نثر في الشعر.. ترجمة: عبدالقادر الجنابي

جان لوي بدوان
الشعر

من المؤكد أنّه يوجد فينا ما يسمّيه نوفاليس "حسّاً خاصاً للشعر"، وهو حسّ شخصي إلى حد أنّ مؤلف "أناشيد الليل" قال: "إنّ مَن لا يعرف ولا يحسُّ مباشرة بماهيّة الشعر لا يمكنه أبداً أنْ يفقه معناه". وكان الرومانطيقيون الألمان أولّ من أعاد توضيح طبيعة الشعر الحقيقية التي هي إدراك مباشرٌ وحسيّ "بعيد كل البعد عن فنّ الكلام، عن الفصاحة". وقد يبدو من المفارقات أنّ الفن الرومانطيقي الذي كان يلهمه المبدأ القائل إن "الشعر هو الواقع المطلق" حسب عبارة نوفاليس قد استطاب التعبير عن عذاب القلب وسبر خباياه. ولا غرو، فهذا سرّ الغنائية ذاتها وسرّ قدرتها الإشراقية لأنها تعتمد ملكة المشاركة الوجدانية الكامنة في قلب كل إنسان. فأصدق ما يكون الشاعر وأقرب ما يكون من الآخرين عندما يكون فريسة "شياطينه" الحميمة ويبدو لنا غارقاً كلّ الغرق في مكافحته لها. ولا يتعجّب غير الأذهان الركيكة من إمكانية وجود أناس في مكان قادرين على التعرّف على أنفسهم في روح فذّة تعكس لهم في تسام صورة صراعاتهم ورغباتهم وتمرّدهم. فلا يمكن أن نفهم بودلير مثلاً ونحبّه إلاّ على هذا النحو، حتّى عندما يكشّر اشمئزازاً أو رعباً.
رغم بعض التأويلات الدهمائيّة، فإنّ كلمة لوتريامون الشهيرة: "الشعر يجب أن يكون من صنع الجميع، لا من صنع فرد واحدد". لا يمكن أن يحتجّ بها الستالينيون للدفاع عن "تأميم" الشعر بوجه من الوجوه. إنّها بالعكس تحتّم على الفرد أن يكتشف أو أن يعيد اكتشاف منابع الإلهام الشعري في نفسه ليقوّي بها إيمانه بحريّته وليستمدّ منها الطاقة الضرورية لإعطاء معنى لحياته.
فما إن يضعف الحسّ الشعري عند فرد ما حتّى يصبح أسير حياة تطوّقها ضرورات الحياة العمليّة من كلّ جانب. وليس الأدهى أن يستسلم لمثل هذه الحياة بل أن يتعلّق بها إلى حدّ يصبح العدول عنها إلى غيره أخشى ما يخشاه. فعندما يستولي عليه الخوف الطفولي من فقدان الأمن لا يتوانى عن بذل كلّ جهد حتّى يتماهى مع المثال المطَمْئِن الذي يقدّمه له المجتمع. وأمام المصائب الحقيقية التي تحلّ به أو تهدّده لا يرى من مخرج إلاّ اللجوء إلى الأوهام التي تبعده عن الواقع.
إن الشعر لا يبعدنا عن الواقع، بل يرجعنا إليه باستمرار. إنّه نداء إلى التمرّد على مظاهر الواقع الكريهة، إلى الثورة على كلّ سلطة ترضى بهذا الواقع أو تددّعي تبريره باسم "الواقعيّة" مثلاً. الشعر يحتّم علينا رؤية الأشياء كما هي ليشحذ عزيمتنا على تغييرها وتحويلها إلى ما هو أفضل. فهو إذن تمرّد وقانون: تمرّد مطلق وقانون أعلى. يرفض فوضى الأوضاع وحتميتها المزعومة، ويدعو للعمل من أجل إحلال الحريّة التي هي ضد الفوضى والتفسّخ الخُلُقي والعنف.
يتجذّر الشعر في الحياة اليومية فيتفجّر، تدفعه الطاقة المضغوطة في "كهوف الوجود"، ويصعد "واثباً تحرّكه الأشياء الخارقة التي يعجز اللسان عن تسميتها" (رامبو)، نحو تلك النقطة العليا التي جعل الفكر منها السوريالي المكان الأسطوري لتحالف جديد متحرّر في نفس الوقت من الآلهة القديمة ومن الإيديولوجيات التي تحاول أن تحلّ محلّ الديانات في سراديب الوعي الإنساني التي تسكنها، أكثر من أيّ وقت مضى، أشباح الثنويّة الرهيبة.
لقد دعا بروتون في "بيان السورياليّة" إلى الإقدام على "ممارسة الشعر"، والمقصود طبعاً ليس الاكتفاء بكتابة قصائدَ (أو قراءتها) لتحويل الشعر إلى ممارسة، ولا حتّى تعاطي "الكتابة الاوتوماتيكية"، كتابة التفكير التي، رغم كونها إحدى اكتشافات بروتون وفيليب سوبو الكبرى، سرعان ما تفقد فاعليتها ما إن تُستعمل لخدمة أهداف أدبيّة. وليس المقصود التخلّي عن كل حس نقديّ، بذريعة "أن يصبح الإنسان رائيّاً" بأقل ثمن، فنقع في الخطأ الشائع الذي يتمثّل في الخلط بين بريق الهذيان المشبوه ونور الإلهام. فالجنون، على حدّ علمنا، لم يسبغ العبقرية على أحد، وإن سقط في هوّته مبدعون كبار. المقصود هو الإصغاء إلى حديث سريرتنا، أن نكون على أهبّة لرصد كلّ ما يرتسم فيها، لا للتلذّذ بذلك الحديث أو بتلك الصورة لذّةً ساذجة وإرهاق الآخرين برجعهما المُسْئم، بل لنكتشف فيهما، بدقّة فائقة، حقيقتنا العميقة وأن نسكن إليها. وهذا لا يمكن إلاّ بجهد مستمرّ للتخلّص من التكييف الطويل الذي جعلنا صمّاً عمياً عن ذواتنا مستسلمين لقددر ضرب الحصار على أذهاننا.
في العالم الراهن الذي ينزع أكثر فأكثر إلى الانفصام، في هذا العالم "الحديث" حيث يتزايد كلّ يوم عدد البشر الذين ينتابهم الشعور المقلق بأنهم ليسوا موجودين، سوف يظل الإنسان سائراً إلى الهلاك ما لم يكتسب وعياً جديداً أشمل وأوسع بوحدة كيانه وبكلّ إمكانياته وما لم يوطّن نفسه على إظهارها. ينبغي عليه بلا شكْ إبداع وسائل تعبير جديدة لا تحوّل الوسائل التقليديّة إلى وسائل متقادمة بل تكون تكملة لها. ينبغي إبداع أخلاق جديدة تنعتق انعتاقاً كاملاً من الأخلاق القديمة التي تقوم شرعيتُها على قمع جُنَح وجرائم هي الدافع الوحيد على ارتكابها. وهذا يفترض أن يستعيد الإنسان أي كلّ منّا مكانه في الكون ويكفّ عن التصرف فيه وكأنه أجنبيّ، فريد من نوعه، ضائع في الفراغ اللامتناهي وخاضع في نفس الوقت إلى قوانين فيزيائيّة وبيولوجيّة لم يعد يرى منها إلاّ مظهرها القاسر. من مهامّ الشعر أن يحافظ على معنى علاقتنا بالعالم، ذلك المعنى الذي إنْ تخلّى عن حسّيته استغلق علينا استغلاقاً. فالشعر وحده، لأنّه لا يزال قادراً على استعمال الفكر التشابهي، يمكنه أن يأمل إقامة شبكة المواصلات والمبادلات الجديدة بين الإنسان والكون التي يتحتّم على الإنسانية أن تكتسبها عاجلاً وإلاّ ذهبت ضحيّة غريزتها الانتحاريّة في صحراء عاطفيّة روحيّة تحيط بها أبراج المراقبة.
هذا معنى الشعر وهذه مهمّته، في الأصل وحاليّاً. ولن يستطيع الشعر تأديّة هذه المهمّة إلاّ بالدفاع دفاعاً مستميتاً عن حريّته، أي حريّة كلّ إنسان ضد العبادات التي تهددها دون تمييز بين الأديان القديمة التي لم تفقد ضراوتها والمعتقدات العلميّة الزائفة التي تدّعي الحلول محلّها.
إن الشعر، كما يقول بنجاما بيريه، هو "نَفَس الإنسان الحقيقي". وعلينا، أكثر من أي وقت مضى، أن نرفض الاختناق.


اندريه بروتون
الطّالع

لم أشعر قط باللذة الذهنيّة إلاّ على صعيد التشابه. إنّ البداهة الوحيدة في نظري هي البداهة الناتجة عن العلاقة العفويّة الشديدة الوضوح البَطِرة التي تقوم، في شروط معيّنة، بين الشيء والشيء والتي يمنع الحسّ المشترك من مجابهتها.
وبقدر ما أعتقد أنّ كلمة "إذن" بكل ما ينجرّ عنها من زهو ولذّة لذّة الآثمين هي أبغض كلمة، بقدر ما أعشق كلّ العشق كلّ ما يخطر له أن يقطعَ خيطَ التفكير الاستدلالي فينطلق فجأةً مثل الأسهم الناريّة التي تضيء حياة من العلاقات الخصبة أيّما خصب، حياة كان إنسان العصور الأولى يعرف خباياها دون أيّ شكّ. صحيح أنّ هذه الأسهم الناريّة سرعان ما تتهاوى، لكن تألقها يكفينا لنحكم على القيم التبادليّة السائدة اليوم بمقياسها الكئيب. فما من جواب فيها إلاّ عن مسائل نفعية مباشرة. إنّ الإنسان لم يعد يهمّه من الحياة إلاّ الطفوّ على سظحها، معرِضاً عن كلّ ما لا يعنيه عن قرب، يزداد صممه يوماً بعد يوم، فلم يعد يستمع إلى ما تجود به التساؤلات عن الطبيعة حالما تكتسي بعض الأهمية. إنّ الاعتقاد العريق في القدم القائل بأن لا شيء موجود عبثاً وبأنّ ما من كائن أو ظاهرة طبيعية إلاّ ولهما رسالة رمزية، هذا الاعتقاد الذي يحرّك أغلب النظريات حول نشأة الكون حلّ محلّه انفصال أحمق بليد بعد أن استولى اليأس على الأذهان. أصبح الناس يختبئون ليتساءلوا. .من أين أتيت؟ لِمَ وجودي؟ إلى أين مسيري؟ أفليس مِن الضلال والصفاقة أن نريد "تغيير" عالم أعرضنا عن فهم ما له من جوانب ثابتة أو تكاد؟ لقد قُطِع حبل الاتصالات الأساسية. هذه الاتصالات، وحدها طاقة التشابه تقدر على إعادتها ولو بصورة عابرة. ومن هنا نفهم أهميّة تلك الومضات الوجيزة التي تنبثق من المرأة المفقودة من وقت إلى آخر ولو على تباعد.
يشترك التشابه الشعري مع التشابه الصوفي في أنه يخرج عن قوانين الاستنتاج ليجعل الذهن يدرك الترابط الموجود بين شيئين يقعان على مستويين مختلفين يعجز العقل المنطقي عن إقامة أيّة علاقة بينهما، بل يمتنع عن ذلك أوّليّاً. بيد أنّ التشابه الشعريّ يختلف اختلافاً جذرياً عن التشابه الصوفي من حيث أنّه لا يفترض البتّة، عبر نسيج العالم المرئيّ، عالماً غير مرئيّ ينزع إلى الظهور. فهو تجريبيّ محض في منهجه، إذ أنّ التجريبيّة وحدها كفيلة بأن تضمن له حريّة التحرّك الكاملة اللازمة للوثبة التي عليه أن يقوم بها. وإذا اعتبرنا نتائج التشابه الشعريّ، يمكن أن يبدو مثل التشابه الصوفيّ، حيث أنّه يرمي إلى تصور عالم متشعّب إلى ما لا نهاية له يجري فيه بأكمله نفس النسغ. لكن التشابه يظلّ طَوْعاً في إطار الحسّ بل في إطار الشهوانية دون أيّ ميل إلى التوغّل في ميدان المرئيات. فالتشابه الشعريّ ينزع إلى الإيحاء بالحياة الماورائيّة "الغائبة"، وهو لا يستمدّ جوهره من الأحلام الماورائيّة ولا يدور في خلده البتّة نسبة اكتشافاته إلى مجد "عالم غيبيّ ما".
حسب ما توصّلت إليه الأبحاث في صناعة الشعر، لا يمكن الاعتماد على التمييز الصوريّ البحت الذي أقيم بين الاستعارة والتشبيه. كلاهما يشكلان وسيلة إيصال للفكر القائم على التشابه، لا فرق بينهما في ذلك. ولئن كانت الاستعارة توفّر موارد هائلة لتدفّق المعاني، فإنّ التشبيه له مزايا كبيرة في خدمة التشويق وذلك بتأجيل التصريح بالمعنى .انظر عبارة لوتريامون "جميل كـ.." وبطبيعة الحال فإنّ الصور الأخرى التي لا يزال البلاغيّون يعدّونها لا أهمية لها إطلاقاً. فنحن لا يستهوينا إلاّ تلك الانطلاقة المتأتيّة عن التشابه. بها وحدها يمكننا التأثير على محرّك العالم. إنّ الكلمة الأشد إثارة للحماس هي كاف التشبيه، سواء ذُكرت أم لم تُذكر. بهذه الكلمة يبلغ الخيال البشري ذروته وبها يتقرّر مصير الفكر الأعلى. ولذلك فإننا لا نكترث للنقد السخيف الذي يوجّه للشِعر المعاصر لإكثاره من "الصور" ونُهيب بهذا الشِعر إلى ألاّ يألو جهداً في هذا المضمار.
إنّ المنهج القائم على التشابه والذي كان له شأن عظيم في العصور القديمة وفي القرون الوسطى والذي أهمل بفظاظة لفائدة المنهج المنطقي. الذي أدّى بنا إلى الطريق المسدود المعروف، من واجب الشعراء والفنانين أن يعيدوا له كلّ امتيازاته على شرط أن يبتعدوا عن النوايا المبيّتة الروحانية التي تفسد سيره وتعطّله، ولا غرو، فهي قد عاشت داذماً متطفّلة عليه.
نذكر أنّ بيير ريفردي قبل ثلاثين عاماً عندما أهتمّ، قبل غيره، بالبحث عن الصورة قد توصّل إلى صياغة هذا القانون الأساسي: كلّما كانت علاقات الشيئين المقرَّب بينهما بعيدة وصائبة، كلّما قويت الصورة وقوي تأثيرها في تحريك العاطفة واشتدّ انتماؤها إلى الشاعريّة.. بيد أنّ هذا الشرط الضروري الذي لا محيص عنه لا يمكن أن يعتبر كافياً. فهنالك مطلب آخر يمكن اعتباره عند آخر تحليل مطلباً خُلقياً. ذلك أنّ الصورة القائمة على التشابه لمّا كانت تقتصر على إلقاء ضوء ساطع، كأسطع ما يكون الضوء، على "تشابهات" جزئية، لا يمكن أن تفهم كتعبير عن معادلة كاملة. إنّها تتحرّك بين الشيئين المعتبرين في اتجاه معيّن "لا يمكن عكسه بحال من الاحوال". وهي تسجّل بين الشيء الأول والشيء الثاني توتّراً حيويّاً موجّهاً قدر المستطاع نحو الصحة واللّذة والطمأنينة والاعتراف بالنعمة واللياقة. ومن ألدّ أعداء هذه الصورة التحقير وكلّ ما يدعوا إلى الوهن. ولئن لم يعد من الجائز التمييز بين كَلِم شريف وكَلِم غير شريف، فإنّ المتشاعرين لا يستنكفون عن إقامة تشبيهات خسيسة يتمثل نموذجها في هذه الجملة .القيثارة مَطْهَرةٌ تُغّنّي. التي جادت بها قريحة مؤلف عوّدنا على مثل هذه الدرر، والشيء من مأتاه لا يستغرب.
إنّ أحسن توضيح للمعنى العام الذي يجب أن يكون للصورة الحقّة نجده في هذا المثل المستخرج من تراث "الزِنْ". .لقد غيّر باشو ذات يوم، بلباقةٍ، مُلهماً بالنعمة البوذية، ثلاثية قاسية ألّفها تلميذه الساخر كيكاكو قال فيها:

&"يعسوب أحمر
اقطعوا جناحيه
ها هي فلفلة"
عند سماع ذلك قال باشو:

فلفلة اجعلوا لها جناحين
ها هو يعسوب أحمر».
ترجمهما: محمد شعيرات


أوكتافيو باث
الشعر والتاريخ

كل قصيدة هي محاولة للمصالحة بين الشعر والتاريخ لصالح الشعر. ذلك أنّ الشاعر، حتّى عندما يندمج في المجتمع الذي يعيش فيه وعندما يشارك في ما يسمّى "مجرى العصر" هذه الحالة المتطرفة التي بات تصورها في عداد المستحيل ينشد، دوماً، التملّص من طغيان التاريخ. إنّ جلّ المحاولات الشعرية الكبرى من القول السحري والقصيدة الملحمية إلى القصيدة الآلية تدعو إلى جعل القصيدة بوتقة ينصهر فيها التاريخ بالشعر، الواقعة بالأسطورة، الأساليب العامية بالتصويرية، التأريخ date الذي لا يمكن أن يُكرر، بالاحتفالية التي هي التأريخ الحي المنوح بخصب سري دائم العودة من أجل تدشين حقبة جديدة. إن طبيعة قصيدة ما مشابهة لطبيعة عيد هو، علاوة على كونه تأريخاً في الروزنامة، قطع في سياق الزمن وانبثاق حاضر يعود دورياً بلا ماض أو غد. كل قصيدة عيد: تقطّرٌ في زمن محض.
إنّ العلاقة بين البشر والتاريخ هي علاقة تبعية وعبودية. فإذا كنّا نحن شخصيات التاريخ الوحيدين، فنحن أيضاً مادته الخام وضحاياه؛ فالتاريخ لا يتحقق إلاّ على حسابنا. الشعر يغيّر هذه العلاقة تغييراً جذرياً؛ فهو يتحقق على حساب التاريخ. ذلك أن كل نتاجاته البطل، القاتل، العاشق، القصة الرمزية، النقش المقطعي، اللازمة، القَسم، الاستغراب التلقائي على شفاه طفل أثناء اللعب، على محيا محكوم بالإعدام، على فتاة تمارس الجنس للمرة الأولى، فقرةٌ تحملها الريح، خرقة صراخ كل هذه، مع التعابير المهجورة والمحدثة والاقتباسات، لن تستسلم للموت أو إلى أن تُضرب عرض الحائط. إنّما جميعها مصممة على بلوغ غايتها، على الحياة أقصى ما يمكن. إنّها تخلّص نفسها من العلّة والمعلول، منتظرة القصيدة التي ستنقذها وتجعلها تصير ما هيّ. لا يمكن أن يوجد شعرٌ من دون التاريخ، غير أن للشعر مهمة واحدة: أن يحوّل (طبيعة) التاريخ. لذلك أن الشعر الثوري الوحيد هو شعرٌ قياميّ الرؤيا.
الشعرُ جُبلَ من عين جوهر التاريخ والمجتمع- اللغة. على أنّه يسعى إلى خلق لغة منسجمة مع قوانين غير القوانين التي تسود المحادثة والخطاب المنطقي. والتحوّل الشعري هذا لا يتمّ إلاّ في قرار اللغة. ذلك أنّ الفقرة وليس الكلمة المنفردة- هي الخلية، عنصر اللغة الطبيعي. كلمةٌ لا يمكن أن توجد من دون كلمات أخرى، فقرة من دون فقرات أخرى.
أي أنّ كل جملة تنطوي على إشارة ضمنية إلى أخرى، وهي قابلة للتفسير بجملة أخرى. كلُّ فقرة تنشئ "رغبة بقول" شيء ما، تشيرُ على نحو بيّن إلى شيء ما وراءها. اللغة هي مؤتلف رموز متحركة ومتبادلة، كل رمز يظهر "نَحْوَ" ما يجري. وبهذه الطريقة أن كلا المعنى والإيصال قاعدته هو "قصدية" الكلمات. غير أنّ ما كاد الشعر يلمس الكلمات حتّى تتغير إلى وحدات إيقاعية، إلى صور؛ تقف بمفردها مكتفية بنفسها. وإذا تفقد الكلمات حركتها؛ هنالك عدة طرق في النثر لقول شيء ما، في الشعر ثمة طريقة واحدة. الكلمة الشعرية ليس لها معوّض. إنّها ليست "رغبة لقول شيء ما"، وإنّما هي شيء قيلَ بنحو لا رجوع فيه. أو، تخيُّيراً بين أمرين، إنّها ليست "المضي نحو" شيء، ولا "تفوّهاً" بهذا أو ذاك. الشاعر لا يتكلّم عن الرعب أو عن الحب: إنّه يعرضهما. إنّ كلمات الشعر، التي يتعذّر تغييرها أو استبدالها، تغدو صعبة التفسير إلاّ بمفرداتها هي. فمعانيها لا تعلوا عليها، وإنّما هي في ثناياها؛ فالصورة في صلب المعنى.
إنّ الوظيفة الأصلية للصورة الشعرية هي تحويل حقائق تتراءى لنا وكأنّها متعذرة التحويل ومتنافرة، إلى وحدة منسجمة. وعملية التحويل هذه تتم دون أن تزيح، أو أن تضحي بالتناقضات أو التنافرات القائمة بين الكيانات التي تستحضرها وتعيد ابتكارها. لهذا السبب أنّ الصورة الشعرية لا يمكن أن تُفسَّر بالمعنى الدقيق للمصطلح. وها أنّ اللغة الشعرية تنمّ عن اللَبس الذي يكشف فيه الواقع عن نفسه لنا. وفي تحويل طبيعة اللغة، لا تفتح الصورة البابَ للواقع فحسب، بل أيضاً، كما كانت، تعرّي الواقع وترينا إيّاه في وَحدته النهائية. الفقرة تغدو صورة. القصيدة صورة واحدة، كوكبة صور لا تتجزأ. إنّ الفراغ الذي تركه اختفاء ما يسمّى بالواقع ها هو مأهول بحشد من الرؤى المتنازعة والمتغايرة الخواص، لا محيد عن نشدانها تحويل تنافرها إلى نظام شمسي من الإلماعات القصيدة؛ كونٍ من الكلمات الكمداء القابلة للإفساد ومع ذلك يمكنها أن تؤرث وتحرق متى كانت هنالك شفاه تمسّها. ففي بعض الأحيان، تغدو مطحنة الجُمل، في أفواه بعض المتكلمين، مصدرَ أدلّة لا تحتاج إلى برهان. وعندها نكون قد انتقلنا إلى ملء الزمن. فالشاعر، باستخدام اللغة من الأعماق، يتجاوزها. فهو، بإعطاء التاريخ أهمية خاصة، يعرّي التاريخ ويُظهره على ما هو عليه زمن.
فما إن يسمح لنا التاريخ أن نشكّ بأنّه ليس أكثر من قافلة أشباح، بلا معنى ومن دون غاية، حتّى يصير لُبس اللغة ملموساً أكثرَ، مما يحول دون أي حوار أصيل. فالكلمات تفقد معناها، وبالتالي قدرتها على الإيصال. إنّ اختزال التاريخ إلى مجرد سلسلة أحداث، يتضمّن أيضاً، على اختزال اللغة إلى مجرد خليط من الرموز البلا حياة. كل الناس يستخدمون الكلمات نفسها، غير أنّه ما من أحد يفهم الآخر. إذن، مِن العقم أن يحاول الناس "الوصول إلى اتفاق" على معاني الكلمات. فاللغة ليست مواضعات، وإنّما هي بعدٌ لا يمكن للإنسان الانفصال عنه. كل مغامرة لفظية هي مغامرة شاملة؛ فالإنسان يراهن بكل نفسه وحياته على كلمة واحدة. ذلك أنّ الشاعر إنسان توحّدَ كيانُه مع كلماته. فهو وحده قادرٌ على إحداث حوار جديد. نّ قدرة الشاعر، خاصة في حقبة كحقبتنا هذه، هو "إعطاء كلمات القبيلة معنى أنقى" *. وهذا يتضمن استخراج الكلمات من اللغة المستعملة وإنشاؤها نشأة جديدة في قصيدة. إنّ ما يسمّى بانغلاق الشعر الحديث ينجم عن هذه الحقيقة. على أنّ الكلمات غير قابلة للانفصال عن البشر. وبالتالي فإنّ النشاط الشعري لا يقوم خارج الشاعر، في الموضوع السحري التي تمثله القصيدة؛ وإنّما بأخذه الإنسان كمركز التجربة. فالتعارضات تُصهر في الإنسان نفسه، لا في القصيدة فحسب.& لا يمكن فصل واحد عن الآخر. قصائد رامبو هي رامبو نفسه، المراهق الذي يتبارز بعبارات التجديف المتألقة، رغم كل المحاولات التي تحوّله إلى نوع من الوحي الذي نزلت عليه الكلمة. كلا الشاعر وكلمته واحد. هكذا كان مأثور شعراء حضارتنا الكبار، خلال المائة سنة الماضية. ولم يكن فحوى آخر حركات القرن العشرين الكبرى، السوريالية، مختلفاً عن هذا. إنّ عظمة هذه المحاولات التي لا يمكن لأي شاعر جدير بالاسم أن يكون غير مبال بها تكمن في مسعاها إلى تدمير، مرّة وإلى الأبد، وفي حدّة اليأس، الثنائيةَ التي تمزقنا أرباً. الشعر قفزة في المجهول، وإلاّ فهو لا شيء.
قد تبدو الإشارة إلى مطاليب الشعر المغالية، في الظروف الراهنة، مسخرةً. لكن هيمنة التاريخ لم تكن من قبل شديدة كما هي اليوم، ولا ضغط "الأحداث" كان خانقاً إلى هذا الحد. وبقدر ما يُصبح طغيان "ما هو العمل المقبل" أمراً لا يطاق منذ أنّ موافقتنا على القيام به لم تُطلب، وغالباً ما يُوجَّه صوب تدمير الإنسان يُصبح النشاط الشعري، هو أيضاً، أكثر سريةً وعزلة وندرة. في الأمس فحسب، كانت كتابة قصيدة ما، أو الوقوع في الحب نشاطاً تخريبياً. أما اليوم، فإن مفهوم النظام عينه قد أختفى، وأحتل مكانه خليطٌ من القوى، الجماهير، والصمودات. فالواقع قد طرح أقنعته جانباً وبات المجتمع المعاصر يُرى على حاله، كما هو: مجموعة متغايرة الخواص لأشياء "متجانسة" بالسوط أو بالدعاية، تديرها تجمعات لا يمكن تمييز واحدة عن الأخرى إلاّ بدرجة الوحشية فقط. في ظروف كهذه، الإبداع الشعري يتخبأ. فإذا القصيدة هي عيد، فإنّها تُعتبر عيداً في غير مناسبة، في أماكن قليلة الارتياد مهرجاناً تحت الأرض.
غير أن النشاط الشعري يعيد اكتشاف كلّ قواه التخريبية القديمة بواسطة هذه السرية عينها، المجبولة بالأيروسية والغموضية الباطنة، تحدد لتحريم لا يعني أنه غير مدان لأنه لم يكن مصوغاً بنحو واضح. ذلك أن الشعر الذي أحتاج في الأمس إلى تنفس الهواء الطلق للمشاركة الكونية، يستمر على أن يكون عملية طرد للأرواح الشريرة حفاظاً علينا من شعوذة القوى والأرقام. قيل أنّ الشعر هو إحدى الوسائل التي بواسطتها يمكن للإنسان الحديث أن يقول "لا" إلى كل تلك السلطات التي لا ترتضي بتنظيم حياتنا فقط، وإنّما تريد أيضاً أن تتحكم بضمائرنا. على أنّ النفي هذا يحمل في ثناياه "نعم" التي هي أعظم منه.

ترجمة: عبدالقادر الجنابي

* بالفرنسية في النص، وهو بيت شهير مأخوذ من قصيدة ستيفان مالارميه: "قبر إدغار ألان بو"




- إيلاف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى