نزار حسين راشد - أيام من عمري.. صفحات من السيرة ااذاتية

بعد بضعة أيام من العمل،قلت لنفسي لن أصمد في حمّام البخار هذا،وسأغادر بعد أيام،حاولت أن أقلد الإنجليز الذين يخرجون للسباحة في هذا الطقس المثقل بالحرارة والرطوبة،وقلت في نفسي لعلّ السرّ في القبعة،استعرت قبعة من أحدهم،أعارني إياها عن طيب خاطر لمّا شرحت له الظروف،ولكني ما كدت أخطو إلى الخارج حتى شعرت أن السماء سقطت على رأسي،فاستدرت موليّاً على عقبي،وما إن ّتخطّيت العتبة حتى ألقيت نفسي على بلاط الغرفة،وأنا أعُبُّ الهواء المكيف عبّاً،تحت هذا السقف المحفوظ،ولعلها من رحمة الله أن جعل لكل شيء سقفا!
أن تعمل في نفط الكويت،يعني أن تتقاضى راتباً عالياً،مما يثبط بالفعل رغبتك في الهروب،ويغريك بالصبر والإحتمال.
تذكرت حكمة والدي وهي بعض من حكمه التي كان يعظني بها أيام الطفولة،وهي خلاصة عمله مع الإنجليز،نعم الإنجليز مرّة أخرى،ويبدو أنه لا فكاك لنا منهم،قال لي إن الحياة بالنظام تصبح قابلة للاحتمال مهما كانت قسوة الظروف،قال: كنا نعمل مع الإنجليز في المعسكرات في أشد الظروف شظفاً وفي وسط الصحراء،ولكن كان لكل شيء وقته،وأقصد وقته المناسب،العمل ،الطعام،القيلولة،النوم،الخروج ،وحتى النشاطات الترفيهية أيام العطل،فمثلاً لا يمكنك أن تذهب إلى ملعب التنس في أي وقت أو إلى بركة السباحة أو صالة الجمنازيوم..
وهكذا اتّبعت حكمته شبراً بشبر وذراعاً بذراع،وحددت للخروج أوقات المساء فقط،أي بعد الغروب،وبالفعل كان الطقس محتملاً أو مقبولاً على الأقل،حين تكون الشمس قد توارت وراء الأفق،هذا إذا كان هناك أفق ،في هذه الصحراء المفتوحة.
ومن الحِِكَم الأخرى التي كان يتلوها علي والدي وهو يحكي حكايته في معسكرات الإنجليز،قال: لا تترك حجرتك أو بيتك أو مطبخك فراغاً،املأه بالأشياء،الأثاث يؤنس،هذه الأشياء لها روح،وحدهم الأغبياء والبلداء لا يدركون ذلك،وهذه كانت خصيصة من خصائص والدي في تعامله مع الناس،أنهم جميعاً أغبياء وبلداء،ما لم يثبت العكس،أو يثبتوا هم له العكس،ولا مانع لديه أن يضعهم موضع الإختبار،حتى يتيقن من ذلك.
وبالفعل بدَأَت حياتي تتخذ مساراً رتيباً مريحاً،بعد أن أخذتُ بنصائح والدي الثمينة.
كانت متربعة على عرشها كملكة في محل الأثاث الواسع،خلف المكتب الفاره،بسطحه الجلدي الأسود المشعشع وكأنه لُمّع للتو،ظننتها موظفة،مديرة ربما،ولم يخطر لي أنها صاحبة المحل،وحتى حين تكلّمت ظننتها موظفةعراقية،أشارت لي بلطف بالجلوس دون أن تتنازل عيناها عن تلك النظرة المتعالية:
- حسناً! ماذا تريد أن تشتري؟
- والله حسب أسعاركم يعني!
- لا تخف! سنراعيك-
- أنتم أيضا تقولون بنراعيك..تحيا الأخوة العربية.
- على هونك..نحن لا نقول بنراعيك..لكن معظم زبائننا وافدين شوام ونحن نخاطبهم بلهجتهم-
- يا عيني عالشطارة..وهل ينجح التكتيك التسويقي.
- بالطبع! وإلا لكنا أغلقنا المحل من زمان.
- لا سمح الله...الله يديم عليمم الرزق.
- مشكور على الدعوة الحلوة..والآن ندخل في الجد..ماذا تريد أن تشتري؟
كدت ألمح لها أن بودي لو أشتريها هي،ولكن ذلك سيكون عملاً أهوج ..وبدلاً من ذلك قلت:
- تقريباً كل إشي.
- حضرتك متزوج جديد او كدة!
- لا يا ريت، سكن أعازب بعيد عنك..حتى نافيينا بعيد ،حتى لا نشم ريح العوائل!
لم تتمالك نفسها من الضحك،واسترسلت في ضحكة طويلة:
- آه مظاليم الله..بس هيك أحوط الأعازب ما بنفلتلهم الحبل!
- ليش ان شاء الله..من المغضوب عليهم أو من الضالين ؟
وهذه المرة ضحكت حتى الدموع،ولتتدارك ذلك أمسكت ورقة وقلماً وقالت: سم،ماذا تريد أن تشتري.
وقاطعتها: هل لديكم خدمة توصيل؟
- بالطبع نحن شركة محترمة!
- والله باين من العنوان ومن صاحبة الأمر والشان!
علقت ابتسامة على شفتيها،وأخرجْتُ ورقة جاهزة من جيبي وسلمتها إياها،وضعتها أمامها وبدأت تقرأها على مهل وبجدية كاملة!
- كل شيء موجود حسب الطلب ،باستثناء الثلاجة أقل شي عندنا عشرين قدم.
- عشرين..عشرين..بلكي نتخبا فيها إذا تعطل الكوندشن ولا حاجة!
تتسع ابتسامتها كاتمة ضحكة على وشك الإفلات،وتسأل بوقار:
- العنوان من فضلك. والوقت الذي تكون فيه موجوداً في البيت،وعلى أية حال،بنكلمك قبل أن نحرك العمال،من باب الاحتياط!
كل ما دار في ذهني وأنا أغادر أنه ستكون لي حكاية قادمة مع هذه المخلوقة الظريفة.
ولن يتوقف الأمر عند شراء الأثاث.
وكأنّ الغربة خطيئة اقترفتها بيدي وما من شفيع،وحتى لقاءات المجاملة يفترض أن لا تسفر عن شيء، من مثل حكاية حب أو إعجاب،تنتظر استكمال خطوات المباركة والرضا،ولكن يبدو أن المغترب لا يحظى هنا إلا بالتنكر والجحود وحتى الإدانة!
كيف؟ كيف يعني تتزوج واحدة من بنات الديرة،حفلة النقر والنتف هذه التي تطوع للقيام بها الزملاء الموظفون،الغرض منها ثني عزيمتي،وكأني أسرق منهم شيئاً أثيراً، أو أختطف ابنة من بناتهم،رغم أن الفتاة لا تمت لهم بصلة،باستثناء أنها من بنات الديرة،تلك الصلة المقدسّة التي لا يتورعون عن انتهاكها بأنفسهم،حين يديرون ظهورهم بصلف لبنات الديرة ويتزوجون من أجنبيات.
ولكن يبدو أنه تقرر مصير حياتي،لقد كتب القدر العنوان،وما سيتبع مجرد تفاصيل،ارتسمت الحروف ولم يبق إلا التنقيط،المصير دائماً مصير فردي،لا علاقة للآخرين به،سواء المشجعين أوالمعارضين،لم يثن عزمي على التقدم لخطبتها كونها مطلقة،في الحقيقة لم يعنِ لي ذلك شيئاً كثيراً،وقلبت ُ شفتيّ ازدراءٍ على ما يفترض أن يصغّرها في عيني،أو يقلل من قيمتها،كخطوة افتتاحية ذهبت إليها وقلت:
- أعتقد والله أعلم أن اللقاء الأول فعل فعله،حتى وإن تم ذلك في جو رسمي فيه الكثير من التحفظ،استلطاف لا أدري إن كان متبادلاً؟!
- وهل تعرف عن ظروفي شيئاً،حتى تقدم على هذه الخطوة بمثل هذه السرعة؟!
- عملت تحرياتي،أعرف أنك مطلّقة،وفي الحقيقة لا يهمني ذلك في شيء،المهم أني شعرت نحوك بشيء،لم أشعر به منذ زمن طويل،حتى ظننت أنني لن أشعر به مرّةً أخرى؟
- يعني أنك مررت بالتجربة من قبل،هل أفهم من ذلك أنك مطلّق أنت أيضاً؟
- لا! لست مطلقاً،لقد كانت مجرّد قصة حُبّ فاشلة،من قصص أيام زمان،تعرفين العقول الجامدة وتحفظات الأهل،وما إلى ذلك!
- في الحقيقة لا أريد أن أكون ممثلة وأطلب منك مهلة للتفكير،وهذا لا يعني إشارة خضراء،ولكن زرنا في البيت،وقابل والدي،بالمناسبة أنا يتيمة أم،وخروف العائلة الأسود،ولكن والدي هو طراز قديم أيضاً،ويريد لابنته أقصى درجات الأمان،وكونك غربب وليس من أبناء البلد أو هل الديرة كما يقولون عندنا هنا،فربما يكون هناك بعض الصعوبات،ولكنه مثقف ومتفتح على أية حال،وفي كل الأحوال جرّب حظّك معه! شفعت ذلك بابتسامة وضربنا موعداً.
جلسنا في الصالون الوثير،وكان الشايب الأصلع يتأملني بنظرات مليئة بالشك والريبة،وبالرغم من أنه مثقف كما قالت وله باع حتى في كتابة المقالات في بعض الصحف،إلا أنه بدا لي من حرّاس الهيكل،بحّار قديم،أو صيّاد لؤلؤ،عمل على تطوير نفسه،وبذل جهداً في الحصول على شهادة علمية.
كان كرم الضيافة والترحيب المبالغ فيه،مناورة لستر ما يحيك في نفسه من شكوك:
- لماذا لم تتزوج من بلدك مثلاً،ألقى سؤاله مغلفاً بالفكاهة والتبسط،وكأنه يمازحني!
- حكم النصيب!
- وهكذا فأنت من المؤمنين بالنصيب،ولكن لا تؤاخذني يعني،مجتمعنا ينظر لمن يزوج ابنته من أجنبي،ولا تؤاخذني مرّة أخرى،بنوع من الدونية،لا بل أكثر من ذلك يرى فيه نوعاً من العار أو النقيصة!
ورأيت أن أرد عليه بنوع من القُحّة بدوري وأضع الكرة في مرماه:
- ولكن يبدو أن هذا العار مقتصر على الأنثى فقط،فرجالكم يتزوجون من أجنبيات، لا بل لا تؤاخذني يفضلونهن على بنات البلد!
ويبدو أن إجابتي لم تهزه ليردّ علي بهدوء:
: نعم نحن نبالغ في حماية بناتنا،ونحرص على أن يكن براحة وأمان وخاصة في مسألة الزواج هذه.
مرة أخرى رأيت أن أتبع تكتيك الهجوم:
- ولكن يبدو أن ذلك لم ينجح في حالة فوز،لا بل إنها تحملت كثيراً من الألم والمعاناة!
ويرد الرجل دون أن يؤثر كلامي في قناعاته الراسخة:
- مما يدفعني أن أكون أكثر حرصاً هذه المرة!
- على أية حال يا عم،أنا شاري في كل الأحوال،والقرار في النهاية لكم.أنهضُ مصافحاً ويشيعني الرجل إلى الباب بخطى متثاقلة بحكم السن والمفاجأة ربما والتي وضعته أمام الخيار الصعب فيما يخص مستقبل ابنته.
ألقي نحو فوز نظرة الوداع وتلتقي العيون في نظرة تفاهم أو تواطيء، توحي بأن الأمور ستسير على ما يرام،وأن الأمر كله ربما لا يتعدى طقوس إغلاء وإعزاز من رجل عجوز لابنته في عيني رجل غريب.

"عاطفة مشبوبة على رصيف العروبة"قصة قصيرة ثقافة
هنا في هذا البلد النفطي فشلت أو قل لم أمنح الفرصة لإقامة علاقة صداقة واحدة،مع أي من أبناء البلد الذين أقضي ثلثي نهاري وبالتالي ثلثي عمري معهم بين جدران المكاتب.حائط الصد كان عالياً وعصياً على النقب أو التسلق.
وللمفارقة وقعت في الحب،مع مواطنة من خارج الوسط الوظيفي،طاوعها قلبها وتحدت الجميع بما فيهم عائلتهاوأعلنت لهم بالصوت الملآن،إذا لم توافقوا على زواجي به سأهرب معه وأفضحكم،أفلح التهديد،فليس أسوأ من الفضيحة في هذا المجتمع المحافظ الوارث للتقاليد البدوية،والتي يحافظ عليها شكلياً على الأقل بعد أن عصفت بها الفورة النفطية والذهب السائل بين الأصابع المتعطشة أن تشتري به كل شهوات الأرض المتاحة والمخبوءة بحرامها وحلالها،ولذا فهي تكتفي بإلقاء الستر على الفضائح التي تجترح في السر والعلن.
ومهما كان فالزواج لن يصل إلى حدود الفضيحة بل سيكون محلاً ربما للعتاب واللوم أو التوبيخ في أسوأ الحالات.
استقلينا قارب الحب،ولم نترك الدفّة لقبطان الرياح،حرصنا على توجيهها بأنفسنا،حتى لا نقع في المطبات التي ينصبها المجتمع الذي يحرس أعرافه في تجاهل تام للمشاعر والعواطف،حتى عاطفة الحب مستنكرة ومدانة إذا نبتت خارج أصصه،وعلى أية حال فقد كنا غافلين تماماً عما يثار حولنا من شغب،طافين وسط تلك البحيرة الهادئة التي بسطها حولنا الحب،بعيداً عن أصوات الصخب.
كل يوم أوصلها إلى عملها فرحين مبتهجين بكل ما حولنا،الناس المنتظرين وصول الحافلة،الأطفال الهارعين إلى المدارس،الباعة الذين يفتحون أبواب دكاكينهم محوقلين داعين بالرزق،وكأن الأشياء استردت روحها فجأة،حتى الحر لم نعد نشعر به كثيراً،فكل ما حولنا هو نعمة من نعم الله.
أمضينا الحياة على مهل،وعشنا فرحة ولادة الطفل الأول،ثم الثاني ثم الثالث،وكلهم ذكور،كبروا على رسلهم ثم تلقفتهم أحضان الخالات والقرابات،اللواتي كُنّ يُكبرن في فوز ما يبغضه المجتمع حولهن،الإستقلالية والعناد،وكأنها بالنسبة لهُنّ مثال ونموذج يحتذى، تجترح بطولةً عجزن هُنّ عن إحرازها، واخترن مضطرات التقولب بقالب المجتمع ،فهي بالتالي تعويض نفسي عمّا عانينه في حياتهن من إحباط.
ربما كان إحساساً كاذباً،من نوع الشك الذي يثيره انشغال الزوجة بالأولاد،الأمر الذي يثير قلق الزوج،المشفق من أن تكون الزوجة قد فقدت حُبّها له أو على الأقل خفت هذا الحب وخبا أواره ولم يعد يشتعل في صدرها.
ويساهم في تعزيز هذا الشعور،توثق علاقة فوز بأخواتها وقراباتها،وحرصها على تنمية هذه العلاقة،لأجل الأولاد كما قالت،ولكي لا يشعروا بأنهم غرباء عن مجتمعهم وهلهم وديرتهم،كون أبيهم ليس من هل الديرة،قالت ذلك وضحكت باستخفاف على الفكرة،ولكن ذلك لم يخفف من هواجسي شيئاً،لا بل عمّق قناعتي بأن فوز تعود إلى الحظيرة الإجتماعية،وتجدّف بعيداً عني،رغم أنها أعلنت أكثر من مرّة حين صارحتها بهواجسي: أنا أتوقّف عن حبّك يا مجنون؟
كيف يمكن أن يخطر ذلك لك على بال؟ وينتهي المشهد بقرص خدي في دلع،ومع ذلك فالأمور تواصل مسارها،التيار الذي ينسرب مبتعداً عن حياتي واهتماماتي.
وكان الإختبار الأول حين قررت زيارة الأهل في الوطن واصطحابها معي هي والأولاد،حتى يتعرفوا على أجدادهم،ولكنها تهربت بكل لطف ورقة وتحسباً من جرح مشاعري،قالت:
- هذه المرة إذهب لوحدك،لقد سجلت الأولاد في النادي الصيفي،وهم مشغوفون بالبرنامج،ولا أريد أن أفسد عليهم متعتهم،ربما سنرتب لذلك مرّة أخرى.
كان تعليقي مختصراً وموصلاً للرسالة،لم أزد على أن قلت:
- عودة الإبن الضال!
سهمت فوز واستغرقت في صمتها معتصمة بسكوت لا نهائي،ولعلها أدركت أنني كنت على حق على نحو ما،لم تحاول طمأنتي حتى،من طبع فوز،لا بل من فضائلها أنها لا تحب المغالطة،لم تغالط حين وقعت في حبي وقبلت الزواج بي ،والآن لا تغالط وتقرّ ولو بينها وبين نفسها على الأقل، بأن شيئاً ما قد تغير وأن طارئاً ما قد طرأ على حياتنا، لا حيلة لنا في دفعه أو مقاومته وأن الإنكار لا يجدي في هذه الحالة،وسيكون مجرّد نوعٍ من المكابرة،ربما ستزيد الأمر سوءاً لا أكثر!
نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى