"ما شِم شلخا؟ مِ إيفو أتا؟ تفيلي تعودِت زهوت، ريشون لخنساه لإسرائيل = ما اسمك؟ من أين أنت؟ أعطني بطاقة هويتك، تصريح الدخول إلى إسرائيل"."أتا يوديع عِبغيت؟ = هل تعرف العبرية؟".
عدّة أسئلة سريعة متتابعة، وكان يريد إجابات قصيرة عليها، ونطق ألفاظا بالعربية بلكنة قبيحة، تختلف كثيرا عن لَكْنَة أولئك الذين صاروا أرباب عمل في أراضينا، وصرنا نحن عُمّالا فيها. اكتفى بأسئلته، وأعاد البحلقة في الحاسوب، وتمتم بشيء ما، فقلت: "إيش لم أسمع "، ولم يقل هو شيئا.
كان الضابط جالسا على كرسيّ دوّار، يمضغ العلكة، ويتابع حاسوبه، ردّ على اتصال وارد إلى هاتفه الخلوي، ثم أجرى اتصالا من هاتف المكتب، ثم قَلّب مجموعة من الأوراق المصفوفة على الطاولة. جحظ بعينيه في الحاسوب، كمن يقرأ تعليقا حادا على منشوره في الفيسبوك، أو كأنه مدقّق إملائي يبحث عن همزة قطع سقطت من الكتابة، نظّارته ثابتة على رأسه لا تنزلق عنه أبدا، لا أدري ما السبب، على الرغم من أنّ شعره محلوق على الصفر.
جلبت المراسلة الشرطية لي كأسا من القهوة التركية ـــــ هي وقهوتها رائعتان ــــــ ودخل شخص آخر إلى مكتب الضابط، وتكلم معه بالعبرية: "كين أدوني مائير = نعم سيد مئير". عرفتُ أنه عربي من ملامح وجهه ونبرة صوته. أعطاه مئير ورقة، وقرأها لي: "دولة إسرائيل ورئيس بلدية نتانيا وشرطة نتانيا يشكرونك لأنك وقفت إلى جانب شلوميت، عندما شعرَتْ بالخوف من الكلب (لولو)، لكنك ألحْقتَ ضررا كبيرا بِعَيْنِ (لولو)، وتسبّبْتَ بحزن شديد، أصيبتْ به عائلة (روخمان) على كلبهم الراقد حاليا في العيادة البيطرية". سَكَتَ العربي لفترة قصيرة، وقال: "بتعرف تكتب؟، تعال معي عشان تكتب كل شي صار معك هاد اليوم من طقطق للسلام عليكم، إجراءات روتينية، ما تخاف". وأخذني مع قهوتي إلى غرفته، ودفع إليّ عددا من أوراق (A4) البيضاء، لم تكن مُروّسة بشعار شرطة إسرائيل، كبقية الأوراق المنتشرة على الطاولة. وقال: "اكتب وسَمّعْني اللي بتكتبه". وبدأتُ أكتبُ كلّ ما جرى معي في ذلك الصباح:
"خرجتُ في الصباح الباكر، بعد أذان الفجر، وركبتُ في سيارات العمال إلى حاجز الطيبة، وانطلقت من الحاجز، بعد أن ضاع الوقت فيه، إلى سوق العمال في نتانيا، كانت الشمس قد بزغت من جهة طولكرم، وجدْتُ أمامي عددا من العُمّال، مسحَ الندى رؤوسهم وملابسهم بلطف، وكأنهم باتوا ليلتهم تلك في ذلك المكان. وقفتُ في السوق ساعتين متواصلتين، على أمل أن يساومني أحد من أصحاب الأعمال، ويستأجرني للعمل عنده لذلك اليوم على الأقل، لكنْ لم يحالفني الحظ، فالمنافسون كثيرون، وثمّة عمالٌ مهرة في الترويج لأنفسهم ومهاراتهم، ومنهم من له باع طويل في المحاشرة والنفاق. طلعَتِ الشمس وتبخّر الندى وقَلّ العُمّال أو تفرّقوا، ولم يتبق أيُّ أملٍ بقدومِ ربّ عملٍ متأخر. غادرتُ المكان واختصرتُ الطريق من أحد الأحياء الراقية متوجها إلى بيت (سارة إيشاي) عسى أن أجدها في البيت قبل أن تغادر إلى مكان عملها. أعرفها منذ مدة طويلة، عندها حديقة واسعة، وكنتُ أحضر إليها مرة واحدة في الشهر، أقلّم الأشجار والورود وأنكش التراب حولها، وأزرع وأقلع وأقطف. كوّنتُ مع طول المدة صداقة مع هذه العائلة، إلى حدّ الثقة المتبادلة، فكانوا يخرجون كلّهم، ويتركونني وحيدا داخل أسوار بيتهم، أعمل في الحديقة وأتجوّل كيفما يحلو لي. لكن فيما بعد مُنعْتُ من الدخول إلى إسرائيل، وانقطعتْ تصاريح العمل، لأسباب لا أعرفها، لم تنقطع علاقتي بالأسرة، لكنها ضعفت. وكانوا اتفقوا مع بستانيّ، يأتي إليهم بسيارته وعُمّاله ومعدّاته. اليوم أمتلك تصريحا للبحث عن عمل، بعد أن انقطع تصريح العمل مدة سنة، فقلت: سأذهب إلى سوق نتانيا، فإن لم أجد عملا، سأذهب إلى بيت (سارة)، ربما هُم بحاجة ماسة إليّ الآن.[الموظف العربي يستمع، ويكتب ما يسمع على جهاز الحاسوب، ولا يُبْدي ضيقا أبدا]. ومع العلم أنني كنتُ أتّصل عليها مسبقا بالعادة، إلا أنني لم أرغب هذه المرة، تجنّبا للمخاجلة أولا، ولأن تخطيطي ليس الذهاب عندهم ثانيا. ذهبتُ لكنني لم أجد سارة، ووجدتُ ابنتها (زهافا)، التي قدّمتْ لي القهوة كعادتهم كل مرة، [هي وقهوتها رائعتان] جلسنا قليلا على مقعد الحديقة، وسألتها عن علاماتها في مادة اللغة العربية في الجامعة، فقالت إنها ممتنّة لي بسبب حصولها على درجة (متفوق)، وشكرتني على مساعداتي الكثيرة لها في مجال تعليمها على المحادثة والكتابة باللغة العربية. [ابتسم العربي ابتسامة خفيفة، وهو ينظر إلى شاشة الحاسوب، وهزّ رأسه، وقال: "كمّل كمّل"]. الحديقة جميلة جدا وفي عناية تامة، لكن البستاني يتقاضى منهم أجرا باهظا جدا، هذا ما قالته لي (زهافا).
[مرّتِ المراسلة الشرطية من باب الغرفة، رنّت ضحكتها ولغطتْ بعبارة لم أفهمها، فقط كل ما عرفته أن اسم الموظف هو مصطفى، شغّل مصطفى المذياع على إذاعة إسرائيل باللغة العربية...
- إليكم بعد قليل نشرة أخبار العاشرة والنصف، معكم سماح حسنين بكرية، وصباح الخير.
لوهلة اعتقدتُ أن المسألة تخصّني، وأن سماح والأخبار وإسرائيل كلها سيتحدثون عنّي، حمرق وجهي، وتسارعتْ دقات قلبي، وأعجبتُ بنفسي وباسمي؛ لأنه عما قليل سيُتلى على شفاه المذيعات العربيات، والمراسلات اليهوديات، وستعرف اسمي كل الفتيات الإسرائيليات، وحتى المجنّدات، وهو صِنف نسويّ يثير إعجابي واهتمامي كثيرا، لكنّ شيئا من هذا لم يحصل].
وأنا في الطريق عائدا من بيت سارة إلى موقف السيارات، رأيت فتاة صغيرة لا تتجاوز الثانية عشرة على أكثر تقدير، كانت تسير على الرصيف، وتحمل حقيبة، وتُردّد عبارات بالعبرية، ذات لحن وأصوات قريبة جدا من (الله أكبر). وفجأة رأيتُ كلبا كبيرا من نوع (جيرمن شيبرد) يشخر ويهمّر، ويتحفّز للانقضاض عليها، هكذا قدّرتُ الأمر، فأسرعتُ نحوها، وانتهرته من بعيد، فلم يكترث بي، كان ثلاثة أو أربعة من السابلة يمرّون في الطريق، لكنهم لم يفعلوا شيئا، اكتفوا بالنظر فقط، أو الاستغاثة، هكذا بدا لي، فانا كنتُ مهتمّا بالفتاة، وأتابع تصرفات الكلب، وليس تصرفات أولئك القوم. كانت الطفلة مرتعبة جدا وترتجف. صرختُ عليه بصوت عالٍ: "اخصي اخصي"، لكنه على ما يبدو لم يفهم لغتي، واقتربَ من الطفلة أكثر، وهجمَ عليها بسرعة عجيبة، فوقعتْ على الأرض، نظرتُ حولي فلم أجد حجرا ولا شيئا ــــ هؤلاء الناس شوارعهم نظيفة ـــــ فلجأت بسرعة إلى أحد الجدران المبنية حديثإ، والتقطتُ قطعتين من حجارة الطوب الملقاة هناك، فقذفت واحدة على بطن الكلب، فتنمّر أكثر، وأمسك بيد الفتاة، وحرّكها بعنف، فأسرعتُ إليه، وضربته بالقطعة الثانية على رأسه، فأدار رأسه وفمه نحوي، فضربته مرة ثانية، ضربة أقوى من الأولى، فأصيبت عينه اليسرى، تراجع إلى الخلف، فقذفتُ عليه قطعة الطوب التي بيدي، فملأ الشارع نَعْوَصَةً، وولّى هاربا، وصوته يدوّي بين المباني في نتانيا، انكمشت الفتاة على الرصيف، كانت ترتجف وتبكي بكاء بريئا، تدافعَ بعض السابلة نحونا، شكرني رجل وامرأتان: "تودا تودا "، والبقية لم يقولوا شيئا. كلهم كانوا يتحدثون مع بعض، ولم يكلّمني أحد منهم بشيء، فقط قالت لي إحدى الشاكرتين: "يوفي يوفي، أتا بوعيل عَغَبي توف = حسنا حسنا، أنت عامل عربي جيد".
ارتمت على الطفلة امرأة، رأيتها قادمة من بعيد كالقطة المرعوبة، كانت تصرخ وتبكي، ملامحها وملابسها تدلّ على أنها من اليهود اليمنيين، ثم اتّضح لي أنها أمّ الطفلة, مسحت دموع ابنتها، ونفضت ملابسها:" شلوميت آل تِبخي إيما، آل تفَخْدي = لا تبكي يا ماما، لا تخافي". وقف رجل وامرأة عجوزان، نظرا إلى المرأة، ثم إليّ، وتجادلا فيما بينهماـ ثم غادرا المكان، كسلحفاتين تسيران ببطء وتعقّل.
كانت الطفلة في حالة أشبه بفقدان الوعي. محزن ومؤثر جدا أن ترى طفلا خائفا مرعوبا. في لحظات كانت سيارة الإسعاف بالمكان، ونقلوها إلى المشفى، وحضرت الشرطة: شرطة الناس وشرطة الكلاب الضالة، وحضرت الصحافة أيضا، لم يستجوبني رجال الشرطة البشرية، فقط طلب مني أحدهم أن أنتظر في الموقع. اكتفى الصحفيون بالتقاط صور عديدة لي، ولم ينجِز أحد منهم استجوابا صحفيا معي، مرّ عامل تنظيفات أثيوبي، يجرّ عربته، وينظف الأرصفة من روث الكلاب وأعقاب السجائر، وقف قليلا ولغط بشيء ما لم أفهمه. غادرَ الجميع المكان، وبقيت الشرطة الثانية، استوقفني هؤلاء رجال شرطة الكلاب قليلا ريثما حضرت سيارة أخرى، وطلبوا مني أن أرافقهم إلى مركز الشرطة كي أقدّم إفادة بالحادث، أركبوني في السيارة التي حضرت للتو، وإذا بهم قد عثروا على الكلب المصاب، وأجلسوه مكبّلا على نفس المقعد الذي سأجلس عليه. كانت عينه ملفوفة بقطعة قماش، وفمه الكبير مغطّى بشبكة حماية بلاستيكية، شعرت بقلق وخوف ما، ليس من الكلب ومن هجوم محتمل عَليّ، وإنما من تهمة قد تُوَجّه إليّ بسبب هذا الذي حدث. أنزلوا الكلب عند بوابة العيادة البيطرية، ثم جلبوني إلى هنا. بدا لي أن الكلب مُدرّب على مثل هذه الأمور، فهو يركز على هدفه، ولا يهرب من الحجارة. [ويبدو أن مصطفى مُدرَّبٌ جيدا على تحويل المنطوق إلى مكتوب في جهاز الحاسوب]
انتهت الإفادة مع الاحترام ...
التوقيع: فلان فلان الفلاني: حاصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية، وأبحث عن عمل في إسرائيل".
سلّمتُ الورقة للموظف العربي مصطفى، أخذها وأخذني إلى غرفة الضابط، استدعى مئير رجلين اثنين من الموظفين هناك، وبدأ مصطفى يترجم لهم ما كتبته، أنصتوا وكانوا يبتسمون بعض الأحيان، ثم دار نقاش طويل بينهم، ويبدو أنهم اتفقوا على شيء ما، وفي النهاية أشار مئير إلى مصطفى أن يصطحبني معه. وجلستُ في الشرفة المقابلة لمكتب مصطفى، مدة نصف ساعة، أدخّن سجائر العربي، وأشرب قهوة عِليت وآكل بسكوت عِليت. كانت أدخنتي تسرح وتمرح عبر الممرات، وتنفذ إلى الغرف، فكافأتني المراسلة الشرطية بعلبة تبغ من نوع (مارلبورو).
في غرفته طلب مصطفى مني أن أوقّع على مجموعة من الأوراق لإخلاء سبيلي، وفيها تبرئة لي من أيّة تهمة أو جرم يمكن أن يلحقه آل روخمان بي. رنّ الهاتف في مكتب مصطفى، وتحدّث شخص ما، مُدّة نصف دقيقة، وكانت إجابات مصطفى: "كين... كين ... بسيدر". ابتسم مصطفى، وقال: "أهل البنت آل صموئيل اتصلوا على مئير، وبتشكروك كتير... بحكولك تودا رَبا، وآل روخمان ما بدهم يقدموا شكوى ضدك".
ارتحتُ كثيرا لمصيري، وغضبتُ في سِرّي على اليمنيين هؤلاء بسبب ردّهم المبتذل. وسألتُ مصطفى عن مصير الكلب: "شو بدهم يعملوا فيه؟" فأخبرني أن طاقما طبّيّا اكتشفوا أن (لولو) يعاني من أزمة نفسية بسبب فقدانه لصديقته (نتاشا)، وأنه سيمكث في مصحّة الكلاب، وسيخضع لبرنامج علاج نفسي، وعندما يتعافى سيعود إلى البيت. آل روخمان هؤلاء يدّعون أن كلبهم لطيف جدا، ولم يكن ينوي إيذاء الفتاة شلوميت، وإنما أراد أن يلاطفها، فقد كان معتادا على ملاطفة الصديقة نتاشا كل صباح، وكثيرا ما كانت ابنتهم غولدا تصطحب لولو ونتاشا، ويتجولون معا في ذات المنطقة التي جرى فيها الحادث، أما (هبوعيل هشتاخيم = عامل الضفة) فقد قدّر الموقف خطأ، سامحه الله.
عندما كنتُ خارجا من المركز، وفي الساحة عند البوابة، قال لي رجل عربي، لا أدري إن كان مراجِعا أو مراجَعا، متّهِما أو متَّهَما، صحفيا أو محاميا، قال: "لو إنك يهودي كان بكرة بيكتبوا بالجريدة: إسرائيلي شجاع ينقذ حياة فتاة صغيرة من كلب ضالّ، بس بتعرف لو مات الكلب شو كان ممكن يكتبوا؟ فلسطيني يقتل كلبا وديعا في نتانيا". ضحك عربيّ آخر وقال: "الله سترك، كيف لو كان الكلب موظف وطالع ع الشغل؟ " انتا ما بتعرف إنو بعض الكلاب في إسرائيل لها شغل معروف، ورواتب عالية".
فتحي زيدان جوابرة
فتحي زيدان جوابرة - قصة قصيرة: أنا و(لولو) كلب آل روخمان
عدّة أسئلة سريعة متتابعة، وكان يريد إجابات قصيرة عليها، ونطق ألفاظا بالعربية بلكنة قبيحة، تختلف كثيرا عن لَكْنَة أولئك الذين صاروا أرباب عمل في أراضينا، وصرنا نحن عُمّالا فيها. اكتفى بأسئلته، وأعاد البحلقة في الحاسوب، وتمتم بشيء ما، فقلت: "إيش لم أسمع "، ولم يقل هو شيئا.
كان الضابط جالسا على كرسيّ دوّار، يمضغ العلكة، ويتابع حاسوبه، ردّ على اتصال وارد إلى هاتفه الخلوي، ثم أجرى اتصالا من هاتف المكتب، ثم قَلّب مجموعة من الأوراق المصفوفة على الطاولة. جحظ بعينيه في الحاسوب، كمن يقرأ تعليقا حادا على منشوره في الفيسبوك، أو كأنه مدقّق إملائي يبحث عن همزة قطع سقطت من الكتابة، نظّارته ثابتة على رأسه لا تنزلق عنه أبدا، لا أدري ما السبب، على الرغم من أنّ شعره محلوق على الصفر.
جلبت المراسلة الشرطية لي كأسا من القهوة التركية ـــــ هي وقهوتها رائعتان ــــــ ودخل شخص آخر إلى مكتب الضابط، وتكلم معه بالعبرية: "كين أدوني مائير = نعم سيد مئير". عرفتُ أنه عربي من ملامح وجهه ونبرة صوته. أعطاه مئير ورقة، وقرأها لي: "دولة إسرائيل ورئيس بلدية نتانيا وشرطة نتانيا يشكرونك لأنك وقفت إلى جانب شلوميت، عندما شعرَتْ بالخوف من الكلب (لولو)، لكنك ألحْقتَ ضررا كبيرا بِعَيْنِ (لولو)، وتسبّبْتَ بحزن شديد، أصيبتْ به عائلة (روخمان) على كلبهم الراقد حاليا في العيادة البيطرية". سَكَتَ العربي لفترة قصيرة، وقال: "بتعرف تكتب؟، تعال معي عشان تكتب كل شي صار معك هاد اليوم من طقطق للسلام عليكم، إجراءات روتينية، ما تخاف". وأخذني مع قهوتي إلى غرفته، ودفع إليّ عددا من أوراق (A4) البيضاء، لم تكن مُروّسة بشعار شرطة إسرائيل، كبقية الأوراق المنتشرة على الطاولة. وقال: "اكتب وسَمّعْني اللي بتكتبه". وبدأتُ أكتبُ كلّ ما جرى معي في ذلك الصباح:
"خرجتُ في الصباح الباكر، بعد أذان الفجر، وركبتُ في سيارات العمال إلى حاجز الطيبة، وانطلقت من الحاجز، بعد أن ضاع الوقت فيه، إلى سوق العمال في نتانيا، كانت الشمس قد بزغت من جهة طولكرم، وجدْتُ أمامي عددا من العُمّال، مسحَ الندى رؤوسهم وملابسهم بلطف، وكأنهم باتوا ليلتهم تلك في ذلك المكان. وقفتُ في السوق ساعتين متواصلتين، على أمل أن يساومني أحد من أصحاب الأعمال، ويستأجرني للعمل عنده لذلك اليوم على الأقل، لكنْ لم يحالفني الحظ، فالمنافسون كثيرون، وثمّة عمالٌ مهرة في الترويج لأنفسهم ومهاراتهم، ومنهم من له باع طويل في المحاشرة والنفاق. طلعَتِ الشمس وتبخّر الندى وقَلّ العُمّال أو تفرّقوا، ولم يتبق أيُّ أملٍ بقدومِ ربّ عملٍ متأخر. غادرتُ المكان واختصرتُ الطريق من أحد الأحياء الراقية متوجها إلى بيت (سارة إيشاي) عسى أن أجدها في البيت قبل أن تغادر إلى مكان عملها. أعرفها منذ مدة طويلة، عندها حديقة واسعة، وكنتُ أحضر إليها مرة واحدة في الشهر، أقلّم الأشجار والورود وأنكش التراب حولها، وأزرع وأقلع وأقطف. كوّنتُ مع طول المدة صداقة مع هذه العائلة، إلى حدّ الثقة المتبادلة، فكانوا يخرجون كلّهم، ويتركونني وحيدا داخل أسوار بيتهم، أعمل في الحديقة وأتجوّل كيفما يحلو لي. لكن فيما بعد مُنعْتُ من الدخول إلى إسرائيل، وانقطعتْ تصاريح العمل، لأسباب لا أعرفها، لم تنقطع علاقتي بالأسرة، لكنها ضعفت. وكانوا اتفقوا مع بستانيّ، يأتي إليهم بسيارته وعُمّاله ومعدّاته. اليوم أمتلك تصريحا للبحث عن عمل، بعد أن انقطع تصريح العمل مدة سنة، فقلت: سأذهب إلى سوق نتانيا، فإن لم أجد عملا، سأذهب إلى بيت (سارة)، ربما هُم بحاجة ماسة إليّ الآن.[الموظف العربي يستمع، ويكتب ما يسمع على جهاز الحاسوب، ولا يُبْدي ضيقا أبدا]. ومع العلم أنني كنتُ أتّصل عليها مسبقا بالعادة، إلا أنني لم أرغب هذه المرة، تجنّبا للمخاجلة أولا، ولأن تخطيطي ليس الذهاب عندهم ثانيا. ذهبتُ لكنني لم أجد سارة، ووجدتُ ابنتها (زهافا)، التي قدّمتْ لي القهوة كعادتهم كل مرة، [هي وقهوتها رائعتان] جلسنا قليلا على مقعد الحديقة، وسألتها عن علاماتها في مادة اللغة العربية في الجامعة، فقالت إنها ممتنّة لي بسبب حصولها على درجة (متفوق)، وشكرتني على مساعداتي الكثيرة لها في مجال تعليمها على المحادثة والكتابة باللغة العربية. [ابتسم العربي ابتسامة خفيفة، وهو ينظر إلى شاشة الحاسوب، وهزّ رأسه، وقال: "كمّل كمّل"]. الحديقة جميلة جدا وفي عناية تامة، لكن البستاني يتقاضى منهم أجرا باهظا جدا، هذا ما قالته لي (زهافا).
[مرّتِ المراسلة الشرطية من باب الغرفة، رنّت ضحكتها ولغطتْ بعبارة لم أفهمها، فقط كل ما عرفته أن اسم الموظف هو مصطفى، شغّل مصطفى المذياع على إذاعة إسرائيل باللغة العربية...
- إليكم بعد قليل نشرة أخبار العاشرة والنصف، معكم سماح حسنين بكرية، وصباح الخير.
لوهلة اعتقدتُ أن المسألة تخصّني، وأن سماح والأخبار وإسرائيل كلها سيتحدثون عنّي، حمرق وجهي، وتسارعتْ دقات قلبي، وأعجبتُ بنفسي وباسمي؛ لأنه عما قليل سيُتلى على شفاه المذيعات العربيات، والمراسلات اليهوديات، وستعرف اسمي كل الفتيات الإسرائيليات، وحتى المجنّدات، وهو صِنف نسويّ يثير إعجابي واهتمامي كثيرا، لكنّ شيئا من هذا لم يحصل].
وأنا في الطريق عائدا من بيت سارة إلى موقف السيارات، رأيت فتاة صغيرة لا تتجاوز الثانية عشرة على أكثر تقدير، كانت تسير على الرصيف، وتحمل حقيبة، وتُردّد عبارات بالعبرية، ذات لحن وأصوات قريبة جدا من (الله أكبر). وفجأة رأيتُ كلبا كبيرا من نوع (جيرمن شيبرد) يشخر ويهمّر، ويتحفّز للانقضاض عليها، هكذا قدّرتُ الأمر، فأسرعتُ نحوها، وانتهرته من بعيد، فلم يكترث بي، كان ثلاثة أو أربعة من السابلة يمرّون في الطريق، لكنهم لم يفعلوا شيئا، اكتفوا بالنظر فقط، أو الاستغاثة، هكذا بدا لي، فانا كنتُ مهتمّا بالفتاة، وأتابع تصرفات الكلب، وليس تصرفات أولئك القوم. كانت الطفلة مرتعبة جدا وترتجف. صرختُ عليه بصوت عالٍ: "اخصي اخصي"، لكنه على ما يبدو لم يفهم لغتي، واقتربَ من الطفلة أكثر، وهجمَ عليها بسرعة عجيبة، فوقعتْ على الأرض، نظرتُ حولي فلم أجد حجرا ولا شيئا ــــ هؤلاء الناس شوارعهم نظيفة ـــــ فلجأت بسرعة إلى أحد الجدران المبنية حديثإ، والتقطتُ قطعتين من حجارة الطوب الملقاة هناك، فقذفت واحدة على بطن الكلب، فتنمّر أكثر، وأمسك بيد الفتاة، وحرّكها بعنف، فأسرعتُ إليه، وضربته بالقطعة الثانية على رأسه، فأدار رأسه وفمه نحوي، فضربته مرة ثانية، ضربة أقوى من الأولى، فأصيبت عينه اليسرى، تراجع إلى الخلف، فقذفتُ عليه قطعة الطوب التي بيدي، فملأ الشارع نَعْوَصَةً، وولّى هاربا، وصوته يدوّي بين المباني في نتانيا، انكمشت الفتاة على الرصيف، كانت ترتجف وتبكي بكاء بريئا، تدافعَ بعض السابلة نحونا، شكرني رجل وامرأتان: "تودا تودا "، والبقية لم يقولوا شيئا. كلهم كانوا يتحدثون مع بعض، ولم يكلّمني أحد منهم بشيء، فقط قالت لي إحدى الشاكرتين: "يوفي يوفي، أتا بوعيل عَغَبي توف = حسنا حسنا، أنت عامل عربي جيد".
ارتمت على الطفلة امرأة، رأيتها قادمة من بعيد كالقطة المرعوبة، كانت تصرخ وتبكي، ملامحها وملابسها تدلّ على أنها من اليهود اليمنيين، ثم اتّضح لي أنها أمّ الطفلة, مسحت دموع ابنتها، ونفضت ملابسها:" شلوميت آل تِبخي إيما، آل تفَخْدي = لا تبكي يا ماما، لا تخافي". وقف رجل وامرأة عجوزان، نظرا إلى المرأة، ثم إليّ، وتجادلا فيما بينهماـ ثم غادرا المكان، كسلحفاتين تسيران ببطء وتعقّل.
كانت الطفلة في حالة أشبه بفقدان الوعي. محزن ومؤثر جدا أن ترى طفلا خائفا مرعوبا. في لحظات كانت سيارة الإسعاف بالمكان، ونقلوها إلى المشفى، وحضرت الشرطة: شرطة الناس وشرطة الكلاب الضالة، وحضرت الصحافة أيضا، لم يستجوبني رجال الشرطة البشرية، فقط طلب مني أحدهم أن أنتظر في الموقع. اكتفى الصحفيون بالتقاط صور عديدة لي، ولم ينجِز أحد منهم استجوابا صحفيا معي، مرّ عامل تنظيفات أثيوبي، يجرّ عربته، وينظف الأرصفة من روث الكلاب وأعقاب السجائر، وقف قليلا ولغط بشيء ما لم أفهمه. غادرَ الجميع المكان، وبقيت الشرطة الثانية، استوقفني هؤلاء رجال شرطة الكلاب قليلا ريثما حضرت سيارة أخرى، وطلبوا مني أن أرافقهم إلى مركز الشرطة كي أقدّم إفادة بالحادث، أركبوني في السيارة التي حضرت للتو، وإذا بهم قد عثروا على الكلب المصاب، وأجلسوه مكبّلا على نفس المقعد الذي سأجلس عليه. كانت عينه ملفوفة بقطعة قماش، وفمه الكبير مغطّى بشبكة حماية بلاستيكية، شعرت بقلق وخوف ما، ليس من الكلب ومن هجوم محتمل عَليّ، وإنما من تهمة قد تُوَجّه إليّ بسبب هذا الذي حدث. أنزلوا الكلب عند بوابة العيادة البيطرية، ثم جلبوني إلى هنا. بدا لي أن الكلب مُدرّب على مثل هذه الأمور، فهو يركز على هدفه، ولا يهرب من الحجارة. [ويبدو أن مصطفى مُدرَّبٌ جيدا على تحويل المنطوق إلى مكتوب في جهاز الحاسوب]
انتهت الإفادة مع الاحترام ...
التوقيع: فلان فلان الفلاني: حاصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية، وأبحث عن عمل في إسرائيل".
سلّمتُ الورقة للموظف العربي مصطفى، أخذها وأخذني إلى غرفة الضابط، استدعى مئير رجلين اثنين من الموظفين هناك، وبدأ مصطفى يترجم لهم ما كتبته، أنصتوا وكانوا يبتسمون بعض الأحيان، ثم دار نقاش طويل بينهم، ويبدو أنهم اتفقوا على شيء ما، وفي النهاية أشار مئير إلى مصطفى أن يصطحبني معه. وجلستُ في الشرفة المقابلة لمكتب مصطفى، مدة نصف ساعة، أدخّن سجائر العربي، وأشرب قهوة عِليت وآكل بسكوت عِليت. كانت أدخنتي تسرح وتمرح عبر الممرات، وتنفذ إلى الغرف، فكافأتني المراسلة الشرطية بعلبة تبغ من نوع (مارلبورو).
في غرفته طلب مصطفى مني أن أوقّع على مجموعة من الأوراق لإخلاء سبيلي، وفيها تبرئة لي من أيّة تهمة أو جرم يمكن أن يلحقه آل روخمان بي. رنّ الهاتف في مكتب مصطفى، وتحدّث شخص ما، مُدّة نصف دقيقة، وكانت إجابات مصطفى: "كين... كين ... بسيدر". ابتسم مصطفى، وقال: "أهل البنت آل صموئيل اتصلوا على مئير، وبتشكروك كتير... بحكولك تودا رَبا، وآل روخمان ما بدهم يقدموا شكوى ضدك".
ارتحتُ كثيرا لمصيري، وغضبتُ في سِرّي على اليمنيين هؤلاء بسبب ردّهم المبتذل. وسألتُ مصطفى عن مصير الكلب: "شو بدهم يعملوا فيه؟" فأخبرني أن طاقما طبّيّا اكتشفوا أن (لولو) يعاني من أزمة نفسية بسبب فقدانه لصديقته (نتاشا)، وأنه سيمكث في مصحّة الكلاب، وسيخضع لبرنامج علاج نفسي، وعندما يتعافى سيعود إلى البيت. آل روخمان هؤلاء يدّعون أن كلبهم لطيف جدا، ولم يكن ينوي إيذاء الفتاة شلوميت، وإنما أراد أن يلاطفها، فقد كان معتادا على ملاطفة الصديقة نتاشا كل صباح، وكثيرا ما كانت ابنتهم غولدا تصطحب لولو ونتاشا، ويتجولون معا في ذات المنطقة التي جرى فيها الحادث، أما (هبوعيل هشتاخيم = عامل الضفة) فقد قدّر الموقف خطأ، سامحه الله.
عندما كنتُ خارجا من المركز، وفي الساحة عند البوابة، قال لي رجل عربي، لا أدري إن كان مراجِعا أو مراجَعا، متّهِما أو متَّهَما، صحفيا أو محاميا، قال: "لو إنك يهودي كان بكرة بيكتبوا بالجريدة: إسرائيلي شجاع ينقذ حياة فتاة صغيرة من كلب ضالّ، بس بتعرف لو مات الكلب شو كان ممكن يكتبوا؟ فلسطيني يقتل كلبا وديعا في نتانيا". ضحك عربيّ آخر وقال: "الله سترك، كيف لو كان الكلب موظف وطالع ع الشغل؟ " انتا ما بتعرف إنو بعض الكلاب في إسرائيل لها شغل معروف، ورواتب عالية".
فتحي زيدان جوابرة
فتحي زيدان جوابرة - قصة قصيرة: أنا و(لولو) كلب آل روخمان