د. يوسف إدريس - اليد الكبيرة

هبطتُ من القطار في العصر، ودائمًا أصل بلدنا في العصر، والمحطة على ناحية من السكة الحديد، وبلدنا على ناحية، والشمس صفراء، في صفرتها هدوء وسكون ومرض، وبلدنا أيضًا تقبع صفراء ببيوتها المصنوعة من الطين، وأشجارها، حتى قمم النخيل كانت تظلِّلها صفرة.

ورمقني نفرٌ من دائمي الجلوس على كنبة المحطة؛ إذ هي مكان صالح للجلوس الفارغ، لا أحد يطرد الجالس ولا يطلب منه الثمن، رمقني ذلك النفر بنظرة، لا بد أن كان فيها رثاء، ومشيت والقطار لا يزال واقفًا برأسه الأسود البشع السواد، والأصوات الخشنة القبيحة التي لا تكف عن الصدور منه، والعين الواسعة المدورة الحمراء التي تنفتح في داخله بين الحين والحين وتنفث جحيمًا؛ جحيمًا أحمر، الرأس الذي طالما أخافنا ونحن صغار بأفظع مما كان يُخِيفنا رأس أم الغول، هذه المرة، عبرت القضيب الحديدي من أمامه وأنا لا أحفل بشيء ولا أخاف الموت.

وكنتُ حين أصبح على المشَّاية الضيِّقة التي توصل إلى داخل البلدة وإلى دارنا، أحس إحساسًا غريبًا بأني أخيرًا عدتُ، ودائمًا كنتُ أصادف في طريقي ثلاثةً أو أربعةً من أهل بلدنا منتشرين في تلك البقعة، وأقول لهم: سلام عليكم، ويجيبونني ويرحِّبون بي، وهم يرمقونني، ويرون ما أحدثتْه السنون فيَّ من تغيير، وأرى ما أحدثتْه السنون فيهم من تغيير، رأيتهم وأنا طفل، ورأوني وهم شباب، واليوم لم أعد طفلًا ولم يعودوا شبابًا، الزمن! الزمن الغادر الذي لا أمان له لا يكفُّ عن المضيِّ، ونحن لا نكفُّ عن الكبر، ولا نكفُّ عن الاقتراب من النهاية، ونحن لا نحسُّ بالزمن إلَّا إذا رأَيْناه، ونحن نرى ما أحدثه الزمن في الآخَرين فنتوقَّع أننا لا بد أننا نحن الآخَرين كبرنا.

وقريتنا دائمًا هادئة، لا صوت، لا زعيق، لا شجار، لا شيء، هواء يُداعِب ما على الأسطح من حطب، وقوافل الإوز ساكنة لا تكاكي، وكل شيء من الطين، والأرض فوقها تراب، وفي السماء دخان المواقد، والناس يتحرَّكون في صمت ووجوم وبلا حماس، كمَن يُدْرِك ألَّا داعي للعجلة مطلقًا، ولا فائدة في الحركة، الناس صامتون، كأنما ينتظرون يوم القيامة ليتكلَّموا، أو ينتظرون الموت.

وأعرف أني إذا وضعتُ قدمي على المشَّاية فسأرى بيوتًا، على عتباتها نسوة، وتعوَّدتُ من صغري أنْ أغضَّ طرفي حين أمرُّ، وتعوَّدْنَ أن يتهامَسْنَ بعد مروري، يحدِّقْنَ فيَّ وأنا قادم ثم يتهامَسْنَ.

والمشَّاية قطعتُها عشرات الآلاف من المرَّات، إلى الابتدائية ببنطلون قصير، وتعلَّمتُ فيها ركوب العجلة، وجرَيْتُ فرحًا بنجاحي في الامتحان، وتزَحْلَقْتُ أيام المطر، ولعبتُ فيها مع الأولاد بالليل، وفي آخِرها بيتنا له سور، وباب من الصاج، وأمامَه مباشرة باب جارتنا بديعة، وهي دائمًا أمام الباب، أطفالُها حولَها وهم صغارٌ، والنسوة حولَها لَمَّا كبِرَ الأطفال، ودائمًا تصنع شيئًا، تدعك النحاس، أو تنسف الغلة، أو تسأل عن فرحة ضائعة، ومن لحظة أن تراني هالًّا من أوَّل المشَّاية، تلمَحُني، وتفرح ثم تنهمك فيما تصنعه، فهي تُريدني أن أقولَ لها: «العواف»، تريدني، فقد كنتُ من سنين طويلة طفلًا، أعطش إذا لعبتُ وجريتُ وأذهب لأشرب من عندها خوفًا أن تضربني أمي إذا ذهبتُ لبيتنا ورأتْ ما أنا فيه من إجهاد، وكانتْ خالتي بديعة تسقيني وتحمِيني وتُخبِّيني عندَها إذا غضِبَتْ، وتحوش عني إذا ضُرِبْتُ، ولكني كبرتُ، وتعلَّمتُ، وأصبحتُ أفنديًّا طويلًا له بدلة، تُرى، ألَا زلتُ أذكرُها؟ ذاك بلا ريب ما كان يدور في خاطِرها كلَّما رأَتْني مُقْبِلًا من مصر ومعي الشنطة، والسنون قد جفَّفتْ عودَها، وكرمَشَتْ جلْدَها، ولكنَّها أبْقَتْ لها ابتسامتَها الوديعة ذات الطيبة.

وقلتُ لها: «العواف، يا خالة بديعة.»

ورفعتْ رأسَها، ولَمَحْتُ الفرحةَ الدافقة في عينها، واضطرابَ يدها وهي تَجْلِي الحلة بالتراب، وكادتْ تبتسم، ولكنها عادتْ وردَّدتْ في صوت حنون راثٍ رقيقٍ، وهزَّني الصوت، فلم تكن خالتي بديعة كذلك، كانتْ ما تكاد تردُّ عليَّ عافيتي حتى تترك ما في يدها، وتقوم هالعة، وتفتح بابنا وتكاد تزغرد وتقول: «أهو جه! أهو جه!»

وتحدُثُ حينئذٍ ضجَّة هائلة في بيتنا، فهم لم يَرَوْني من ستة أشهر أو سنة، ودائمًا في شوق إليَّ، وكنتُ قد تخرَّجتُ صغيرًا، ومن يوم أن تخرَّجتُ لا أراهم إلَّا لِمامًا، وكانوا يحبُّونني.

يُفتَح بابنا، ويخرج أكثرُ من واحد من إخوتي حافِين، وبجلاليبهم، وأحيانًا بالفانلة والسروال، ويتعلَّق كلٌّ منهم في جزء من رقبتي، وفرحتهم بأخيهم الكبير لا تُوصَف، فرحة تنفجر على ألسنتهم صياحًا وتهليلًا، ولا يقولون سوى: «هيه! هيه! هيه!»

وأعانقهم بكل قلبي وأذرُعي، هم أخوتي، وأنا أحبُّهم، والمدينة التي أعيش فيها مليئة بالصراع، وحياتي هناك مقبضة، أدافِع فيها عن الوجود؛ وجودي، ووجود غيري، وأقِفُ أمام قوَّات هائلة، وقلبي وحيد، والناس لا أكرَهُهم، وأرْثِي لهم، وأصدقائي كثيرون، ولكن مثل هذا الحب لا أتذوَّقه إلَّا هنا، حبٌّ لا مقابلَ له ولا حدود، حبٌّ ملموسٌ محسوسٌ، لا يُخفِيه أحدٌ ولا يضِنُّ به أحد.

أعانقُهم وأبذل الجهود لأتخلَّصَ من أذرُعهم الصغيرة الطفلة حتى أرى أبي، فأنا دائمًا مشتاق له، أنا ابنه الكبير، وحبيبه الكبير أيضًا، وكان وضْعي يحتِّم عليَّ أن أبدو كالرجال تمامًا، وكنتُ أفعل، ولكنِّي كنتُ دائمًا أحنُّ إلى أبي، إلى طفولتي، إلى أن أنفضَ عنِّي ثيابَ الرجال وأعود طفلًا، أو كالطفل، حتى أبدو ابنًا، وحتى أُحِسَّ أني ابن، وكنتُ أحب أبي، أدخل من الباب فأجِدُه قد أفاق ممَّا كان يفعله على عجل، واقفًا يرتدي جلبابه، ورأسُه عارٍ، وصدره مفتوح وهو حائر فرحان، يبحث هنا وهناك عن شيء يضَعُه في قدمَيْه ليستطيع أن يُسرِع ويُقابِلُني، فقد كان هو الآخَر يحبني، يحبني أكثر من أي شيء آخَر في الوجود، ويقِف على باب دارنا الكبيرة ويفتح يدَيْه الاثنتين ويقول: «أهلًا أهلًا، اخص عليك يا شيخ!»

وأندفِع إلى حضنه ويندَفِع إلى حضني، وكم حضنتُه وكم احتضنَنِي، وطول عمري كنتُ أريد أن أظلَّ أحتضنُه، كنتُ وأنا صغير لا أطول إلَّا ساقَه فأحتضنُها، ثم كبرتُ حتى أصبح في استطاعتي أن ألفَّ يديَّ حول وسَطِه، وكم كان يملؤني هذا بالغبطة! ثم كبرتُ حتى أصبحتُ طولَه وها أنا ذا أصبح أطولَ منه، وأحبُّه أكثر مما أحببْتُه، وأنا لا أكاد أتعدَّى ساقَه، أحتضِنُه وأقبِّلُه بلهفةٍ، وألْمَحُ جلدَ رقبته وقد حفِلَ بالتجعيدات، أحبُّ تجعيداته، وشعر صدره، وقد ابيضَّ وأطلَّ من فتحة الفانلة، ولون بشرته الداخلية الفاتح، ووجهه الأسمر، وأنفه الهادئ الطيِّب، وعينيه الحافلتين بالخير والحب، وأقبِّله أكثر، ويقبِّلني والدموع تكاد تأخذُ طريقَها إلى عينيه، وهو يقول: «اخص عليك يا شيخ! وحشتنا خالص!»

وفي تلك اللحظات أصمت، وأحسُّ بالرُّوح تعود إليَّ، أنا مضيع في المدينة الكبيرة، وحيد، وهنا أبي، هنا بيتنا، هنا أنا إنسان له أبٌ ويُعرَف أصلُه وفصلُه، والأرض التي شبَّ عليها.

أبي لا يريد أن يُنهِيَ العناق، وإخوتي مِن حولي، يتخاطَفون مني الحقيبة ويتشبَّثون بملابسي، ويعانقون بعضهم بعضًا، وأمي أعرف أنَّها لا بد في تلك اللحظة متناوِمة، تنتظر منِّي أن أذهب إليها، وأنادي فلا تردُّ عليَّ، وكأنَّها في أحلى نُعاس، فأذهب إلى الفراش، وأُمْسِك يدَها، وأميل بجسمي كلِّه وأقبِّل اليدَ البيضاء الخشنة، وحينئذٍ تفتح أمي عينيها وكأنها تستيقظ، وتقول في حزن: «الله يسلِّمك»، ولا أملك نفسي فأضمُّها وأقبِّلُها في جبهتها، فلا تملك نفسها هي الأخرى وتقبِّلني في وجنتي، وصوتها ممدود شاكٍ حزين، وتلك طريقتها في بثِّ أشواقِها إليَّ؛ إذ هي لا تُظهِر حبَّها أبدًا.

ونجلس حول فراشِها، وكلُّ أخٍ من إخوتي يُزاحِم الآخَر ليجلِسَ بجواري أو فوق رجلي، وأبي يبتعد عني ليُوفِّر لهم المكان، ولو كان الوُدُّ وُدَّه لزَاحَم وما تَرَكني، وأمي تشكو من الزكام والروماتيزم ورأسها الذي يكاد يطير، وأبي فرحان فرحًا لا يُوصَف، يُخفِيه بصمْتِه وتهيئة وسائل الراحة لي، فيضع وراء ظهري مسندًا، أو يجعلني أقوم من مكاني لأجلس في مكان آخَر أكثر راحة، وهو من فرط فرحته قد نسى أن يرتدي في قدمَيْه مداسًا، وأقدامه كبيرة، كنتُ شغوفًا وأنا صغير أن أمسح وجهي في بطنها، وألعب في إصبعها الكبير وأنا فخور بكبره، وكبرها.

نجلس، عائلة تواجِهُ الحياة، ولكنها في ساعة صفو، ساعة تتبخَّر فيها الأحزان والمتاعِب ولا يبقي سوى الحب والشوق، والكلمات الصغيرة المبعثرة والضحكات، ضحكات صافية، والعائلة صغيرة، والحياة كبيرة، والطريق شاقٌّ، ولكن لها هي الأخرى ساعتها، ساعة كتلك، اللمبة الغاز مشتعلة والحجرة حجرة أرياف، والسرير له ناموسية، والكنبة تضيق بنا، وفي الصيف لنا جلسة في الفضاء أمام الباب، وأبي سعيد، جالس بيننا كالإله! كلُّنا نحبُّه، ونذوب في حديثه، ما أجمله حين يتحدث! في الحال نصمتُ كلُّنا ونترقَّبُ، ويبدأ حديثَه بابتسامة تظلُّ طوال الحديث، وحنجرته رنينُها حلو، وصوته ملآن، وطريقته في الكلام تأسرنا وتخلب ألبابنا، يكون قد ذهب إلى المحكمة مثلًا وأدَّى الشهادة، ويقص هذا علينا، ونحب قصتَه فهو يبدأ من اللحظة التي نريده جميعًا أن يبدأ منها، ويقص علينا التفاصيل المثيرة الدقيقة ويسرح بنا، ويدخل في حكاية أخرى، ولا نحس أن حكاية بدأتْ وأخرى قد انتهتْ، إنما نحسُّ أننا سعداء، وأننا نحب أبانا ونعبده.

•••

لم تقم خالتي بديعة وتترك ما في يدها وتعلن قدومي في هذه المرة، بل ردَّتْ تحيَّتي، وخفَضَتْ رأسَها، وانهَمَكَتْ تَجْلِي الحلة، وتركتُها واتجهتُ إلى دارنا، كان باب الحوش مفتوحًا، والباب من الصاج والهواء يتلاعب به فتزيق مفاصِلُه، ووراء الباب فرخة منكمشة على نفسها، وطفل يتبوَّل، ودخلتُ، الهدوء هو الهدوء، ولكن بيتنا ليس هو البيت! فهذا أوسع وأكثر ارتفاعًا، وفيه فراغ كبير، خطوتُ إلى الداخل بضع خطوات، الفناء هو الفناء «الطلمبة» موجودة، وحرفها من الحجر، والماء يتسرَّب من الحوض ويصنع قنوات، والأشجار متفرِّقة كعادتها، والنخلة قد نَمَتْ وقتلتْ ما حولَها من نخيلٍ صغيرٍ، وأصبحتْ أطولَ من الحائط، وشجرة العنب ماتتْ لا ريب من كثرة الماء، وبرج الحمام في آخِر الفناء، أبيض وفيه خرابيش، وأوضة الفرن بابها مهبب أسود، والظلام يشع من داخلها، والأرض عليها عفش ومهملة، والفناء كبير.

ووجدتُ باب البيت مفتوحًا هو الآخَر، ولا أحدَ على الباب، ولا أحدَ في الداخل، ولا أحدَ ينتظرني، وكل شيء مهمل، والدنيا شتاء، واصفرار الشمس قد ازداد، والنخلة الصغيرة طول ظلِّها يمتدُّ بطول منزلنا.

ودخلتُ البيت، الصالة الكبيرة أكبر مما رأيتُها آخِرَ مرة، والسقف مرتفع، وعروق السقف أكثر بروزًا، والكنبة بياضتها متَّسِخة، ومسانِدُها نائمة والحجرات مقفولة، ولا صوت!

الحَمَام واقفٌ على قمة الباب المؤدِّي إلى السُّلَّم، يهدل هديلًا ممدودًا قبيحًا، وكلبنا نائم على فروة الصلاة، وعصافير غير مرئية تصفر، وشعاع شمسي قد اخترق بئر السُّلَّم، وسقط على أرض الصالة فصنع دائرة صغيرة من الضوء الأصفر، وتعلَّقتْ بالشعاع ملايين الذرَّات.

وأحسستُ أنَّ بيتَنا قد خرب.

وعدتُ إلى الخارج، ثم إلى الشارع، وما رأتْني خالتي بديعة حتى قالتْ: «عايز حاجة؟»

قلتُ: «هم فين؟»

قالتْ: «طلعوا على الجَبَّانة.»

قلتُ: «وسايبين البيت فاضي؟!»

قالتْ: «ما أنا هه.»

ورأيتُ نفسي أمشي.

كان صدري فارغًا مُوحِشًا كئيبًا، والدنيا من حولي لا تجذب انتباهي، ما قيمة أي شيء، ما قيمة أن أقول للناس: «سلام عليكم»، فيردُّون السلام وتفضَّل، أنهم أحياء، وأنا حي، ولكن ما حدث قد حدث.

وتُهْتُ! بدتْ لي بلدتنا التي أعرف كلَّ ركن من أركانها بلدةً أخرى، كنتُ أمرُّ في هذه الشوارع والحواري دائمًا وأنا لا أحسُّ لها وجودًا، وأنا آلَفُها وكأنها بيتنا، واليوم وأنا أمشي فيها، كنتُ أراها لأول مرة، وكنتُ أعرف أناس بلدنا وأَلِفْتُهم من طول معرفتهم، ولكني كنتُ أمرُّ بهم وأراهم فأحس أنهم رجال، وأنهم أغراب، وأنهم متعبون، شيء لا بد قد حدث، فأنا أحسُّ الآن ببلدنا وأناسها، وكنتُ قبلًا آلَفُهم، شيء ما لا بد قد حدث.

تهتُ، فخلال السنين التي كنتُ بعيدًا عنها، كبرَتْ بلدنا واتَّسَعَتْ وأُنشِئَتْ بيوت جديدة، وكنتُ قبلًا أعرف طريق الجبَّانة، فبجوارها كانت توجد وَسَعاية يُقام فيها العيد، العيد؟! ترى لماذا لم يعد هناك عيد؟! لماذا لم نعُدْ نحسُّ به؟! يأتي ويمضي كأي يوم من الأيام! أين اليقظة المبكرة؟! والكعكة والعيدية، وثياب الناس الجديدة الزاهية، والمراجيح، والمشبك، والحلاوة الطحينية، و«القرد أبو فلة» الذي كان يُفرقِع ونُخِيف به جداتنا؟!

تهتُ، ولكني وصلتُ، وأصبحتُ خارج البلدة، ولم أجد الوَسَعاية، كانتْ قد تراكمت فيها بيوت أخرى مصنوعة من الطين، وكانت الجبَّانة هناك، تطلُّ قبورُها من بين البيوت.

وكم كنا مغفَّلين!

فها هي القبور أمامي وحولي، وقبور فقيرة مهدَّمة لا شيء يُرْعِب فيها ولا يُخِيف، ترى ما سبب الفزع الذي كنَّا نحسُّه ونحن صغار حين نلمح الجبَّانة من بعيد؟! ترى أين قبر جدتي وأين قبر عمي وخالي؟ إن القبور مهدَّمة كلها ومبعثرة لا تكاد تفرِّق بين أحدِها والآخَر، وكل ما يُمَيِّزها جريدة عند أوَّلِها وجريدة عند آخِرها، جريدة جافة قديمة قد تآكلَتْ أوراقها واستحالتْ إلى نسل.

جُبْتُ المكانَ بناظري، فلم أجِدْ أحدًا، لا ريب أنهم كانوا قد غادروا الجبَّانة وعادوا إلى البيت، ولم أجِدْ عناءً كبيرًا في العثور على القبر، فقد كنتُ لا أزال أذكر أنه قرب شجرة الكافور، وها هي شجرة الكافور، لا بد أن هذا هو القبر، ووقفتُ أمامَه، كان الأسمنت لا يزال أخضر، ولم يكن البناء جيدًا، وأثر «المحارة» واضِح، ومن الأمام لافتة مركبة كتب عليها: المرحوم … وقرأتُ اسمَ أبي، وعدتُ أنظر حولي، القبور مهدَّمة، وأشجار الكافور طويلة وحيدة جرداء، والشمس خنَقَها العصرُ الضيِّق، والغربان تتناحَر عن بُعْد، وسوادُها كثير.

أبي هنا إذن، تحت هذا القبر، كلُّ هذه الكمية من الحجارة والتراب والأسمنت فوقه، وهو الذي كان لا يحتمل إغلاق نافذة الحجرة ساعة! أبي هنا نائم! وملفوف بالكفن التيل المخطط وفوقه الكفن الأبيض، وحوله كل تلك الوحشة، وعيونه مغلقة، أبي هنا! لا يمكن أن يكون راقدًا، فقد كان لا يحتمل الرقاد الطويل، لا بد أنه جالس، أجل، إنه جالس، جالس القرفصاء وكأنه يقرأ التحيات، وقدمه الكبيرة متنية تحته وإصبعه السبابة تتحرك، وعيناه إلى أسفل، وكأنه يصلي، ها هو قد ختم الصلاة.

وقلتُ: «سلام عليكم.»

ولم يردَّ، فقط نظر إليَّ، بعينيه الواسعتين، ورأيتُ رقرقة الفرحة في عينيه، ولكنَّه لم يردَّ، وكان حزينًا، ويتمتم بختام الصلاة.

قلت له: «أنا هنا يا أبي، أنا حبيبك وقد عُدتُ، لماذا لا تقول: «أهلًا، أهلًا»؟!»

لماذا لا تقول: «اخص عليك»؟!

وقلَبَ كفَّيْه حتى أصبح باطنها إلى أعلى، ورفع وجهَه إلى السماء ودعا بشيء، ثم مسح بيديه على وجهه، وتطلَّع إليَّ، كان حزينًا، ومتعبًا، ولم يتكلَّم.

فقلتُ: «ألا تعرف أني أحبك؟!»

وأغمَضَ عينيه، وشدَّد مِن غلق أجفانه وكأنما يقول: «نعم، نعم.»

قلتُ: «وحبي لك لا يقدر؟!»

وفتح عينيه وفيهما لمعة حزن.

فقلتُ: «وأنت أحب إنسان إلينا جميعًا؟!»

فعاد يُغلِق عينيه في ألم.

فقلتُ صارخًا: «إذن، لماذا تفعلها وتموت؟!»

وفتح عينيه في دهشة، وحدجني بنظرته القاسية الثابتة، تلك النظرة التي كان يُطالِعني بها كلَّما ارتكبتُ خطأً عظيمًا، وكنت أخاف من نظرته تلك وأنا صغير، وأخافتْني لحظتها كما لم أخف في حياتي، وخفضتُ صوتي حتى استحال إلى همس، وقلتُ: «وحياة النبي الذي كنت تحبه، لماذا متَّ؟! لماذا تركتنا؟!»

وكان أبي أسمر، وله تجاعيد، تجاعيد كبيرة طيبة، وكنَّا نحبُّها، وطالَمَا لثَمْناها، ولم يتغيَّر منظره في أعيننا طوال السنين، كنَّا نكبر، ونتفرَّق، ونعود لنَجِدَه أسمر ذا تجاعيد كبيرة طيبة.

وأردتُ أن أقبِّله في تلك اللحظة، فقد أحسستُ فجأة أنني مشتاق إليه، وحياتي قضيتها مشتاقًا إليه، وكلَّما عدتُ من غيبتي ورأيتُه أقسم لنفسي أني لا بد سآخُذُ إجازة لأقضيها معه فقط، ولأشبع منه، فقد كنتُ أخاف أن يموت قبل أن أشبع منه، أردتُ أن أقبِّله، واندفعتُ ناحيتَه لأفعل، ولكنه رفعَ يدَه من فوق ركبته كمَن لا يَوَدُّ أن يُقاطَع وهو يصلي، وتوقَّفتُ وقلتُ: «كيف تموت قبل أن أشبع منك؟!»

ولمحتُ دمعةً صغيرة رقيقة كرأس الدبوس تفرُّ من عينه، وتذكَّرتُ لحظتها فقط ساعة أن وضعوا النعش بجوار الحفرة، ثم فردوا ملاءة كبيرة فوقها، وأزاحوا غطاء النعش، وبالراحة حملوه، وقد أصبح صغيرًا في الكفن الأبيض، ووَسَطُه قد سقط بين أيدي الرجال، ويده اليمنى حين انزلقت وأطلَّتْ من الكفن، كانتْ هي يده بلا ريب، نفس اليد الحبيبة الضخمة ذات الشعر، والكف، التي طالَمَا ملَّستْ على رءوسنا وباركَتْنا، اليد التي كنَّا نقبِّلها، ونتأمَّلها ونحن نقبِّلها، اليد التي طالَمَا لعبنا في أصابعها الكبيرة، وأحببنا لونها وخطوطها وضخامتها.

وعدتُ أقول له: «لماذا لم تقل لنا إنك ستموت؟!» وانتظرتُ أن يُجِيب فلم يفعل، فنظرتُ إليه فوجدتُه لا يزال على جلسته ولكن عينيه مغمضتان، ووجهه أصفر شديد الشحوب لا يتحرك، وجدتُه كشجرتنا المقطوعة حين هَوَتْ على طولها في الفناء، ومضى على قَطْعِها أيام، واصفرَّتْ أوراقُها وذبُلَتْ وتعرَّتِ الأغصان.

وعدتُ إلى بيتنا.

لا يزال برج الحمام في آخِر الفناء أبيض وفيه خرابيش، وأوضة الفرن بابها مهبب أسود وظلام بشع داخلها، والأرض عليها عفش كثير، والبيت واسع جدًّا، وخاوٍ، ليس فيه إلَّا المغرب، والصمت، والهواء الساكن الذي لا يَرِيم.

وفي نفس الحجرة التي كنَّا نجتمع فيها أصبحنا وحدَنا وجلَسْنا، أخوتي يرتدون ملابسهم الكاملة، وتكشيرة الحزن تبدو غريبة على وجوههم الصغيرة الشابة، وأمي متعصبة بمنديل، وفي أنفها وفمها وعينها ألَمٌ واحمرارٌ ودموعٌ.

جلَسْنا صامتين، واجمين، ومصباح الغاز نوره أحمر كئيب، وعلى الجدران ظلال رءوسنا، ظلال واجمة داكنة، كقلوبنا، تَبْهَتُ وتغمق كلَّما كبرتْ ذُبالةُ المصباح وصغُرتْ، جلسنا ساكتين وكأننا ننتظر شيئًا ما، ننتظر أن يدقَّ الباب، ونذهب جميعًا لنفتح لأنَّه قد عاد، ضاحِكًا، دافعًا طربوشه إلى الوراء كما تعوَّد أن يفعل، فاتِحًا ذراعَيْه وصدره ليسعنا جميعًا بكل مشاكلنا ومتاعبنا الصغيرة، أو هو في الحَمَّام لا بد، وحالًا سيخرج، ويتنحنح، ويكح، كحته التي حفظناها وألفناها، كحته التي لا نتصوَّر بيتَنا إلَّا بها، أو هو في الفناء حتمًا، يُحادِث جارَنا، ويصلُنا صوتُه من بعيد، وما أجمل صوتَه حين كان يصلُنا من بعيد، ونعرف أنَّ هذا صوت أبينا! نعرفه من ألف صوت، ونحبه دون آلاف الأصوات، ونفرح به؛ فمعناه أنَّ أبانا قريب، وأنه قادم، وأننا سنكون بعد قليل حولَه، وفي حضنه، وعلى مقربة من عينيه وحديثه وشعر صدره.

ولكن شيئًا مما انتظرناه لم يحدث، لا دق الباب، ولا سمعنا صوتًا، وأفظع ما في الأمر أننا كنا متأكِّدين أن الباب لن يدقَّ وأننا لن نسمع أصواتًا.

والمصباح يكاد نوره يختنق، وغازه يفرغ، وظلالنا تبهت على الجدران وتتداعَى، وإحساس غريب بدأتُ أحسُّ به، وأُدْرِك أنني كنتُ أعانيه ولا أعرفه، إحساس أكاد أتذوَّقه بطرف لساني وأحس بقبضته حول صدري، إحساس بأنني حزين، حزين!

وتطلعتُ في وجوه أخوتي، وجوه مطرقة صامتة ذاهلة، وتطلَّعوا إليَّ.

وفجأة، وكأنما لسَعَنا خاطرٌ واحدٌ، انفَجَرْنا كلُّنا نبكي، فقد أحسسنا لحظتها فقط أنَّ أبانا حقيقةً مات، وأنه انتهى من حياتنا إلى الأبد، ولم يعُدْ لنا أبٌ، ما أبشع هذا! لم يعد لنا أب!

يوسف ادريس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى