مصطفى معروفي - الوضوح والغموض في الكتابة

في مجموعة من الأعمال الأدبية والفكرية يصطدم القارئ ويفاجأ بانغلاق النص أمامه، انغلاق لا مبرر له ولا داعي إليه، فهو لا يعبر عن ثقافة الكاتب بقدر ما يعبر عن افتقار وعوز في الثقافة والرصيد اللغوي لديه، وهي الأدوات التي تجعل من التعبير عن فكرة أو قضية ما تعبيرا واضحا جليا.
الغموض إذا كان عن استيعاب للقضية المطروحة وقتل لكل جوانبها بحثا واستقصاء وتمحيصا فإنه يجعل من النص نصا مغلفا بغلاف (سحري)، لا تكاد النفس تشعر منه بالملل، فكلما قرأه المرء إلا وحدثته نفسه بقراءته ثانية، وفي كل مرة يخرج من النص بشيء جديد، فالنص هنا مثل النهر الذي لا يكف عن التدفق بالماء العذب. هذه هي الحال بالنسبة للأعمال العظيمة الحاملة لبذرة البقاء والخلود في أعماقها والبعيدة عن الضحالة والسطحية والإسفاف.
أما الإبهام، وهو غير الغموض، فما كان له أن يخدم قضية من القضايا أدبيا، والكاتب الذي يريد أن ينخرط في سلك خدمة القضايا الإنسانية عليه أن يتجنب حمل سلاح الغموض والإبهام ليخوض به غمار الكتابة.
إن أية قضية واضحة تريد أن يتم التعبير عنها بوضوح, وإلا فهي تكتفي بتوضيح نفسها دونما حاجة إلى كاتب يجعلها غامضة ومبهمة، فالغموض والإبهام يزيدانها تعقيدا واستعصاء على الفهم، والذين يتخذون من الإبهام مطية لا تستريح، خصوصا كتاب قصيدة النثر، يحاولون أن يعوضوا بذلك عن شعورهم بالنقص الذي يملك عليهم وجدانهم وإحساسهم، وأزعم أنهم يسعون في تعذيب القارئ بنصوصهم، وهم في الأخير لا يحصلون على أي تقدير من القارئ، ولو تجنبوا الإبهام لأعفوه من شعوره بالإشمئزاز والنفور، ولوضعوا أنفسهم في الأماكن التي تستحقها داخل حظيرة الأدب.
خدمة القضايا تتطلب الوضوح وتحتاج إليه، والكتابة المبهمة لا تساعد أبدا على أداء هذه الخدمة، فقد تقوم بخدمة معاكسة لقصد الكاتب منها، وذلك بنسف بناء القضية وهدمه هدما ربما لا قيام بعده.
وإذاً، لنكتب بكل وضوح، فبذلك نريح القارئ من البحث والتنقيب وراء المعميات، ونخدم الأطروحة التي ندافع عنها.

تعليقات

اخي السي مصطفى معروفي تحية الود الدائم
هناك عدة فرضيات تحيط بالنص الأدبي تراوح بين الوضوح والتجلي، والغموض والابهام والخفاء، وهي ظواهر تتعلق بمستوى المتلقي، وبذائقته او (ضائقته) الادبية، فالقارىء الكسول الذي لا يحتمل شغل روحه بالتدقيق والقراءة المتأنية سرعان ما ينصرف عن النص المنغلق، او النصوص الاكثر طولا، موثرا عنها النصوص الاسهل، و الأقل طولا او القصيرة جدا، الشيء الذي جعل سوق السرد الوجيز الخالي من مذاق القص، أو الشعر الشذري، او ما يسمى بالهايكو العربي -الذي ينأى عن عناصر الطبيعة كما سنها باشو- المفتقد لنكهة الشعر ورونقه أكثر رواجا بين بعض المتأدبين.. مما يدفع ببعض ممن يحاولون الهروب من الغموض الى الوقوع فيه..
واشكالية الغموض والوضوح مطروحة منذ القدم، مثل مقولتي أعذب الشعر أكذبه واعذب الشعر أصدقه التي لا نعرف حقيقة قائلها، وتبقى الحقيقة مفقودة بين الكذب والصدق، وقد ورد في العمدة ومصادر أخرى من كتب التراث العربي أن أحد حاسدي الشاعر ابي تمام في مجلس الخليفة المتوكل خاطبه قائلا: (يا أبا تمام، لم لا تقول من الشعر ما يفهم؟ فقال له: وأنت لم لا تفهم من الشعر ما يقال؟)
 
تحية طيبة لك السي المهدي
شكرا جزيلا لك على التعقيب الكريم وأقول:
الغموض الذي يفضي إلى التعتيم لا يستفيد مه صاحبه بالأساس،ولا يستفيد منه حتى القارئ.
معك حق السي المهدي فحتى الشعر القديم لا يسلم من الغموض ومن الكذب أيضا،ولكن ألا ترى معي أن الشاعر من وراء ذاك "الغموض"ومن وراء ذاك"الكذب"هو يعبر ـ وهنا المفارقة ـ عن حقيقة يراها هو ،وتوصل إلى التعبير عنها بركوب المجازفانظر مثلا قول بشار:
إذا ما غضــــبنـــــا غـــــضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو تسقطَ الدما
لا نقول هنا بأن بشارا كاذب وإنما هو صادق في عاطفته وقد عبر عن شجاعة قومه بطريقة شعرية رائعة.فهمنا نحن القراء منها ما يريد أن يخبرنا به.
بالنسبة للبحتري فلو عاش عصرنا هذا ورأى ما رأيناه وما زلنا نراه وكيف أن الشعر كل يذهبون به إلى المجزرة لكف عن قرض الشعر .
ومحبات وافرات مولانا.
 
أعلى