أبووردة السعدني - القاضي محمود كعت مؤرخ سنغي الإسلامية ( 5 )

(5)

تنبكت :
******
تنبكت ، أو " تمبكتو " ، عاصمة الحضارة الإسلامية في بلاد السودان الغربي - شمال جمهورية مالي في غرب قارة إفريقيا - ، كعبة العلم التي حج إليها العلماء والطلاب من كل حدب وصوب في عصر دولة " مالي " وعصر دولة " سنغي " ، أنشأ " الطوارق الأمازيغ " - وهم قبائل مسلمون سنيون مالكيون - مدينة " تنبكت " في القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي ، وقت انتشار الإسلام في تلك المناطق ، لذا لم يدن سكانها بغير الإسلام ، فكانت جديرة بقول عبدالرحمن السعدي : " ... ما دنستها عبادة الأوثان ، ولا سجد على أديمها - قط - لغير الرحمن ، مأوى العلماء والعابدين ، و مألف الأولياء والصالحين " ، وحرية بوصف صاحب " تاريخ الفتاش " لها ، بأنها : " بلد الله " ، وأنها : " في غاية الحسن والجمال ، وإقامة الدين ، وإحياء السنة " ، ونعتت ب " المدينة العجيبة " ، و " جوهرة الصحراء " ...
... تميزت مدينة " تنبكت " بنشاط اقتصادي كبير ، فقد اشتهرت بتجارة : التمر ، والذهب ، والحنطة ، وتألقت كمركز مسيطر على طرق التجارة المتبادلة بين مدينة " جني " في الجنوب ، وقبائل " ولاته " في الشمال ، كما غدت قرية " كابارا " - المشهورة بالصيد النهري والمجاورة لها - بمثابة ميناء نهري لها ، لوقوعها بالقرب من طريق نهري يتحكم في مساحة واسعة من بلاد السودان الغربي ، الأمر الذي أكسب " تنبكت " ميزة كبرى على الأسواق المجاورة ، ووجدت بها مصانع ضخمة لصناعة النسيج ، يذكر مؤلف " تاريخ الفتاش " أن عددها يزيد على الثلاثين مصنعا ، في كل مصنع عمال يزيدون على المائة عامل ، لهم " معلم " بطلقون عليه : " الشيخ " ، أو " الرئيس " ، ونظرا لتحكم تنبكت في الأنشطة الاقتصادية والتجارية ، رحل إليها العلماء والتجار ، حيث استقروا فيها - مددا تطول أو تقصر - لممارسة التجارة وطلب العلم ....
... كانت مدينة تنبكت - بحق - مركز الحياة الثقافية ، وقلب الحركة الفكرية النابض ، اجتمع فيها العلماء من كل جنس ولون : المغاربة ، والأندلسيون ، والمصريون ، والحجازيون ، ووفد إليها الناس من كافة بقاع غرب إفريقيا ، من : السنغال ، والنيجر ، وإمارات الحوصا ( الهوسا ) ، وبرنو ، وكانم ، كل هذه الطوائف من البشر كانت تحرص على حج هذه المدينة ، فتقيم - فيها - زمنا ثم ترحل ، أو تقيم إقامة دائمة ، فقل أن تجد كتابا لم يؤلف في تنبكت ، أو فقيها لم يتفقه في تنبكت ...
... وحين نقلب صفحات " تاريخ الفتاش " ، لا نجد صفحة فيه - تقريبا - تخلو من ذكر " تنبكت " ، فكانت عاصمة دينية وعلمية وحضارية في عصر دولة سنغي ، ودأب سلاطين تلك الدولة على زيارتها - بين الحين والآخر - كي يحظوا ببركة رؤية علمائها ، ويظفروا بدعائهم ، ويعملوا على توفير ما يحتاجونه من أموال تدعيما لنشاطهم العلمي ، فنعمت مدينة تنبكت بهدوء واستقرار في عهد " أسكيا محمد " وعهود خلفائه - من بعده - ، مما جعل عصر دولتهم أينع عصور التاريخ والحضارة الإسلامية في بلاد السودان الغربي على الإطلاق ...
... كانت الحياة في تنبكت لها شأن ، حيث كانت سوقا رائجة ، فيها " البضائع " من مصر ، والمغرب ، وأوربا ، وغيرها من البلاد ، كان أغلى ما يباع فيها الكتب ، وفيها أحياء خاصة لإقامة التجار الوافدين من كل أرجاء العالم الاسلامي ، وضمت العديد من المكتبات العامة التي يرتادها طلاب العلم ، إلى جانب المكتبات الخاصة التي اقتناها العلماء والأثرياء ، وكانوا لايبخلون على طلبة العلم بشيء منها ، زاد عدد مدارس تحفيظ القرآن الكريم فيها على مائتي مدرسة غاصة بالأطفال ، الذين يقبلون - في شغف واضح - على حفظ كتاب الله ، يروي القاضي محمود كعت عن مدرسة من تلك المدارس ، تولى شئونها شيخ يدعى " علي تكريا " ، فيقول :
" .... بعد صلاة الظهر ،جعل صبيانه يأتونه بخمس ودعات ( الودع عملة سنغي ) ، وبعضهم بعشر ودعات - على عادتهم - ، حتى تحصل قدامه ألف وسبعمائة وخمس وعشرون ودعا ... وأسرحت نظري إلى ألواح الصبيان ، وعدتها مائة وثلاثة وعشرون لوحا ، وظننت أن تكون جملة القرآن محصلة في تلكم الألواح " ....
.... من أشهر المساجد الجامعة - في مدينة تنبكت - مسجد " سنكري " ، الذي عد جامعة إسلامية راقية ، تمثل إحدى منارات التقدم العلمي والثقافي في بلاد السودان الغربي ، والذي كان التعليم فيه بمثابة التعليم العالي ، لاشتماله على المناهج الدراسية التي كانت تدرس في جامعات العالم الإسلامي الشهيرة - آنذاك - ، والتي أرست - في الوقت ذاته - الدعائم الراسخة للحضارة الاسلامية ....
لقد تخرج في جامعة " سنكري " ما يجل عن الحصر من أفاضل العلماء ، الذين حملوا مشعل النور يبددون به ظلمات الجهالة والوثنية في شتى أرجاء سنغي ، عن طريق اشتغالهم بوظائف التدريس في المدارس المختلفة ، وتوليهم وظائف الإمامة والخطابة في المساجد العامرة بالذاكرين الله ، وقيامهم بإقرار العدل بين الرعايا لاعتلائهم مناصب القضاء في مدن سنغي ، ونظرا لتميز هؤلاء العلماء بغزارة العلم ، وبراعة التصنيف ، ذاع صيتهم ، فتخطت شهرتهم آفاق دولتهم إلى بقاع العالم الإسلامي المعمور في تلك الآونة ، وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال - وليس الحصر - :
القاضي العاقب بن القاضي محمود بن عمر، الذي اتنشر ذكره في بلاد المغرب ، ومصر ، وبلاد الحجاز ، واشتهر بالعلم والفضل ، حتى كان سلاطين المغرب يخاطبونه في مراسلاتهم ويشكون إليه سلطان سنغي ...
ولد القاضي العاقب عام 913/1507 في بيت علم ، فأبوه " محمود بن عمر " - ت955/ 1548 - كان : "عالم بلاد التكرور وصالحها ، ومدرسها وفقيهها ، وإمامها بلا مدافع ، تولى قضاء تنبكت في عهد أسكيا محمد ، فسدد في الأمور ، وانتفع به خلق كثيرون " ، في هذه البيئة الطيبة نشأ القاضي العاقب ، وتخرج في جامعة تنبكت ، وبرع في فقه الإمام مالك - رضي الله عنه - ، تولى وظيفة قاضي قضاة تنبكت ، فاشتهر بعدله وحزمه ، وجرأته في الحق ، كما عرف - أيضا - بكثرة إنفاقه في وجوه الخير ، وبناء المساجد ومدارس العلم ، حتى نعته مؤلف " تاريخ الفتاش " بقوله : " كان أعظم قضاة تنبكت عدلا واجتهادا ... مسددا في أحكامه ، ثبتا فيها ، صلبا في الحق ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، محمود السيرة " ....
... بعد أن رجع - القاضي العاقب - من حجه صمم على تجديد بناء مساجد مدينة تنبكت من ماله الخاص ، تقربا إلى الله تعالى ، فبنى المسجد الكبير ، وهدم مسجد " سنكري " الشهير ، وأعاد بناءه على هيئة المسجد الحرام في مكة المكرمة ، وبنى مسجدا ثالثا في سوق تنبكت " وأنفق في بناء هذه المساجد الثلاثة ما لا يعرف نهايته إلا الله تعالى ، فجزاه الله أحسن ما جزى به من أحسن عملا " ...
... وقد توفي القاضي العاقب سنة 991/1583 ، بعد أن ملأ الدنيا علما ، وعدلا ، وفضلا ...
**********
" يتبع "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى