حكيم عنكر - جاكسون.. بريطاني في البصرة وبغداد وديالى عام 1797

تلقي الرحلة التي قام بها الرحالة البريطاني جون جاكسون إلى العراق، ضمن مسار طويل لرحلة أشمل انطلقت من بومباي في الهند إلى إسطنبول، عام 1797، الضوء على الوضع العام الذي كان يعيش فيه العراق، في تلك الفترة الزمنية، التي وإن كانت فيها بغداد تحت الحكم العثماني، فإن الأوضاع الداخلية لهذا البلد الكبير اتسمت بالفوضى والتفكك، وعدم الأمان، إضافة إلى سيادة الحكم العشائري وخفوت صوت السلطة العثمانية كلما جرى الابتعاد عن بغداد.

وقد غامر البريطاني جاكسون بحياته، عندما نزل في ميناء البصرة، واختار أن يعبر إلى إسطنبول عبر الملاحة النهرية وبرا، وربما لم يكن يقدر المشكلات التي ستواجهه في مغامرته تلك، لكنه كما يقول نفسه، فإن تلك الرحلة كانت لتستحق كل تلك التضحيات، لأنها عرفته على تفاصيل حياة العراقيين ومعيشهم وتحديهم للسلط المختلفة، واصطفافهم إلى جانب السلطة الوحيدة التي تؤمن حياة الفرد، وهي سلطة العشيرة ونفوذ القبيلة.

لقد كان بإمكانه أن يختار الطريق الآمن، بالمرور عبر الرجاء الصالح، في القرن الأفريقي، لكنه كان يعتقد أن ذلك الطريق طويل جدا، رغم ضمانات الأمن، كما أنه ساورته قناعة، أن أسرع الطرق للسفر من الهند إلى أوروبا هي أن يتجه بحرا إلى البصرة، ثم يقطع الصحراء الكبرى إلى حلب، ومن هناك، يذهب إلى إسطنبول، ثم يصحب البريد الألماني إلى فيينا فهامبرغ، فهذا الطريق سهل وأقل نفقة من طريق بغداد، ولكن الطريق الأخير أسهل، وقت الضرورة، ما دام العرب مجبرين أن يقطعوا الصحراء على ظهور الجمال.

سيصل جاكسون على ظهر سفينة بريطانية من بومباي إلى البصرة، وقبلها سيعيش حالة من الذعر هو وصحبه، عندما يعترضهم القراصنة العرب، أثناء مرورهم من الجزر القريبة في الخليج العربي، لكنهم سيفلتون، بفضل استعانتهم بخدمات عدد من القراصنة وأسياد الجزر الذين يتحكمون في الملاحة هناك.

يعتقد جاكسون أنه من جزيرة هرمز أو قشم، وغيرها من الجزر التي تمكن السطو بكل سهولة على السفن الداخلة إلى الخليج، لا يحتاج الأمر إلا إلا مباغتة، وهذا ما كان يتقنه القراصنة العرب، وهم في مراكبهم الصغيرة، مما يعطي نظرة واضحة عن حركة الملاحة في تلك الفترة الزمنية من نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، أما اليوم، فإن الإبحار في مضيق هرمز والخليج العربي أصبح مثل السير في طريق سريع مكتظ بالسفن والناقلات.

قبل الوصول إلى البصرة التي كانت بالنسبة إلى جاكسون مكانا مدهشا، حيث التقاء البحر بالنهر، والتمدد اللانهائي للصحراء، وصل إلى جزيرة "كرك" أو خرج، يقول "إن الغريب عن هذه البلاد لا يستطيع أن يكون له أية فكرة عن حرارة الصحراء إلا إذا كان على الشاطئ، وفي وسط النهر وفي مثل هذا الوقت من الصيف، ذلك أن أقدام المواطن الأوروبي سرعان ما تلتهب، حتى وإن كان ينتعل أقوى حذاء لديه".

ثم يمضي في وصف هؤلاء الناس، المختلفين عما شاهده في الهند، فهنا عالم آخر، مشيد بعناية، ومستمر، بحيث يتكيف مع البيئة القاسية، يقول "والملاحظ أن دور القرى هنا مشيدة باللبن ومغطاة بسعف النخيل، وعدد السكان فيها كثيف جدا، ومعظمهم ضعيفو البصر، وقد يكون ذلك بسبب انعكاس نور الشمس على الصحراء.
أما ملبسهم فهو بسيط جدا، فالرجال يرتدون على العموم ثوبا فضفاضا ذا أردان واسعة قصيرة وطاقية على رؤوسهم تحميهم وقدة الشمس، وقد لاحظت أن العرب يضعون طاقياتهم الصوفية هذه على رؤوسهم، أما النساء فإن ملبسهن بسيط أيضا، لا يعدو عن ثوب من قماش قطني أزرق".

ولكن كيف نظر جاكسون إلى المرأة العراقية، وما هو الانطباع الذي خلفته في نفسه؟ يكتب "لم تكن المرأة العربية متحفظة جدا كما كنا نتوقع ذلك، فقد سارت النسوة بتنوع ملابسهن ورحن يقدمن لنا اللبن والخبز وغيرهما من الغذاء بكل لباقة. وخبزهن مصنوع أقراصا، ولكنه ليس جيدا، أما اللبن فغير مستساغ بالنسبة للأوروبي لأنه شديد الحموضة، غير أننا وجدنا العرب يفضلونه وهو في حالته تلك. وإذ سحرتنا مناظر الشاطئ فقد مكثنا طويلا أكثر مما اعتزمنا، الأمر الذي دفع بسفينتنا إلى أن تطلق إطلاقة تنبهنا بها إلى ضرورة الإسراع بالعودة".

في البصرة، سيجد جاكسون أمامه مدينة كبيرة ومأهولة، وفيها أخلاط من البشر، بالإضافة إلى حضور بريطاني قوي، لم يترك للفرنسيين والهولنديين أي فرصة للوجود في البلاد. وكانت جهود الفرنسيين، على وجه الخصوص، تذهب سدى، في ترسيخ وجود لهم في العراق، واقتصر وجودهم على بعض المغامرين، بعد أن خسر نابليون معركته الكبرى في مصر وحوض المتوسط على يد البريطانيين.

يكتب جاكسون عن المدينة "أكثرية السكان من العرب وأما البقية الباقية فإنهم من الأتراك والأرمن، ومعظم الأتراك من الرجال العاملين في الجيش أو في المناصب الحكومية الأخرى. أما الأرمن فإنهم يشتغلون في التجارة وبعضهم محترمون جدا!! ولهم تجارة ملموسة مع شرقي الأنديز والبنغال بصفة رئيسة.

وتستخدم هذه التجارة عدة سفن لا تتجاوز حمولة أكبرها عن أربعمائة طن وذلك بسبب الصعوبة في اجتياز الحواجز. والمعتاد أن تحظى السفن المسافرة من بومباي أو البنغال بحمولات كاملة يتألف الجزء الأكبر منها من طبقات نحاسية وأدوية من مختلف الأنواع، أما سفن بومباي فإنها على العموم تحمل الفواكه الجافة.
على أنه من النادر أن تبحر أية باخرة إلى أي جزء من بقاع الهند دون أن تحمل معها عددا ملموسا من الجياد العربية، وهناك أمثلة عديدة على السفن التي تنقل الفضة والسبائك بمبالغ تقرب من آلاف الروبيات، وهذه النقود تتألف بصفة رئيسية من دولارات إسبانية وجنيهات فينيسية، والجزء الأعظم من هذه المتاجرة بهذا النوع من المواد في الإمبراطورية التركية يتركز في أيدي الأرمن، الذين ما إن يتوفر لديهم مبلغ حتى يسارعوا، بقصد الحيلولة دون وضع الأتراك أيديهم عليه، إلى تصديره إلى الهند، حيث يحصلون على فوائد لا تقل في الغالب عن اثنتي عشرة في المائة".


البصرة متسامحة

يقف جاكسون على جوانب أخرى مهمة في مدينة البصرة، فقد ساعد هذا التنوع البشري على نشوء نوع من الجوار المسالم، والذي أفضى إلى سيادة تسامح امتد حتى إلى الجوانب الدينية، وهو أمر قليل الحدوث بالنظر إلى أن الأجانب كانوا يتعرضون إلى مختلف أنواع المضايقات.

يكتب "تبدو شوارع المدينة ضيقة جدا، وهي لا تسمح إلا بمرور حصان واحد في وقت واحد. يضاف إلى هذا أن أجزاء كثيرة من هذه الطرقات غير معبدة، مما يصعب حتى على الخيول المرور فيها.

توجد في المدينة كنيسة كاثوليكية رومانية جيدة البناء، والناس في هذه المنطقة أقل تحرشا بالأجانب من غيرهم.

وكل شخص هنا يرتدي الملابس البلدية، وهم يعنون بتربية شواربهم بصفة خاصة. ولقد التقيت هنا أحد الأرمن الشمهورين المدعو جوزيف أمين، الذي أمضى عدة سنوات في إنكلترا ونشر فيما بعد، باللغة الإنكليزية، كتبا عن رحلاته ومغامراته كتبها هو بنفسه".


الإبحار في دجلة

سيبحر جاكسون في نهر دجلة مع مرافقيه متوجها إلى بغداد، وبقدر ما إن الرحلة مشوقة إلا أنها حابلة بالأخطار، ذلك أن القبائل والعشائر التي تقيم على ضفتي النهر غالبا ما تترصد المراكب المبحرة، وتعمل على سلبها، بل وقتل من فيها في أحيان كثيرة.

لقد قال جاكسون في معرض رحلته إن ماء دجلة من أعذب ما شرب في حياته، وإنه لما تذوقه استغنى تماما عن الخمر، بل إن ماء هذا النهر أعذب من كل خمور الدنيا، واعترف أن مذاق ذلك الماء ظل عالقا في حنجرته إلى الأبد.

يقول في واحدة من مشاهداته "في الساعة الواحدة وصلنا إلى القرنة، ملتقى نهر دجلة والفرات، وقد مكثنا هنا ساعتين ولاحظنا أن دجلة كان يقع في الناحية الشرقية وأن الفرات كان في الجهة الغربية منا. كانت إحدى السفن الحربية تمخر على مقربة من الوسط بين النهرين، وهي سفينة حراسة تقوم بمطاردة السفن الأخرى التي تتهرب من دفع الرسوم المترتبة عليها ومنعها من المرور. فالنهران باتحادهما هنا معا يؤلفان مجرى مائيا هائلا عذبا.

ويطلق السكان على هذا المجرى من هذا المكان حتى الخليج العربي اسم "شط العرب". ولم يعد للمد أدنى تأثير على المياه في القرنة إلا في الأيام التي يكون فيها القمر بدرا أو محاقا، وحتى في تلك الأيام، لا ترتفع المياه إلا قليلا، أما التيار فلن يتحول".


حظوة الإنكليز في بغداد

للإنكليز في العراق حظوة خاصة، ويعاملون بنوع من التقدير، قلما يحصل عليه باقي الجنسيات الأخرى، وهو امتياز كان في صالح الإنكليز القادمين إلى العراق في تلك الفترة، ويعفيهم من عدد من المساءلات والإجراءات الإدارية الطويلة.

يكتب جاكسون "إن الإنكليزي يتمتع في بغداد بامتياز لا يتمتع به أحد غيره من رعايا الأمم الأخرى. فهو مهما كان يحمل معه من متاع وبدلا من أن يقتاد إلى دائرة الجمرك، يسمح له بأن ينقل متاعه إلى المكان الذي سيقيم فيه، وإذ ذاك يرسل أحد ضباط الجمرك لفحص متاعه هناك.

وقد منح هذا الامتياز بناء على مطالبة المستر مانستي ولصالح أبناء قومه، ولذلك سيظل هذا الامتياز على الدوام مفيدا لمصلحة المسافر وملائما له تماما".
ما هو الانطباع التي تركته بغداد في نفس جاكسون؟
يقول "تقع بغداد على الضفة الشرقية من نهر دجلة، وهي مدينة واسعة مكتظة بالسكان تمتد على ضفاف النهر حوالي ثلاثة أميال، أما طول أسوارها من حافة النهر فيبلغ زهاء الميلين، وتعطيها هذه الأسوار شكل مربع مستطيل ومنازلها وإن كانت مغايرة للمنازل الأوروبية، إلا أنها أفضل من منازل البصرة كثيرا، وإن كانت على ذات النمط.

وقد بنيت عدة مبان عامة كالجوامع والمساجد والحمامات من الحجارة وزينت مظاهرها تزيينا حسنا.
وتوجد فيها سوق واسعة مزودة بمختلف أنواع المواد، ولكن الأسعار فيها أعلى من أسواق البصرة بصفة عامة.

والأرمن هنا يؤلفون التجار الرئيسيين، والمعامل المستعملة في بغداد قليلة، وهي محدودة لإنتاج المواد ذات الاستعمال المباشر كالأغذية والملابس ومواد السراجة وأدوات الطبخ.

ويبعث الأرمن الموجودون في الموصل عن طريق دجلة بكميات كبيرة من النحاس تنقل في أرمات من الأخشاب، التي تشد إلى بعضها البعض ومتى وصلت الرمث إلى بغداد بيعت أخشابه فيها لأن جد نادرة هناك.

ومن ثم يشحن النحاس إلى البصرة في سفن شراعية تستغرق رحلتها رواحا ومجيئا زهاء ستة أشهر، ويكون النحاس على شكل صفائح صغيرة مستديرة يبلغ عرضها زهاء ست بوصات وسمكها نحو بوصتين عند الوسط، ثم تأخذ بالرقة حتى الحواشي، وهو من نفس النوع الذي يجري صنعه في إنكلترا".

يؤكد جاكسون أن بغداد من أفضل المدن في المنطقة، لكنه يعيب عليها أنها لا تتوفر على سبل مريحة للعيش، فهي كما يقول شوارعها ضيقة ومتربة، والناس ينامون مبكرا، كما أنها غير مضاءة، وتصول فيها العقارب وتجول الحشرات القارصة والخنافس، وقد كان يقتل كل ليلة أكثر من أربع عقارب لسعاتها مميتة.

ينقل جاكسون عن حر الصيف في بغداد "وفي هذا الفصل من السنة ينام جميع الناس على سطوح المنازل، وكنت أستمتع دوما وأنا أشاهد الناس يهبطون من السطوح عند شروق الشمس وهم يحملون أفرشتهم بأيديهم، لأنه ما إن تصعد الشمس في الأفق حتى يغدو الجو حارا بشكل لا يطاق. ولقد علمت فيما بعد أن مجرد التطلع من وراء الجدار القائم على السطح، يعتبر مسلكا محفوفا بالخطر، ذلك لأن الأتراك لا يترددون لحظة واحدة في إطلاق النار على أي شخص يكتشفون أنه كان يتطلع إلى منازلهم".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى