فنون بصرية أحمد كفافى - (كيرة والجن) عمل رائع ولكن...

عندما شاهدت أفيش فيلم (كيرة و الجن) لأول مرة فى أحد طرقات أكتوبر السريعة كشرت عن أنيابى: فمن يلقى نظرة عليه لأول مرة ربما لا يقع بصره على سنة (1919) التى كتبت تحت العنوان بخط أصغر.. وقد لا يتبادر إلى الذهن أن العمل يدور حول هوامش ثورة 1919...
حسبت أنه أحد أفلام الرعب أو الغرائبيات العربية التى طالما استسخفتها..صحيح أن (1919) لا يصلح عنوانا للفيلم رغم كل ما فيه من إشارات ودلالات معروفة فى كل العالم العربى ولكن (كيرة و الجن) أيضا يخفى معالم محتوى الفيلم وربما كان السبب لعدم الإقبال السريع عليه للوهلة الأولى.. فقد عرض لأول مرة فى 30 يونية 2022.. ولا أعلم ربما تجاهله البعض كفيلم رعب إلى أن بدأنا نقرأ عنه فى الصحف ثم رأينا إعلانه على القنوات الفضائية ففجر أول شرارت الحماس لمشاهدته بعد إطلاقه بدورالعرض بحوالى أسبوعين ليحقق إيرادات مذهلة فى أول أيام عيد الأضحى.
المهم أن الفيلم يستحق فعلا كل تقدير.. فقد فاق جميع التصورات بما حوى من تصوير صادق للفترة الزمنية التى دارت فيها أحداث الثورة بين عامى 1919-24.. بناء مطابق لشوارع العشرينيات بما إصطف على جانبيها من منازل وسرايات فاخرة..تصمبم ملابس الأبطال أعاد إلى ذاكرتى فيلم (جاتسبى العظيم) للنجم الأمريكى ليوناردو كابريو الذى عرض منذ عدة سنوات حيث تجرى أحداثه أيضا فى نفس الحقبة من العشرينيات...
الأداء رائع لأحمد عز وكريم عبد العزيز وهند صبرى وسيد رجب وأحمد مالك وغيرهم..تجسيدهم أكثر من رائع لبعض شخصيات مجاهدى ثورة 19 الذين خاضوا حرب شوارع ضد المستعمر البريطانى.. ويحسب للكاتب أحمد مراد بحثه الدؤوب وسط وثائق قديمة للعثورعلى هوية تلك الشخصيات وتاريخها...الفيلم عمل قيم وريشة فى قبعة السينما المصرية ولكن...
كنت قد سمعت منذعدة سنوات أنه يجرى إعداد لعمل كبير عن ثورة 19.. طبعا تلهفت لرؤية الفيلم ظنا منى أنه يسرد تاريخ الثورة بتداعياتها و زعمائها بدءا من سعد زغلول والنقراشى وأحمد ماهر وعبد العزيز فهمى وغيرهم ممن لم تسجل أمجادهم وسائل الإعلام الحديثة فبقى تاريخهم حبيس الكتب التاريخية وغاب فى طيات المجهول خاصة فى عصرنا الذى شحت فيه القراءة وأصبحت الميديا المرئية هى دليل معظم الناس للمعلومات و المعرفة.
(كيرة والجن) عمل متكامل ولاغبار على منفذيه فلقد رشحوا رواية بعينها ليترجموها على الشاشة الفضية..هى فعلا قصة جهاد شيقة لمجموعة من الفدائيين من مختلف طبقات المجتمع: أحمد كيرة ابن الفلاح الذى استشهد فى حادثة دنشواى..عبد القادر الجن البلطجى خادم الإنجليز الذى تستيقظ نخوته الوطنية عندما يُقتل برصاص الإنجليز أبوه الضابط المتقاعد من جيش عرابى ودولت الفتاة الصعيدية التى يصاب أخوها بإنهيار عصبى بعد أن أجبره الإنجليز على القتال وهو ومن معه من الفلاحين إبان الحرب العالمية الأولى..كل لديه الحافز لمقاومة المستعمر..حكايات مثيرة ولكنها قد تتشابه وقصص الكفاح الأخرى ضد المستعمر البريطانى فى حقب مختلفة عبر إحتلال دام سبعين عاما.
فماذا لو بدلنا المغامرة الجهادية ووضعناها فى فترة الثلاثنيات أوالأربعينيات أو الخمسينيات! بعبارة أخرى إنىى لا أجد فى العمل خصوصية من خصوصيات ثورة 19 إلا فى بعض التفاصيل السياسية الصغيرة علاوة على التصميم الرائع للفترة الزمنية المبكرة من القرن العشرين التى وضعتنا فى حالة من النوستالجا الحقيقية بدقة تفاصيلها و مطابقاتها للواقع الزمنى: قهوة ريش..ميدان الخديو إسماعيل (التحرير)..الأزبكية..الأسواق..الأزقة..القائمة لا تحصى..ولكن...
مع إحترامى وتقديرى الكبيرين للعمل فإننى كنت أطمح أن يكون أول سرد سينمائى عن ثورة 19شيئا مهيبا يتناسب وحجم الحدث الجلل وليس حكايات على هامشه.. ثورة 19 كبرى الثورات المصرية فى تاريخ مصر الحديث..فإذا كان البعض يفتخر بثورة يناير التى اندلعت بعد قرابة القرن من ثورة العشرينيات، فإن ثورة 19 تظل الثورة الأم..فيها ثار الفلاحون فى الأرياف وقطعوا خطوط السككك الحديدية..أضرب العمال فى المصانع وسائقو التاكسيات والمحامون وخرج الطلاب فى مظاهرات حاشدة وجروا معهم جميع أطياف الأمة فى القاهرة والمدن الإقليمية..كانت ثورة شعبية بحق...إنتفاضة شعبية مهدت لقيام ثورة يوليو قبل أن تنذر بسقوط الملكية حتى لوكان ذلك بعد ثلاثة عقود من إندلاعها.
تقول الملكة نازلى فى مذكراتها إنها عقب زفافها للملك فؤاد استقلت السيارة مع زوجها لتنقلهم إلى قصر عابدين..كان ذلك بعد عدة شهور من إندلاع الثورة..كانت الأعلام منكسة والشوارع غارقة بدماء القتلى والمحال على الجانبين مهشمة من فرط أعمال الشغب..تضيف نازلى أنها أحست أن تلك نهاية عهد وبداية عهد جديد..وكأن زواجها من فؤاد وإنجابها فاروق كان نذير شؤم على الملكية..
أتطلع إلى عمل بوزن فيلم (غاندى) ليسلط الضوء على ثورة 19 التى هى النبراس الأول لثورة الهند..فيلم بطول (كيرة والجن) وبثقل غاندى..عمل يروى سيرة الزعماء الذين قادوا مصر فيما بعد..العصابات الخفية للثورة والمظاهرات الحاشدة التى اجتاحت البلاد من أقصاها إلى أقصاها..هى فعلا تطور خطير وغير مسبوق فى التاريخ السياسى المصرى..تاريخ لم نعرف إلا الشذرات منه فى كتب التاريخ...
كم من أفلام أنتجت عن جمال عبد الناصر والسادات وتداعيات ثورة يوليو 1952..أما ثورة 19 فلم نشاهد من تاريخها إلا النذر القليل..ربما فى بعض روايات نجيب محفوظ أوأفلام خلدت ذكرى أعلام عصرها كسيد درويش ومصطفى كامل ويحضرنى فى هذا الصدد مسلسل (قاسم أمين) الذى أماط اللثام عن كل الوجوه التى أججت نيران ثورة 19 بعد عصر محرر المرأة بعدة عقود.
لسنا فى شح من الوثائق التاريخية عن ثورة19 ..الوثائق كثيرة والكتب عديدة وكتاب السيناريو المخضرمين على أتم استعداد لإظهار براعتهم فى عمل كهذا الذى أرى أنه كفيلم ( الناصر صلاح الدين) لا يصح إلا أن يقوم على الأقل عشرة كتاب بإنجازه..كـ(صلاح الدين) الحدث يجمع السياسة والمجتمع والمقاومة والثورة فى بوتقة واحدة..جميعها تلتقى لتعطيه ما يستحق من إضاءة وتقدير.
لست أدرى لماذا لم ينتج عمل كهذا فى عصر ثورة يوليو الأول..إنه الوقت الذى كانت الجماهير الحاشدة تخرج لتأييد زعمائها وكان من شأنه أن يشحن النفوس ضد المستعمرويشيد بأى زعيم يشحذ الهمم نحو الكرامة و الاستقلال.
أخشى أن تقبل هوليوود على انتاجه كغاندى مع الفارق أنه قد يتم حشوه بما يلذ ويطيب من أكاذيب و وتزييف للحقائق..فلا مناص أن تنتجه مصر لتقدم إلى العالم صفحة من صفحات تاريخها المشرق.
آمل أن أجد صدى لكلامى هذا..( كيرة والجن) عمل متقن مثير ولا غبار عليه.. ولكنه يظل على هامش ثورة 1919.






295238426_5469309549758010_3784920979628297241_n.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى