أبووردة السعدني - القاضي محمود كعت مؤرخ سنغي الإسلامية ( 6 ) احتلال المغرب الأقصى لدولة سنغي

( 6 )
احتلال المغرب الأقصى لدولة سنغي


... في الشمال من دولة سنغي الإسلامية وقعت سلطنة المغرب الأقصى ، التي كان يحكمها الأشراف السعديون ، الذين خاضوا صراعا ضاريا ضد البرتغاليين في القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي ، لإجلائهم عن سواحل المغرب ، ثم انشغلوا في الصراع على السلطة فيما بينهم ، حتى جلس على العرش " أبو العباس أحمد المنصور الذهبي " سنة 986 /1578 ، والذي تطلعت آماله وطموحاته إلى احتلال دولة سنغي ، طمعا في الاستيلاء على ثرواتها الضخمة وتجارتها الرائجة ، بعد أن تدهورت اقتصاديات المغرب ، شجعه على ذلك : وقوع النزاع والخلاف - في سنغي - بين بعض أفراد البيت الحاكم ، فشرع في مطالبة سلطان سنغي بالتنازل عن مناطق " استخراج الملح " القريبة من الحدود المغربية ، لمواجهة الزحف البرتغالي الصليبي على بلاده ...
... أعد المنصور الذهبي جيشا ضخما مزودا بأحدث أسلحة عصره - من مدافع وبنادق - سنة 999/1591 ، وأمر علي هذا الجيش " جودر باشا " - الإسباني الأصل - ، وأصدر أوامره بالزحف على دولة سنغي للاستيلاء عليها ....
... و حين وصلت أخبار زجف الجيش المغربي إلى " أسكيا إسحق الثاني " -996/1588-999/1591 - أعد جيشا كثيف العدد ، وضع في مقدمته " ألف بقرة " ليتم دفعها في وجه جيش المغرب - عند لقائه - حتى تثير الاضطراب والفوضى بين صفوقه ...
... وبعد رحلة شاقة وصل الجيش المغربي إلى " سنكي " ليواجه جيش سنغي - في جمادى الأولى سنة 999/1591 - ، حيث دارت رحى معركة حامية الوطيس بين الجيشين المسلمين ، لكنها معركة غير متكافئة ، إذ بينما سلاح جيش سنغي الحراب ، والنشاب ، والحرشان ( السهام ) ، إذا بمدافع وبنادق جيش المغرب تحصدهم حصدا ، الأمر الذي هيج أبقار جيش سنغي على أفراده ، وزاد في خسائره ، وسمي هذا اليوم " يوم سنكي " ، وهرب " إسحق الثاني " - بمن نجا معه من الفرسان - من ساحة الوغى والنزال ، وعبر نهر النيجر ، ثم أمر سكان عاصمته بعبور النهر بما يستطيعون حمله من الأمتعة ، فهاموا على وجوههم - في ذعر وفوضى شديدين - ، مما تسبب في إغراق أعداد لا تحصى بأمتعتهم : " ...وترى امرأة ، وبيدها طست مليء بالذهب وغيره ، تنادي صاحب سفينة ، باكية ، احملني ولك هذا ، فلا تجد من يلتفت إليها !!" - وفق وصف تاريخ الفتاش ....
... وبذلك انفتح الطريق أمام الجيش المغربي إلى العاصمة " كاغ " ، فاستولى عليها دون مقاومة تذكر " وعملوا فيها السبيل خمسة عشر يوما " - أي : استباحوها وقتلوا كل من فيها - ، وجردوها من كل ما تحويه من كنوز الذهب ، ولم يرحل المغاربة - عنها - إلا بعد أن صارت أثرا بعد عين !!....
... كانت وجهة الجيش المغربي - بعد كاغ - إلى عاصمة الحضارة الإسلامية في بلاد السودان الغربي ، مدينة تنبكت ، فاستولى عليها بقيادة " محمود باشا بن زرفون " -الذي أرسله سلطان المغرب قائدا عاما على حملة سنغي - ، وما أن دخل ابن زرفون " تنبكت " حتى أمر بعمل السبيل فيها " سبعة أيام متواصلة " !!....
.... فلما علم " إسحق الثاني " بما حل بعاصمته وبمدينة تنبكت ، خرج بجيش خائر العزيمة ، والتقى بابن زرفون ، ودارت بين الجيشين معركة قصيرة ، انتهت بهزيمة إسحق وفراره من الميدان مرة ثانية ، وقد نجم عن الهزيمة الثانية أن حدث نزاع بين " إسحق الثاني " وأخيه " محمد كاغ " ، تمخض عنه عزل الأول من الحكم وتولية الثاني ، فهرب إسحق - بأهله - إلى سلطنة " كرم " الوثنية في الجنوب ، والتي سبق له أن غزاها وقتل الكثير من أهلها ، فاستقبله سلطانها بالترحاب ، واستضافه في قصر فخم ، فلما انتصف الليل ، باغته برجاله ، وقتلوه ومن معه ، وهدموا القصر عليهم !!...
.... وفي الجانب الآخر ، توجه الباشا محمود بن زرفون بجيشه لمنازلة السلطان الجديد ، وحين علم الأخير بذلك أرسل وفدا إلى القائد المغربي يطلب منه عقد صلح يوقف الحرب بين الطرفين ، فوافق " ابن زرفون " ، وكتب إليه أن يحضر بنفسه لعقد الصلح ، فاصطحب " أسكيا سنغي " ثلاثة وستين من كبار رجال دولته وخاصة قادته ، وذهب إلى معسكر ابن زرفون ، الذي تظاهر بإكرام وفادتهم ، فأعد لهم - وفق رواية تاريخ الفتاش - " الموائد ، واللحوم ، والمشويات ، وأكلوا ، ومنهم ( أي من أتباع ابن زرفون ) من يناولهم الماء بعد الفراغ من الأكل ، ومنهم من يناولهم الماء لغسل الأيدي ، والمناديل يمسحون أيديهم فيها " ، ثم غدر بهم - ليلا - وكبلهم بالأغلال ، وساقهم أسرى ، وبعد شهر من أسرهم ، أمر بقتلهم جميعا !!...
.... وبعد مقتل " أسكيا محمد كاغ " ، قاد أخوه " نوح " المقاومة ضد الجيش المغربي ، استمرت طوال عامين دون طائل ، كما توالت النجدات العسكرية المغربية حتى بلغت ست حملات ، وبعد ذلك ، رجع محمود باشا بن زرفون إلى " تنبكت " ، واستقر بها ابتداء من سنة 1002/1593 .....
نتائج الغزو المغربي لسلطنة سنغي :
***************************
كانت هزائم جيش سنغي أمام مدافع وبنادق الجبش المغربي مؤذنة بتفكك عرى الروابط بين سلطنة سنغي ، والقبائل التي تخضع للحكومة المركزية في العاصمة " كاغ " ، إذ انتهزت قبائل الطوارق ، والفولانيين ، والحوصا ( الهوسا ) ، وغيرها ، الفرصة ، فأغاروا على المزارعين - في المناطق الزراعية - ونهبوا ممتلكاتهم ، فحل الخوف والبؤس والفقر محل الأمن والرخاء !!...
... لم يقف الأمر عند هذا الحد ، فمن يقرأ " تاريخ الفتاش " يجد الباشا محمد بن زرفون يدبر خطة محكمة لنهب مدينة " تنبكت " ، لأن ما قدمه أهلوها من ذهب لم يشبع نهمه ، فأعلن جنوده أنهم سيقومون بتفتيش دورهم بحثا عن السلاح عدا دار القاضي " عمر " ، فهرع أهل تنبكت إلى بيت القاضي يودعون فيه ما يملكون من مال ومتاع ، وقام المغاربة بتفتيش دور الأهالي ، ونهبوا ما وجدوه فيها ، ثم جمعوهم في مسجد " سنكري " ، وطلبوا منهم أن يقسموا يمين الولاء والطاعة للمنصور الذهبي سلطان المغرب ، ثم أطلقوا سراحهم ما عدا الفقهاء وأقاربهم وأتباعهم ، والمتصلين بالقاضي " عمر " ، اذ أمروا بحبسهم ، ونهب أموالهم ، واستحلوا نساءهم ، وذبحوا - منهم - أربعة عشر رجلا ، وجمع ابن زرفون " تلالا " من الذهب ، أرسل - منها - نحو مائة مثقال إلى سلطان المغرب ، واستبقى الباقي لنفسه ، ثم كبل العلماء في الأغلال ، وساقهم أسرى إلى مراكش !!...
... يصور واحد من حفدة القاضي محمود كعت ، ما أصاب " بلد الله " تنبكت - حينئذ - تصويرا يثير الأسى والحزن ، فيقول :
..." ... ولما أجلاهم القوم وارتحلوا ( أي ساقوا العلماء أسرى إلى مراكش ) ، صارت تنبكت جسما بلا روح ، انعكست أمورها ، وتغيرت أحوالها ، وتبدلت عوائدها ، ورجع أسفلها أعلاها ، وأعلاها أسفلها ، وساد أراذلها على عظمائها ، وباعوا الدين بالدنيا ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وعطلت الأحكام الشرعية ، وأميتت السنن ، وأحييت البدع ، ولا بقي فيها من يتمسك بالسنة ، ولا من يسير على منهج التقوى " ....
.... وهكذا نجح المنصور الذهبي ، سلطان المغرب ، في القضاء على دولة من أكبر الدول الاسلامية ، وأغناها ، وأكثرها تحضرا في القرن العاشر الهجري /السادس عشر الميلادي ، فتمزقت وحدتها ، وتفرقت قبائلها ، وكسدت تجارتها ، وتدهور اقتصادها ، فعم الفقر والجوع شعوبها وقبائلها ، وخبت جذوة العلم والثقافة فيها ، فأغلقت معاهد العلم ومدارسه ، وشاع الجهل ، وظهرت البدع والخرافات ، وتفشت العادات الوثنية القديمة في أوساط المسلمين !!...
... و قد وجدت القبائل الوثنية - المجاورة - الفرصة مواتية ، فواصلت حملاتها وغاراتها على بلاد المسلمين ، في الوقت الذي بدأ فيه الاستعمار البرتغالي الصليبي يطرق - بشراسة - أبواب سنغي من الجنوب ، بعد أن نجح في احتلال " ساحل بنين " ، ومصب نهر النيجر ، وبدأ صراع بين الاسلام والصليبيين ، استمر إلى يومنا هذا !!....
.... ولم يستفد المغرب - من ذلك - شيئا ، سوى تضحيات باهظة من أرواح بنيه ، ثم انقطعت صلته بالباشوات الذين أرسلهم ، إذ استقلوا بسنغي عن المغرب ، الذي شغل بنفسه ، على أثر الحملات البرتغالية التي احتلت أجزاء من أراضيه ، وصراع الطامعين في عرشه من جانب أخر ...!!!

*********************
... رضي الله عن القاضي محمود كعت ، ورضي عن حفدته ، جزاء ما حفظوا للمسلمين من تراث .....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى