جمال الدين علي الحاج - من حكايات سوق سلبونا.. قصة قصيرة

وبهتز ردف الساحة أمام المحلات؛ على وقع ضربات الدرويش على الطبل.
تجلس حواء في الموقع الذي اختارته أسفل شجرة النيم؛ أمام مطعم الأسماك. تقدم المرأة المكافحة الشاي والقهوة و ( الانقارة) شاي الكركديه لزبائنها الذين يتوافدون إلى محلها منذ الصباح الباكر وحتى المغيب. ثمة همس يدور في السوق أن سبب تلك الزحمة على محلها أن لها زبائن( VIP) خاصين؛ وهؤلاء يتطلبون خدمات خاصة. كأس طويل تحت الطاولة تقدمه لهم في سرية تامة؛ يدلقه الزبون في جوفه ثم يمضي منتشيا إلى مكان عمله. هؤلاء هم اللذين يقدرون الخدمات الجليلة و التضحيات الكبيرة التي تقدمها من أجلهم لذلك يدفعون لها بسخاء. هذا لا يعني أنها تقصر في خدمة بقية الزبائن. لا. حواء تعرف معظم الزبائن وتعامل الجميع بالاحترام والتقدير المستحقين؛ يجلس عندها الصحفيون الموالين و المعارضين للنظام ؛ رجال الشرطة واللصوص؛ (لجنة) الجيش قدامى المحاربين الذين فقدوا أطرافهم في الحرب. المعاشيون من القضاة وأساتذة الجامعات؛ سماسرة بضائع ميتة؛ الجزارين الذين يتاجرون في المتردية والنطحية و الميتة. النشالون و القوادون و أفراد الأمن (المواسير) كما يطلق عليهم في السوق.
في العادة يرتفع صدر السوق في الثامنة صباحا؛ عندما تنبعث رائحة السمك المقلي من المطعم. لكن ذلك الصباح المشمس؛ شهقت الساحة وكادت أن تختنق وتموت بسبب الجريمة البشعة؛ التي كادت أن ترتكبها سيدة متهورة في السوق.
الصبي فريني يخرج من المطعم؛ يحمل في يده طبق مغطى بورق صحيفة؛ لا شك أنه يحمل وجبة الفطور لأمه حواء. فريني صبي ذكي في السابعة عشر من عمره؛ يحب القراءة؛ ترك المدرسة و تفرغ للعمل نادل في مطعم الأسماك. يقول أنه في أحد الصباحات الدراسية وجد عبارة ( الحياة مدرسة) مكتوبة بخط جميل على ظهر حافلة مدرسية؛ وكأنها نبوءة أو رسالة سماوية من الأسلاف تنزلت عليه ذلك الصباح؛ فعاد أدراجه ولم يعد مطلقا إلى ذلك المبنى المتهالك مرة أخرى.
رائحة السمك تثير شهية حواء للكلام؛ تبدأ بالثرثرة؛ تتحدث عن كل شيء؛ وعن لا شيء. تفتح الطبق تتناول قطعة من السمك تلفها في قطعة الخبز وهي تمضغ تقول لابنها. لا تدع معلمك يغضب منك. ترفع سبابتها في وجهه. لا أحد يأكل وجبتي سمك في هذا البلد. ولا وزير المالية حتى... تثرثر حواء في أمور كثيرة وهي تتناول أفطارها مع ابنها؛ وهو منكس رأسه يستمع إليها. تسكت مسافة؛ ثم فجأة تقول. أياك أن تخبر أحد في السوق بما تحدثنا عنه الآن بالخصوص أم وردة. تمسح يدها بطرف ثوبها؛ تشيح بكفها المفتوحة نحو الجهة المقابلة. الولية عينها حارة كفانا الشر. يلم الصبي بقايا الطعام في الطبق ويذهب إلى مكان عمله.
أخبرني فريني أنه على علاقة بوردة. وردة فتاة أبنوسة من ذلك النوع الذي يجبرك على الابتسام وهي تصغره بعام واحد. لكن عقلها يوزن بلد. كما يقول فريني. بالأمس طلب مني التوسط بينه وبين أمه حتى تبارك تلك العلاقة. خدمة العمر يا أستاذ. قال الصبي المغرم. ورأيت عمرا من الأمل في نظراته. الاستاذ لقب أطلقه علي الجميع هنا. في الحقيقة أنا لست أستاذا في أي شيء. أنا رجل بسيط كنت أفترش الرصيف؛ أبيع الصحف والكتب القديمة؛ الآن أبيع بطاقات شحن الرصيد و أساعد العاملين في السوق في كتابة خطابات الاسترحام لموظفي الحكومة لتقسيط رسوم الترخيص أو خفض تقدير الضرائب أو تأجيل دفع رسوم النفايات. عندما طلب مني الصبي فريني التوسط لدى أمه؛ أشفقت عليه؛ شعرت أن مهمتي محكوم عليها بالفشل وذلك لأن حبال الود بين المرأتين تكاد تكون مقطوعة تماما بسبب مشاكل قديمة لا داع لذكرها الآن. لكن عندما عدت وتذكرت تلك النظرة المفعمة بالأمل في عينيه فتشجعت.
- فريني يا ابن العاهرة. يا كلب. تلعب على بنتي أنا. أنا أم وردة تصبح سيرتي وسيرة بنتي على كل لسان في السوق.
نزلت الكلمات كالرصاص على مسامع الحضور؛ وشاهد الجميع المرأة الضخمة بالجهة المقابلة تهرول؛ تجر ثوبها الذي سقط من رأسها على الأرض؛ وتلوح بسكين في يدها.
احتشد الناس أمام المطعم. طلبت من الصبي فريني البقاء بالداخل؛ بينما أمسكت بعض النسوة أم وردة؛ تكفلت أنا وبعض الحضور بالسيطرة على حواء؛ التي لا أدري من أين أخرجت قضيب من الحديد طوله حوالي متر وراحت تتوعد به أم وردة أن تفلق رأسها إلى نصفين أن هي اقتربت من ولدها. وبدأت مفاوضات شاقة بين السيدتين. حواء تقسم أن البنت وأمها استدرجن ابنها الوحيد إلى الفخ و هذه الحركات لن تنطلي عليها. أم وردة تقول أن الصبي لعب على بنتها ولا يدري أنه يلعب بالنار؛ وأنها لن تفرط في شرف بنتها لذلك هي تصر على قطع خلف الصبي من جذوره. تشدد على الكلمة بأسنانها. استهدي بالله يا أم وردة كل مشكلة لها حل. يا أستاذ أنا أقسمت. سأقطع رأس ماله بسكيني هذه من جذوره. تصرخ وتلوح بالسكين في وجهي. يا الهي؛ ما هذه الورطة؟ لابد من حل. الأصوات الغاضبة ترتفع؛ الناس منقسمة إلى فريقين. فريق مع أم وردة يرى أنها محقة ولابد من غسل شرف بنتها بالسكين. فريق مع اللجوء إلى العقل وحل المسألة بحكمة.
ألم أحذرك من العبث مع أم وردة
أقسم لك يا أستاذ لم أفعل شيئا. بعدما أحضرت وجبة الإفطار لامي عدت إلى عملي؛ وجدتها تنتظرني خلف المطعم؛ أخبرتها أنك ستقنع أمي وكلها أيام ونتقدم لأمها. طارت من الفرح. طلبت مني أغمض عيني؛ انحنت قبلتني على خدي؛ فتحت عيني وجدتها تركض مسرعة إلى مكان عملها. فريني أقول محذرا. أقسم لك يا أستاذ هذا كل شيء. إذن انتظر هنا ولا تخرج حتى أنادي عليك.
بعد مفاوضات شاقة وافقت أم وردة أن تترك جذور الصبي تنمو نمؤها الطبيعي؛ لكنها اشترطت أن يتم عقد القران في اللحظة أمام الكل في ساحة السوق. حواء حاولت التملص من الاتفاق ذكرت أنها تريد بعض الوقت لعمل فرح يليق بابنها الوحيد. ذكرتها بقصة هروبها من قريتها وهي فتاة مع حبيبها الذي أصبح والد فريني. ابتسمت بحياء ورأيت دمعة لمعت في عينها.
الكل شارك في ذلك النهار. تم فرش بساط خيمة قديمة أمام المطعم. جلبت كراسي بائعات الشاي ووضعت على جانبي الرصيف. أصدقاء فريني من عمال وأصحاب المطاعم في السوق تكفلوا بالضيافة والعصير. حارس مسجد السوق قام بإحضار جاره المأذون. كنت وكيلا عن العروس بطلب من أمها بينما حضر أحد القضاة بالمعاش وكيلا عن العريس . إحدى العاملات في الكوافير الوحيد تكفلت بتزيين العروس.
في ذلك الجو الخانق؛ تمتزج كل الروائح. رائحة العطور برائحة الفرح الممزوج بعرق الغلابة. تتصاعد أنفاس الأمل إلى السماء مع ذرات الغبار العالق. والشمس الفتية ترسل لهيب شوقها المجنون قبلات على الوجوه السمراء؛ يخرج العروسان من بوابة الكوافير ذلك النهار متماسكين. تنطلق الزغاريد. تصدح الاصوات بالغناء؛ يضرب الدرويش على الطبل. الساحة التي كانت تتهيأ لتصبح ميدانا للقتال قبل قليل يصيبها الجنون. تستحيل إلى صالة كبيرة للرقص. كانا أجمل عروسين شاهدتهما. يرقصان بخفة ويبتسمان كالملائكة. للحظة شعرت أنهما ملاكين هبطا من السماء؛ وسوف يطيران إلى الجنة بعد إنتهاء كل هذا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى