان ظهرها يكاد ينخلع.
تركتها وقد خفت عليها حقا من قوة وعواقب هذه المسكة، نهضت ووقفت، فنهضت هي بصعوبة تامه، واعلن الحكم فوزي وجن جنون الام، التي أرادت التدخل فتم طردها شر طردة خارج القاعة، والجمهور كله يهتف :
طيوب.. طيوب.
عند حجرة الملابس، التقت اعيننا انا وخصمتي، فارتمت باحضاني وقبلتني بصدق مهنئة اياي، واكدت لي ان جميع محاولاتها للفوز علي باءت بالفشل، فقلت لها انت بطلة فذه،
لكنها اردفت : ان امي مريضة بحق وقد دمرت حياتي، فهي تخلق لي من خصماتي عدوات لدودات، حتى اني افكر حقا في الاعتزال ، لقد اخزتني مع الجميع، ومعك انت يا طيوب، احيانا تكون الغربة مع اقرب الناس لنا.
عانقتها واوصيتها بامها خيرا، فانسحبت وحمدت الله على نعمة امي الحبيبة، التي تعطرني دوما بحكمتها وجمالها، وكانت اخر وصاياها ان نخلق من الغربة وطنا، ومن الخوف مأمنا، وقد صدقت ، وكذبت المخاوف.
