د. مصطفى رجب - قصتي مع المشروب الأمريكاني : (3 )

في اليوم التالي .. جاء الصراف وقبضت راتبي الذي قفز من 22 جنيها إلى 24 جنيها ، ورجعت لبائع الصحف عند المحطة فأعطيته دينه ، وسددت لعم أبو العلا ثمن سندوتشات أمس ، وصهللت الدنيا معي صهللة شديدة . لدرجة أنني فكرت في المجازفة بالذهاب لذلك المطعم الشهير غربي البلد الذي أسمع أساتذتنا في الكلية ، يكلفون الطلاب المقبلين على مناقشة رسائلهم أن يحجزوا الغداء فيه .. كنت وأصدقائي الشعراء / الفقراء ، حين نمر من أمام ذلك المطعم تقشعر أبداننا لمجرد تخيل ما يمكن أن يكون نظام الطعام فيه ..فهل فيه – مثلا - فطير بدلا من الأرغفة المعتادة ؟ هل فيه حَمَام إلى جانب اللحوم الحمراء ؟ هل فيه أوز وبط وأرانب ؟ كل ذلك كنا نتخيله ونسرف في تخيله دون أن نجازف بمجرد محاولة التفكير في تخيل إمكانية الإقدام على دخوله .
كنا ونحن طلاب نسمع عن ذلك المطعم بالحماسة التي يسمع بها الفلاحون سيرة بني هلال . ونحلم ، وندعو ، بأن نكون يوما من مرتاديه . فلما عينت معيدا ذهبت مع لجان مناقشة الرسائل كغيري من الباحثين الصغار ، ووجدناه مطعما عاديا جدا ، غير أن ما يقدمه من لحوم حمراء أكبر بكثير جدا مما تقدمه المطاعم الأخرى الصغيرة وغير المشهورة
[ لم نكن وقتها نتخيل أن ما يقدمه : لحوم حمير ولحوم كلاب ولحوم فيران ]
غير أنني وصديقا آخر كنا نتمشى قبل الفجر بنحو ساعة على حدود الحي الذي تقع به إدارة الجامعة ، لزيارة زميل عزيز [ كانت متعتنا آنذاك زيارة الأصدقاء في وقت نومهم للاستمتاع بإزعاجهم حتى تعودوا على ذلك فأقلعنا عنه ! ] فرأينا ( سِماويا) يطارد الكلاب فيضربها بالرصاص فيصرخ الكلب ويسقط ويظل يعوي إلى أن تخرج روحه أو تدركه تلك السيارة المكشوفة ( نصف النقل) التي كانت تسير ببطء خلف السماوي ، فينزل منها شباب يسحبون الكلب الطعين إلى سيارتهم فيقطعون رأسه ليوقفوا صراخه ..كنا ننظر في السيارة فنرى عشرات جثث الكلاب التي جمعوها خلف ذلك السماوي ..
قال لي وقتها زميل ، وهو خبير بتاريخ بلده ، أو لعله سمع ذلك من كبار قومه : إن المحافظة كانت تستقبل ضيوفا بالآلاف يوميا ممن كانوا يحضرون للتجنيد من محافظات الصعيد كلها ( بني سويف – المنيا – أسيوط – سوهاج – قنا – أسوان – البحر الأحمر – الوادي الجديد ) وكان الشاب إذا ( انفرز ) وحصل على شهادته أراد أن يستمتع برحلته لأسيوط ، وهو – ما بين الثامنة عشرة إلى الثانية والعشرين – وفي جيبه فلوس !! فيغشى أحد المطاعم ليتغدى أو يتعشى ، فلم يكن أمام أصحاب المطاعم إلا أن يفكروا في مضاعفة مكاسبهم بتلك اللحوم الرخيصة ، أو المجانية .
جاءني حسين الجرجاوي ذات مرة – ونحن طلاب - وعزمني أن أذهب معه لتناول الغداء في مطعم جامعة الأزهر بجوار النفق الكبير ، كان حسين يسكن خارج المدينة الجامعية لكونه ممن يرسبون ، أما أنا فكنت أسكن بالمدينة الجامعية وكانت بها ثلاث وجبات كافية ووافية حقيقة ، ولا حاجة لي بالطعام خارجها ، لكن وجبتها لغير سكانها بخمسة قروش ، ووجبة الأزهر بثلاثة قروش .
فلما دخلنا مطعم جامعة الأزهر ، لم يقف حسين في الطابور الواقف من الطلاب ، بل سحبني وجاء للرجل الذي يتسلم ( البون ) من خلفه من جهة اليسار ،أخذ الرجل البونين من حسين وسلمنا وجبتين ، ولما استفسرت من حسين عن سر هذه الوقفة ضحك ، وأشار إلى شعره الأكرت الكثيف وقال : إن الرجل الذي يتسلم البونات أعور ، فلو جئناه من الأمام ونظر في شعورنا الطويلة لقال : أنتم من جامعة أسيوط ولستم من الأزهر ولو أمسك بالكارنيهات سيعمل لنا فضيحة .. كان تسعون بالمائة ممن يجلسون حولنا على موائد الغداء يرتدون الطواقي أو العمائم بالفعل وكان مكشوفو الرؤوس قلائل وشعورهم محلوقة .. لاحظت يوما أن المكفوفين حين يتسلمون الوجبة يضعون أيديهم على اللحم أو الفراخ حتى لا يخطفها منهم المبصرون .. ولما انتهينا من الأكل ذهبت لأغسل يدي كما نفعل عندنا في المدينة الجامعية فلم أجد صابونا .. قال لي حسين : إنهم هنا يأتون بصابونة ( غسيل ) ويقطعونها أخماسا وأسداسا ، ويضعونها على الأحواض ، والطلاب الذين يأتون للطعام في أول الوقت يغسلون بها أيديهم ثم يسرقونها وهم خارجون ، فلا تجد بعد نصف ساعة صابونا على الأحواض ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى