النثر… الشعر:
تكشف المقابلة بين النثر والشعر عن نفسها في ثلاثة معالم: البيت الشعري، الـ«صورة» والتخييل، بما هي معايير استعمالية. الأول الذي يُعرف الشعر من خلال البيت، والإيقاع من خلال الوزن، يجعل النثر تاليا؛ ويُميز الآخر الشعر من خلال الصورة، في ما يكون النثر معقولية وتَمثيلا ذِهنيا. وفي كلتا الحالتين، يكون الشعر مُركزا عليه: النثر هو ما دون الإيقاع، وما دون الصورة. بينما النثر يكون مُركزا عليه في مهيمنة التخييل فحسب، والشعر بخلاف ذلك؛ على الأقل وفق المقولات الجارية.
بما أن الحداثة بذلت قُصارى جهدها لمقابلة الشعر بالنثر، فقد عملت على إزاحة حدودهما، وعلى تشويش التمييزات بينهما. واعتبر فاليري أن «استحالة اختزال (الشعر) إلى نثر قد استن الشروط الصارمة لوجود» الشعر. لستُ هنا بصدد وضع «قائمة لمعايير الفكر الشعري المضاد» بل تحليل الكليشيهات التي تحكم الممارسات والمقولات معا.
تُعد نظرية الإيقاع بمثابة المُميز للعلاقات في الخطاب، من أجل أن تُفك المتآلفات كما المتعارضات، تلك التي تقدم من الكليشيهات إلى الممارسات، بدلا من التجريب إلى النظرية. هكذا يكون النثر، بالنسبة للكثير، متماهيا مع الخطاب العادي، ومن ثمة مُعارِضا للشعر. إن كلا النثر والشعر يتعارض، لسانيا وبلاغيا، مع الخطاب العادي. هناك النثر مثلما الأشعار التي لا تتماهى مع البيت إطلاقا. من منطلق هذه التعددية، يبدو عديما للمعنى أن يقابل الشعر بالنثر. وتتركز سخافة الثنائية داخل البديهية الزائفة التي تجعل من الشعر مضادا للنثر؛ فليس غياب الشعر هو النثر، بل ليس هناك من غيابٍ للشعر، ولا يمكن أن يتم. في حين لا يمكن، بشكل متماثل، أن يتم غياب النثر ما دام أنه لا يوجد خطابٌ مكتوب أصلا.
ضدا على المسعى التقليدي الذي ينصرف من البيت إلى النثر، تُمَوضع نظرية الإيقاع، النثر والأشعار داخل الخطاب. يكتب هاردين: «عن الإيقاعات المتأصلة في الكلام الطبيعي من خلال اللغة تَصدُر كم كتابةٌ إيقاعيةٌ». من ثمة، يعمل الخطاب ضد المعلوم الذي يتمثل الشعر كما لو قُيض له النجاح، فيما اللغة العادية تُخفق، طالما أنها ستكون مبذولة للعموم. من معارضة العام بالخاص يثبت إبدال التعارض بين النفعي الوظيفي؛ حيث النثر شبيهٌ بالمشي، وبين البَذخ- العيد؛ حيث سيكون الشعر رَقصا. ما زلنا لم نهجر الإيقاع بعد.
فإذا كان الخطاب هو تاريخية اللغة، وكانت الخطابات تاريخية، فإن النثر والشعر تاريخيان بدورهما، لا مُجرد جنسين. إنهما يشتملان على عدد من الأنواع. فهما يسنان الشروط بقدر ما يضعان صيغ الخطاب. والعلاقات بين الشعر والنثر ومنطوق العصر تتعلق بمتغيرات الصراع من قريب أو بعيد، والأنواع تأخذ دَورَها داخل هذا الصراع. إن ما يُكتب هو ما يُنشئ التاريخية الخاصة للذات التي تتم في الكتابة وعبرها، داخل الصراع بين المصوغ وغير المصوغ في كُل لحظة.
وما يصف إيخنباوم به بوشكين هو مثالٌ على تاريخية الأشكال، بمعارضته مع كوكبة من شعراء فرنسا، بخلاف مارو، واللغة الشعبية. يستشهد إيخنباوم بكتاب جاك بليتيي المعنون بـ»الفن الشعري»: «لهذا، سأشير على شعرائنا بأن يصيروا جريئين إلى حد ما، وأقل شعبية». وتبعا للعصر والوسط، ستجري حركة معكوسة: لدى بوشكين ميلٌ نحو الشعبي والسوقي، على نحو يعاكس القرن الثامن عشر. وأحيانا، تكون هذه «الجراءة» مُغايرة؛ حيث الثقافات تعكس القيم. وذلك شبيهٌ بما قاله غابرييل صيلايا من أن «النزعات النثرية بمثابة محسنات للكتابة الطقوسية». فعلاقة الأبيات بالنثر، وبالتنثير لم تكن لها الوضعية نفسها، ولا التاريخ نفسه داخل التقليد الأنغلو- أمريكي ولا التقليد الفرنسي. وكذلك الحال بالنسبة للعلاقة بالمكتوب والشفاهي، ولا بالبيت الشعري ترتيبا على ذلك. في أيام البلياد، كان البحر الإسكندري نثريا وفق التقدير. يكتب رونسار في مقدمة «فرنسياد»: إن شعراء الإسكندري «يشعرون بنثرهم أكثر مما يجب». ولقد أتى بودلير بصنيع معكوس إزاء الإسكندري في زمنه، إذ جعله لا يقترب من إسكندري النثر. واليوم، يحمل الوزن الإسكندري كُل إرثه، سواء كان «نثريا» أم منثورا.
الشعر داخل البيت
أَول سؤال يُطرح هو لماذا ظل الشعر، ولا يزال، متماهيا مع البيت. يُنظر إلى البيت، ولا يزال الأمر لبعضٍ منهم، بوصفه ليس التقنين الوزني للإيقاع فحسب، بل هو تقنين الإيقاع الذي يقوم برد فِعلٍ ضد تقنينه الخاص. البيت هو وحدة، عنصر: السطر. إن لغات مثل الإنكليزية [Vers, line]، والروسية [stix, srtoka]، والألمانية [der Vers, die Zeile] يضم كل منها مصطلحين كما يظهر. في الفرنسية الحديثة قلما نقول [السطر=] la ligne، وهو ما قامت به مقالات البلاغة الثانية في القرن الخامس عشر، فأُضيف التباسُ الإيقاع والقافية إلى تماهي الشعر مع البيت. بالبلاغة الثانية «تُعرف الأشياء المقفاة» و»تُملي بلاغة ثانية لسببٍ من أن ما هو نثري سابق على غيره» والشعر أَدخل في البيت طالما عُد الشعر بَيتاَ. لم تَعُدِ العلاقة علاقة مُجاوَرة، إنما حدث تحولٌ في الخصوصيات بالنسبة إلى أحدهما في علاقته بالآخر. لهذا، يكون البيت هو حد النثر، وكل خطابٍ يكون إما بيتا أو نثرا. تجريبية شائعة غدت معها البداهة، فيما يبدو، واضحة للعيان. حتى داخل السيميائيات الأدبية بعد البنيوية، كان يوري لوتمان يعتبر «طبيعة الشعر» مُطابِقة لطبيعة البيت، غير أن اللغة الشعرية واللغة المنظومة، المصطلحين معا، يلتبسان علينا أكثر من أن يلتبسا ببعضهما بعضا. وقد سبق لأرسطو أن رأى صراحة، وبخلاف الرأي المضاد السائد، أن البيت ليس هو الشعر: «على أن الناس قد اعتادوا أن يقرنوا بين الأثر الشعري والوزن» و«أن الشاعر يجب أن يكون صانع حكايات وخرافات أكثر منه صانع أشعار، لأنه شاعرٌ بفضل المحاكاة، وهو إنما يُحاكي أفعالا». ولا يمكن لأرسطو أن يقول بذلك إلا داخل نسقيته، وما ليس له من معنى هنا يضيع تلقاء نفسه.
يجمع تاريخنا الثقافي، على نحو غير قابل للفصل، بين البيت والشعر معا. هكذا يتحدث طومبسون عن الشعر بالمعنى العام، الذي أصبح أمرا طبيعيا من أن لا يُعرف، ويُسمي البيت «ضربا من الشعر». ويُلاحظ غيرو تغييرا في تعريف كلمة شعر، من ليتري إلى روبير. بالنسبة إلى ليتري: هو «فن تأليف أبيات الشعر» على نحو كامل، وهو «الخواص التي تُميز الأبيات الجيدة، والتي يمكن أن توجد في مكانٍ آخر عدا أبيات الشعر». ويُعرفه روبير: بأنه «فن لغوي يميل إلى التعبير أو الإيحاء بشيء ما عن طريق الإيقاع (ولاسيما عبر البيت الشعري) والتناغُم والصورة». ويظهر أن الفهم يدق أكثر إذا ما توسعنا فيه. ففن اللغة يُحيل على المحاكاة مع ما تحتمله هذه المقولة من صعوبات، كما أن الأمر يتعلق هنا بالتوازيات المفهومة بوصفها حِيَلا. ونسأل: «إلى أي حد يستطيع الشعر أن يوجد وهو يستغني عن النظم؟» فغاية ما نعرفه، للوقوف على الحد، هو «أقنوم الدال». لقد حُدد العروض بأنه «قائمة الإيقاعات الشعرية بالقوة داخل اللسان» ونُظِر إلى الوزن كـ»أساس الإيقاع» ما لم يكن التمييز بين الشعر والنظم ممكنا، غير أن الأمر جارٍ تمام الجريان. من هنا التعريف المتحفظ: يستند النظم على نحو الأبيات الذي يُشكل بنيتها الوزنية؛ ومن ثمة تغدو الشعرية متماهية مع «البلاغة» ومع «أسلوبية» «الآثار الموزونة والمتحققة في السياق بحرية وضمن حدود القاعدة».
وهكذا لن يترك الدليل للقصيدة موضعا آخر. إن التباس الشعرية مع البلاغة والأسلوبية يدل على فراغ النظرية، وهو فراغ العلاقة نفسها بين الإيقاع والمعنى. وبعيدا عن أن نؤرخ للتمييز بين البيت والشعر، والذي من المُهم أن نلاحظه عند الرومانسيين الألمان، فإنه طالما عرفنا، وبشكل يقطع مع الشك، أن كل ما يُنظم ليس شعرا. يكتب أوغست فيلهلم شليغل أنه «وحده الشعر مما ينبغي أن يكون مؤلفا من أبيات». ذلك هو الشعر الذي يجب أن يُدعى نَظما، وليس النظم الذي يجب أن يُدعى شعرا. من هنا، «كل شِعرٍ هو شعر الشعر». في كتابه «دفاعا عن الشعر» 1821، يقترح شيللي نموذجا تمثيليا عن مقولة الشعر هذه. فالشعر يتم عن طريق النظم، وهو موزون؛ لأنه يُعبر عن النظام وتناغم العالم الذي يغدو معه الوزن رمزا، وتراسُلا. أما الشعراء فهم أولئك الذين «يتخيلون ويُعبرون عن هذا النظام الذي لا يمكن أن يزول». لذلك، يقترب الشعر من الدين، ومن النبوءة التي هي «صفة الشعر». وبالمعنى الواسع: «تُعد اللغة، واللون، والشكل وصيغ العمل الدينية والمدنية جميعها، أدواتٍ للشعر ومواده البانية؛ ويمكن أن ندعوها شعرا عبر هذه الصورة من الخطاب الذي يرى في الأثر كَمُرادفٍ سببي. بيد أن الشعر، بالمعنى الأكثر تقييدا، يعكس هذه التنظيم بواسطة اللغة، ولاسيما اللغة الموزونة التي تبتكرها هذه الملكة الإمبراطورة التي تحجب عرشها عن الإنسان في ما وراء الطبيعة».
ويحدث أن يتواصل التمييز بين «اللغة الجارية على قياس أو على غير قياس» «لأن التقسيم بين النثر والنظم لم يكن مقبولا داخل الفلسفة الدقيقة». ويخلق التعليل الأصلي المُعمم الضرورة الشعرية التي يكون فيها الشعر إدراكا: «من هنا، فإن لغةُ الشعراء طالما اصطنعت ترجيعا صوتيا متناغما ومتماثلا، من غير أن يكون ذلك شعرا». فالشعر، مراعاة له، هو «نسقٌ ما من الأشكال المتوارثة عن تناغم اللغة» لكن حتى الجديد ينتمي إلى الشعر. بعد كوليردج وووردزورث، يُقر شيللي بأن كُل شاعرٍ عظيمٍ يُجدد بالقياس إلى العرف. وتقوم لعبة التجديد والإيقاع المركوز في الفكر، بالاعتراض على التمييز بين الشعراء والناثرين باعتبار ذلك «خطأ عاميا». ثُم يبسط مقولة الشعر بقوله: «يرفع الشعر الحجاب عن الجمال المختفي للعالم، ويُثبت أن الموضوعات المألوفة تبدو كما لو أنها ليست مألوفة». بواسطة الأبيات أو دونها، يصير بعض الفلاسفة والمؤرخين شعراء؛ فليس البيت أكثر من شكل ضمن أشكالٍ أخرى للكشف عن النظام الكوني، والقصيدة هي «الصورة نفسها للحياة المُعبر عنها في حقيقتها الأزلية» مثلما أن الإيقاع يتحرر من الأبيات؛ وحيثما وُجِد ثمة «صدى من الموسيقى الأزلية» وُجِد إيقاعٌ وشِعرٌ.
هل يجوز القول إنه كلما قيل إن الشعر ليس هو النظم، كانت مقابلة البيت بالنثر والإيقاع بغياب الإيقاع مدعاة لعدم الرضا؟ إن الشعر، ثُم البيت والنثر ليست مجرد كُليات مُضلة. ولقد أربك النثر الشعري وقصيدة النثر نسق التقابلات التقليدي متروكا يضعف، وفي مكانه حتى.
الإيقاع ـ الوزن، الشعر ـ البيت
يُحدد الترابط هنا خَلطا وزنيا تم إقراره في «أزمة البيت الشعري»: «إن البيت لا يوجد إلا في الإلقاء مرتكزا عليه، والإيقاع في الأسلوب»؛ حيث يُرجأ النثر على نحو غريب ـ لا يوجد النثر، إذا كان البيت هو الإيقاع كله: «البيت في كل موضعٍ من اللغة حيثما يوجد إيقاعٌ، وفي كل موضعٍ داخل الإعلانات والصفحة الرابعة من الجرائد، يحظى بالقبول». لا شيء أصعب من أن نبرز أنه، بهذا المعنى أيضا، يوجد ثمة بيت. يواصل مالارميه القول: «داخل الجنس المُسمى نثرا، توجد أبيات، رائعة أحيانا، بالإيقاعات جميعها. لكن في الحقيقة، ليس هناك من نَثرٍ: هناك الأبجدية ثُم تعقبها أبياتٌ تنتظم أو تنتشر، قليلا أو كثيرا. في كل المرات عندما يكون هناك مجهود في الأسلوب، يكون ثمة نَظمٌ». يقترح روبو مقولة «نثر البيت» بخصوص «إشراقات» رامبو، «بمعنى أن تكون اللغة مرتبة ترتيبا نثريا عبر إزاحة حدود البيت الممكنة، ابتداء من الشعر الحُر الذي لم يكن موجودا بعد، بيد أن رامبو يستحدث أول نموذجين منه، هما: Marine و Mouvement.
تُفضي هوية شعر/ بيت إلى تعريفٍ سلبي للنثر ـ غياب النظام والإيقاع ـ الذي لا ينزع الشعر من تاريخيته حسب، بل من الشعر نفسه. وكان جان مورو قد لاحظ أنه في مراحل من نقد البيت (القرن الثامن عشر، بداية القرن التاسع عشر) قد جرى نظم النثر وتدريسه مما أفسد التمييز بينهما. كما أن النثر الشعري والشعر المنثور ثُم ترجمات القصائد المنظومة نَثرا، أحدثوا تشويشا على هذه الماهيات. وينتهي لوت lote، الذي دَون بدوره نشرة دِعائية، بالتعرف على أن اختلافات الإيقاع بين النثر والبيت «هي في الدرجة فقط، وليس في الطبيعة. الإيقاع الموسيقي هو نفسه في كل مكان: يُؤسسه تعاقب الأقدام الممتدة إن قليلا أو كثيرا، وكل قدمِ منها يتركب من سلسلةٍ من المقاطع الخفيضة، وينتهي بمقطعٍ حاد، وقد يلحق بها مقطع جديد مؤنث حاد يقفل المجموعة». من هنا، يختص كل قدم بمجموعةٍ إيقاعيةٍ.
تتخبط البداهة، المدعومة بيقينياتٍ مندفعة، في غياب نظرية. ويخلق منتهى تحصيل الحاصل منتهى الالتباس الذي لا يثبت إلا من تكراره. فالنثر ليس هو الشعر، والشعر ليس هو النثر، وليس النثر هو البيت، والبيت ليس هو النثر. إنما الشعر هو البيت، أو إن البيت هو الشعر. لهذا السبب، تبدو التعريفات خرساء.
كاتب مغربي
تكشف المقابلة بين النثر والشعر عن نفسها في ثلاثة معالم: البيت الشعري، الـ«صورة» والتخييل، بما هي معايير استعمالية. الأول الذي يُعرف الشعر من خلال البيت، والإيقاع من خلال الوزن، يجعل النثر تاليا؛ ويُميز الآخر الشعر من خلال الصورة، في ما يكون النثر معقولية وتَمثيلا ذِهنيا. وفي كلتا الحالتين، يكون الشعر مُركزا عليه: النثر هو ما دون الإيقاع، وما دون الصورة. بينما النثر يكون مُركزا عليه في مهيمنة التخييل فحسب، والشعر بخلاف ذلك؛ على الأقل وفق المقولات الجارية.
بما أن الحداثة بذلت قُصارى جهدها لمقابلة الشعر بالنثر، فقد عملت على إزاحة حدودهما، وعلى تشويش التمييزات بينهما. واعتبر فاليري أن «استحالة اختزال (الشعر) إلى نثر قد استن الشروط الصارمة لوجود» الشعر. لستُ هنا بصدد وضع «قائمة لمعايير الفكر الشعري المضاد» بل تحليل الكليشيهات التي تحكم الممارسات والمقولات معا.
تُعد نظرية الإيقاع بمثابة المُميز للعلاقات في الخطاب، من أجل أن تُفك المتآلفات كما المتعارضات، تلك التي تقدم من الكليشيهات إلى الممارسات، بدلا من التجريب إلى النظرية. هكذا يكون النثر، بالنسبة للكثير، متماهيا مع الخطاب العادي، ومن ثمة مُعارِضا للشعر. إن كلا النثر والشعر يتعارض، لسانيا وبلاغيا، مع الخطاب العادي. هناك النثر مثلما الأشعار التي لا تتماهى مع البيت إطلاقا. من منطلق هذه التعددية، يبدو عديما للمعنى أن يقابل الشعر بالنثر. وتتركز سخافة الثنائية داخل البديهية الزائفة التي تجعل من الشعر مضادا للنثر؛ فليس غياب الشعر هو النثر، بل ليس هناك من غيابٍ للشعر، ولا يمكن أن يتم. في حين لا يمكن، بشكل متماثل، أن يتم غياب النثر ما دام أنه لا يوجد خطابٌ مكتوب أصلا.
ضدا على المسعى التقليدي الذي ينصرف من البيت إلى النثر، تُمَوضع نظرية الإيقاع، النثر والأشعار داخل الخطاب. يكتب هاردين: «عن الإيقاعات المتأصلة في الكلام الطبيعي من خلال اللغة تَصدُر كم كتابةٌ إيقاعيةٌ». من ثمة، يعمل الخطاب ضد المعلوم الذي يتمثل الشعر كما لو قُيض له النجاح، فيما اللغة العادية تُخفق، طالما أنها ستكون مبذولة للعموم. من معارضة العام بالخاص يثبت إبدال التعارض بين النفعي الوظيفي؛ حيث النثر شبيهٌ بالمشي، وبين البَذخ- العيد؛ حيث سيكون الشعر رَقصا. ما زلنا لم نهجر الإيقاع بعد.
فإذا كان الخطاب هو تاريخية اللغة، وكانت الخطابات تاريخية، فإن النثر والشعر تاريخيان بدورهما، لا مُجرد جنسين. إنهما يشتملان على عدد من الأنواع. فهما يسنان الشروط بقدر ما يضعان صيغ الخطاب. والعلاقات بين الشعر والنثر ومنطوق العصر تتعلق بمتغيرات الصراع من قريب أو بعيد، والأنواع تأخذ دَورَها داخل هذا الصراع. إن ما يُكتب هو ما يُنشئ التاريخية الخاصة للذات التي تتم في الكتابة وعبرها، داخل الصراع بين المصوغ وغير المصوغ في كُل لحظة.
وما يصف إيخنباوم به بوشكين هو مثالٌ على تاريخية الأشكال، بمعارضته مع كوكبة من شعراء فرنسا، بخلاف مارو، واللغة الشعبية. يستشهد إيخنباوم بكتاب جاك بليتيي المعنون بـ»الفن الشعري»: «لهذا، سأشير على شعرائنا بأن يصيروا جريئين إلى حد ما، وأقل شعبية». وتبعا للعصر والوسط، ستجري حركة معكوسة: لدى بوشكين ميلٌ نحو الشعبي والسوقي، على نحو يعاكس القرن الثامن عشر. وأحيانا، تكون هذه «الجراءة» مُغايرة؛ حيث الثقافات تعكس القيم. وذلك شبيهٌ بما قاله غابرييل صيلايا من أن «النزعات النثرية بمثابة محسنات للكتابة الطقوسية». فعلاقة الأبيات بالنثر، وبالتنثير لم تكن لها الوضعية نفسها، ولا التاريخ نفسه داخل التقليد الأنغلو- أمريكي ولا التقليد الفرنسي. وكذلك الحال بالنسبة للعلاقة بالمكتوب والشفاهي، ولا بالبيت الشعري ترتيبا على ذلك. في أيام البلياد، كان البحر الإسكندري نثريا وفق التقدير. يكتب رونسار في مقدمة «فرنسياد»: إن شعراء الإسكندري «يشعرون بنثرهم أكثر مما يجب». ولقد أتى بودلير بصنيع معكوس إزاء الإسكندري في زمنه، إذ جعله لا يقترب من إسكندري النثر. واليوم، يحمل الوزن الإسكندري كُل إرثه، سواء كان «نثريا» أم منثورا.
الشعر داخل البيت
أَول سؤال يُطرح هو لماذا ظل الشعر، ولا يزال، متماهيا مع البيت. يُنظر إلى البيت، ولا يزال الأمر لبعضٍ منهم، بوصفه ليس التقنين الوزني للإيقاع فحسب، بل هو تقنين الإيقاع الذي يقوم برد فِعلٍ ضد تقنينه الخاص. البيت هو وحدة، عنصر: السطر. إن لغات مثل الإنكليزية [Vers, line]، والروسية [stix, srtoka]، والألمانية [der Vers, die Zeile] يضم كل منها مصطلحين كما يظهر. في الفرنسية الحديثة قلما نقول [السطر=] la ligne، وهو ما قامت به مقالات البلاغة الثانية في القرن الخامس عشر، فأُضيف التباسُ الإيقاع والقافية إلى تماهي الشعر مع البيت. بالبلاغة الثانية «تُعرف الأشياء المقفاة» و»تُملي بلاغة ثانية لسببٍ من أن ما هو نثري سابق على غيره» والشعر أَدخل في البيت طالما عُد الشعر بَيتاَ. لم تَعُدِ العلاقة علاقة مُجاوَرة، إنما حدث تحولٌ في الخصوصيات بالنسبة إلى أحدهما في علاقته بالآخر. لهذا، يكون البيت هو حد النثر، وكل خطابٍ يكون إما بيتا أو نثرا. تجريبية شائعة غدت معها البداهة، فيما يبدو، واضحة للعيان. حتى داخل السيميائيات الأدبية بعد البنيوية، كان يوري لوتمان يعتبر «طبيعة الشعر» مُطابِقة لطبيعة البيت، غير أن اللغة الشعرية واللغة المنظومة، المصطلحين معا، يلتبسان علينا أكثر من أن يلتبسا ببعضهما بعضا. وقد سبق لأرسطو أن رأى صراحة، وبخلاف الرأي المضاد السائد، أن البيت ليس هو الشعر: «على أن الناس قد اعتادوا أن يقرنوا بين الأثر الشعري والوزن» و«أن الشاعر يجب أن يكون صانع حكايات وخرافات أكثر منه صانع أشعار، لأنه شاعرٌ بفضل المحاكاة، وهو إنما يُحاكي أفعالا». ولا يمكن لأرسطو أن يقول بذلك إلا داخل نسقيته، وما ليس له من معنى هنا يضيع تلقاء نفسه.
يجمع تاريخنا الثقافي، على نحو غير قابل للفصل، بين البيت والشعر معا. هكذا يتحدث طومبسون عن الشعر بالمعنى العام، الذي أصبح أمرا طبيعيا من أن لا يُعرف، ويُسمي البيت «ضربا من الشعر». ويُلاحظ غيرو تغييرا في تعريف كلمة شعر، من ليتري إلى روبير. بالنسبة إلى ليتري: هو «فن تأليف أبيات الشعر» على نحو كامل، وهو «الخواص التي تُميز الأبيات الجيدة، والتي يمكن أن توجد في مكانٍ آخر عدا أبيات الشعر». ويُعرفه روبير: بأنه «فن لغوي يميل إلى التعبير أو الإيحاء بشيء ما عن طريق الإيقاع (ولاسيما عبر البيت الشعري) والتناغُم والصورة». ويظهر أن الفهم يدق أكثر إذا ما توسعنا فيه. ففن اللغة يُحيل على المحاكاة مع ما تحتمله هذه المقولة من صعوبات، كما أن الأمر يتعلق هنا بالتوازيات المفهومة بوصفها حِيَلا. ونسأل: «إلى أي حد يستطيع الشعر أن يوجد وهو يستغني عن النظم؟» فغاية ما نعرفه، للوقوف على الحد، هو «أقنوم الدال». لقد حُدد العروض بأنه «قائمة الإيقاعات الشعرية بالقوة داخل اللسان» ونُظِر إلى الوزن كـ»أساس الإيقاع» ما لم يكن التمييز بين الشعر والنظم ممكنا، غير أن الأمر جارٍ تمام الجريان. من هنا التعريف المتحفظ: يستند النظم على نحو الأبيات الذي يُشكل بنيتها الوزنية؛ ومن ثمة تغدو الشعرية متماهية مع «البلاغة» ومع «أسلوبية» «الآثار الموزونة والمتحققة في السياق بحرية وضمن حدود القاعدة».
وهكذا لن يترك الدليل للقصيدة موضعا آخر. إن التباس الشعرية مع البلاغة والأسلوبية يدل على فراغ النظرية، وهو فراغ العلاقة نفسها بين الإيقاع والمعنى. وبعيدا عن أن نؤرخ للتمييز بين البيت والشعر، والذي من المُهم أن نلاحظه عند الرومانسيين الألمان، فإنه طالما عرفنا، وبشكل يقطع مع الشك، أن كل ما يُنظم ليس شعرا. يكتب أوغست فيلهلم شليغل أنه «وحده الشعر مما ينبغي أن يكون مؤلفا من أبيات». ذلك هو الشعر الذي يجب أن يُدعى نَظما، وليس النظم الذي يجب أن يُدعى شعرا. من هنا، «كل شِعرٍ هو شعر الشعر». في كتابه «دفاعا عن الشعر» 1821، يقترح شيللي نموذجا تمثيليا عن مقولة الشعر هذه. فالشعر يتم عن طريق النظم، وهو موزون؛ لأنه يُعبر عن النظام وتناغم العالم الذي يغدو معه الوزن رمزا، وتراسُلا. أما الشعراء فهم أولئك الذين «يتخيلون ويُعبرون عن هذا النظام الذي لا يمكن أن يزول». لذلك، يقترب الشعر من الدين، ومن النبوءة التي هي «صفة الشعر». وبالمعنى الواسع: «تُعد اللغة، واللون، والشكل وصيغ العمل الدينية والمدنية جميعها، أدواتٍ للشعر ومواده البانية؛ ويمكن أن ندعوها شعرا عبر هذه الصورة من الخطاب الذي يرى في الأثر كَمُرادفٍ سببي. بيد أن الشعر، بالمعنى الأكثر تقييدا، يعكس هذه التنظيم بواسطة اللغة، ولاسيما اللغة الموزونة التي تبتكرها هذه الملكة الإمبراطورة التي تحجب عرشها عن الإنسان في ما وراء الطبيعة».
ويحدث أن يتواصل التمييز بين «اللغة الجارية على قياس أو على غير قياس» «لأن التقسيم بين النثر والنظم لم يكن مقبولا داخل الفلسفة الدقيقة». ويخلق التعليل الأصلي المُعمم الضرورة الشعرية التي يكون فيها الشعر إدراكا: «من هنا، فإن لغةُ الشعراء طالما اصطنعت ترجيعا صوتيا متناغما ومتماثلا، من غير أن يكون ذلك شعرا». فالشعر، مراعاة له، هو «نسقٌ ما من الأشكال المتوارثة عن تناغم اللغة» لكن حتى الجديد ينتمي إلى الشعر. بعد كوليردج وووردزورث، يُقر شيللي بأن كُل شاعرٍ عظيمٍ يُجدد بالقياس إلى العرف. وتقوم لعبة التجديد والإيقاع المركوز في الفكر، بالاعتراض على التمييز بين الشعراء والناثرين باعتبار ذلك «خطأ عاميا». ثُم يبسط مقولة الشعر بقوله: «يرفع الشعر الحجاب عن الجمال المختفي للعالم، ويُثبت أن الموضوعات المألوفة تبدو كما لو أنها ليست مألوفة». بواسطة الأبيات أو دونها، يصير بعض الفلاسفة والمؤرخين شعراء؛ فليس البيت أكثر من شكل ضمن أشكالٍ أخرى للكشف عن النظام الكوني، والقصيدة هي «الصورة نفسها للحياة المُعبر عنها في حقيقتها الأزلية» مثلما أن الإيقاع يتحرر من الأبيات؛ وحيثما وُجِد ثمة «صدى من الموسيقى الأزلية» وُجِد إيقاعٌ وشِعرٌ.
هل يجوز القول إنه كلما قيل إن الشعر ليس هو النظم، كانت مقابلة البيت بالنثر والإيقاع بغياب الإيقاع مدعاة لعدم الرضا؟ إن الشعر، ثُم البيت والنثر ليست مجرد كُليات مُضلة. ولقد أربك النثر الشعري وقصيدة النثر نسق التقابلات التقليدي متروكا يضعف، وفي مكانه حتى.
الإيقاع ـ الوزن، الشعر ـ البيت
يُحدد الترابط هنا خَلطا وزنيا تم إقراره في «أزمة البيت الشعري»: «إن البيت لا يوجد إلا في الإلقاء مرتكزا عليه، والإيقاع في الأسلوب»؛ حيث يُرجأ النثر على نحو غريب ـ لا يوجد النثر، إذا كان البيت هو الإيقاع كله: «البيت في كل موضعٍ من اللغة حيثما يوجد إيقاعٌ، وفي كل موضعٍ داخل الإعلانات والصفحة الرابعة من الجرائد، يحظى بالقبول». لا شيء أصعب من أن نبرز أنه، بهذا المعنى أيضا، يوجد ثمة بيت. يواصل مالارميه القول: «داخل الجنس المُسمى نثرا، توجد أبيات، رائعة أحيانا، بالإيقاعات جميعها. لكن في الحقيقة، ليس هناك من نَثرٍ: هناك الأبجدية ثُم تعقبها أبياتٌ تنتظم أو تنتشر، قليلا أو كثيرا. في كل المرات عندما يكون هناك مجهود في الأسلوب، يكون ثمة نَظمٌ». يقترح روبو مقولة «نثر البيت» بخصوص «إشراقات» رامبو، «بمعنى أن تكون اللغة مرتبة ترتيبا نثريا عبر إزاحة حدود البيت الممكنة، ابتداء من الشعر الحُر الذي لم يكن موجودا بعد، بيد أن رامبو يستحدث أول نموذجين منه، هما: Marine و Mouvement.
تُفضي هوية شعر/ بيت إلى تعريفٍ سلبي للنثر ـ غياب النظام والإيقاع ـ الذي لا ينزع الشعر من تاريخيته حسب، بل من الشعر نفسه. وكان جان مورو قد لاحظ أنه في مراحل من نقد البيت (القرن الثامن عشر، بداية القرن التاسع عشر) قد جرى نظم النثر وتدريسه مما أفسد التمييز بينهما. كما أن النثر الشعري والشعر المنثور ثُم ترجمات القصائد المنظومة نَثرا، أحدثوا تشويشا على هذه الماهيات. وينتهي لوت lote، الذي دَون بدوره نشرة دِعائية، بالتعرف على أن اختلافات الإيقاع بين النثر والبيت «هي في الدرجة فقط، وليس في الطبيعة. الإيقاع الموسيقي هو نفسه في كل مكان: يُؤسسه تعاقب الأقدام الممتدة إن قليلا أو كثيرا، وكل قدمِ منها يتركب من سلسلةٍ من المقاطع الخفيضة، وينتهي بمقطعٍ حاد، وقد يلحق بها مقطع جديد مؤنث حاد يقفل المجموعة». من هنا، يختص كل قدم بمجموعةٍ إيقاعيةٍ.
تتخبط البداهة، المدعومة بيقينياتٍ مندفعة، في غياب نظرية. ويخلق منتهى تحصيل الحاصل منتهى الالتباس الذي لا يثبت إلا من تكراره. فالنثر ليس هو الشعر، والشعر ليس هو النثر، وليس النثر هو البيت، والبيت ليس هو النثر. إنما الشعر هو البيت، أو إن البيت هو الشعر. لهذا السبب، تبدو التعريفات خرساء.
كاتب مغربي